الناصرة- “القدس العربي”:
عشية انتهاء العام الجاري، أعادت منظمة حقوقية إسرائيلية نشر بعض أرشيفاتها التي تكشف عن بشاعة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وتحت عنوان “العنف وطمسه.. دي إن إيه الاحتلال الإسرائيلي” استعرضت تفاصيل عشرات الجرائم منذ 1989.
وتوضح منظمة “بتسيلم” للدفاع عن حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 أنها في عام 2016 قرّرت بعد تجربة 25 عاماً ومئات الملفات وقف التعاون مع جهاز الطمس الإسرائيلي. وتضيف: “منذ ذلك الحين لم نتوجه إلى السلطات الإسرائيليّة بطلب التحقيق في أحداث قُتل أو أصيب فيها فلسطينيون من المناطق المحتلة”. ومن هذه المآسي ما حصل مع عائشة أبو لبن (70 عاما) والدة رفيدة أبو لبن التي قتلها جندي من جيش الاحتلال عام 1989 وهي ابنة 13 عاماً، ولكنها لن تنسى ذلك اليوم إلى الأبد. وقتها زعم الناطق بلسان جيش الاحتلال أنه لم تكن هناك علاقة بين موت الطفلة ونشاط الجيش في المنطقة.
واستشهدت رفيدة من مخيم الدهيشة للاجئين وهي عائدة إلى منزلها بعد أن شاركت في جنازة فتى آخر من المخيم أرداه الجنود قتيلاً في اليوم السابق ويُدعى ناصر القصاص (16 عاماً). ثلاثون عاماً وحكمة واحدة تلخّصها الأم الثكلى بالقول: “إن كان حاكمك ظالمك تشكي أمرك لمين؟”.
وتتابع “بتسيلم” استعراض سجل الوجع الفلسطيني بالقول: “بعد مضي 12 سنة في مخيم لاجئين آخر، هذه المرّة مخيّم نور شمس – وطفلتان شقيقتان تصابان من قذيفة إسرائيلية وهما داخل منزلهما: حنان (11 عاماً) وإيمان (8 أعوام). والدتهما نجاح أبو شعلة خافت من الدبابات التي طوّقت المخيم مثل جميع الأمهات. عندما اشتدّ إطلاق النّار جمعت الأم أسرتها في أكثر الأماكن أماناً في منزلهم: الدرج المؤدي إلى السطح. وعندها سقطت القذيفة. نُقلت إيمان إلى مستشفًى في القدس المحتلة لكن والدتها نجاح لم تتمكّن من مرافقتها لأنّه لم يكن في حوزتها تصريح دخول إلى المدينة. مضت بضعة أشهر وكان على الطفلة إيمان أن تخضع لعملية جراحية في الأردن لإزالة شظايا القذيفة على أن يرافقها والدها. ولكن الوالد استشهد قبل موعد السفر إلى الأردن بأسابيع قليلة. أرداه الجنود قتيلاً بنيرانهم في حاجز عنبتا حين كان عائداً من عمله”.
خان يونس
قبل ذلك بتسع سنوات في خان يونس، قتل جنود برصاصهم الطفل نعيم أبو آمنة. كان نعيم في الثالثة من عمره، بيد أن جيش الاحتلال الذي طالما يدعي أنه يحقق مع جنوده ويعاقب المخالفين رافضا تدخل محكمة الجنايات الدولية، قرّر عدم اتخاذ إجراءات قضائية ضد من أطلقوا النّار. بعد مضي 27 عاما تتذكر والدته أسمهان أن طفلها كان يقول لها دائماً “أنا قويّ”.. لم يخطر ببالها أبدا أنها ستعيش من دون ابنها البكر، فرحتها الأولى.
أما مريم أبو نجم فقد ترمّلت من زوجها بلال في صيف 2014 في القصف الذي طال منزلها داخل مخيم جباليا للاجئين، حيث استشهد أيضاً والد زوجها وجده وشقيقاه. استشهد ثلاثة آخرون من الجيران من بينهم الطفلة رغد (3 أعوام) والفتاة شيماء (14 عاماً). وزعم جيش الاحتلال أنه قد تم الاستهداف ضمن المحافظة على مبدأ التناسبية، حيث إنه لدى اتخاذ قرار الهجوم كانت التقديرات أن حجم الضرر المتوقّع لن يكون مبالغاً فيه نسبة إلى الفائدة العسكرية المتوقع كسبُها منه. وأصيبت فوزيّة أبو نجم حماة مريم بجراح بليغة جراء قصف 2014. وقبل ذلك بسنوات عدّة أثناء “جولة” قصف أخرى للقطاع شنّتها إسرائيل في 2008 قُصف منزل والدا فوزيّة واستشهد جراءه 11 من أفراد أسرتها.
خجل الأب من أبنائه
وتتابع “بتسيلم”: “عودة إلى العام 1991 إلى الضفّة الغربية في قرية بيت ريما. محمد البرغوثي شاب في الـ23 من عمره يجلس عند مدخل منزله. يعاني محمد قصوراً عقلياً في أعقاب مرض التهاب السحايا الذي ألمّ به في طفولته. جاء جنود ولم يفر محمد من وجههم آنذاك، لكنه اليوم في أعقاب الصدمة النفسية التي خلفوها لديه أصبح يلوذ بالفرار مذعوراً بمجرد سماعه عن وجود الجيش في القرية.
بعد مضي سنوات ست وفي مكان آخر وفلسطيني آخر: مجموعة من عناصر شرطة حرس الحدود تعتدي على جمال سُكّر من مخيم الدهيشة للاجئين. جمال اليوم ما زال يذكر ما حدث وما زال يعاني أوجاعاً في ساقه ولكنه لم يحدث أولاده أبداً عن ذلك إلى اليوم. لماذا؟ كي لا يورثهم الحقد والغضب اللذين يتأججان داخله. وقتها قال جيش الاحتلال إنه قرّر إغلاق الملفّ لعدم تمكنه من العثور على المشتبه به في ارتكاب المخالفة”.
“بتّ أكره الأعياد”، تقول منى أبو محسن. لقد مضت 17 عاماً على استشهاد ابنها نضال ولا تزال تذكر استشهاده وكأنه حدث أمس وينقبض قلبها قبل مجيء كل عيد. في عام 2002 في مدينة طوباس استخدم جنود ابنها كدرع بشري. وزعم جيش الاحتلال مبررا جريمته بالقول: “لم يقدّروا أن استعانتهم بالسيد أبو محسن سوف تعرض حياته للخطر”. وبعد ثلاث سنوات وفي المدينة نفسها، لكنّها في هذه المرة شهرزاد أبو محسن التي ثكلت أصغر أبنائها صلاح الدين وهو في الـ14 من عمره. أرداه الجنود قتيلاً بنيرانهم حين كان يلعب مع أصدقائه بمسدسات بلاستيكية. عندما سافرت شهرزاد إلى مكة لأداء فريضة الحج شاهدت رؤيا: رأت ابنها صلاح الدين يطوف حول الكعبة بملابس العيد التي كان يرتديها حين استشهد.
هديل غبن
ويتضمن تقرير “بتسيلم” مأساة الطفلة هديل غبن من بيت لاهيا في قطاع غزّة، التي كانت تحبّ مشاهدة الرسوم المتحركة. عندما كانت في الـ7 من عمرها سقطت قذيفة مدفعية إسرائيلية وسط صالون منزلها فقتلتها. بعد مضي 13 عاماً لا يزال أفراد الأسرة الناجون من القصف يعيشون مع شظايا الصاروخ في أجسادهم المليئة بالندوب كما أرواحهم. مرة أخرى في بيت لاهيا ولكن في بداية عام 2009، إنّها قذائف الفوسفور، ستّة من أفراد عائلة أبو حليمة استشهدوا حرقاً من بينهم شهد الطفلة الرضيعة التي لم تتجاوز سنتها الأولى. نُقل الجرحى إلى المستشفيات على عربة تراكتور وفي الطريق أطلق جنود النيران عليهم وقتلوا اثنين آخرين من أفراد العائلة وهنا أيضا أغلق الجيش ملف التحقيق.
في حلحول
قبل أسبوع واحد من استشهاده بنيران جنود غربي بلدة حلحول في عام 1994 اصطحب عماد بكر أمه وأباه وعدداً من إخوته وأخواته في رحلة إلى البحر الميت. بعد استشهاده أطلق اسمه على مواليد العائلة، على ابن شقيقته وابن شقيقه. كذلك رمزي أبو عمشة خلّد بالطريقة نفسها ذكر أخيه يوسف الذي قتله جنود برصاصهم في عام 1995 وهو في الـ19 من عمره. أطلق الجنود النيران على يوسف حين كان ينبش مجمع نفايات المستوطنات في شمال قطاع غزة باحثاً عن قطع نحاس وألومنيوم لكي يبيعها. لم تنته بذلك معاناة عائلة أبو عمشة. في عام 2003 هدم الجيش منزلها وفي صيف 2014 استشهد الوالد وزوجته الثانية في قصف إسرائيلي. وقال الناطق بلسان جيش الاحتلال وقتها: “بعد النظر في مواد التحقيق قرّر وكيل نيابة المنطقة الجنوبية في الرأي الذي قدّمه بعد أن صادق عليه وكيل عام النيابة العسكرية إحالة ضابط وجندي متورطين في الحادثة إلى محاكمة تأديبية”.
صابر أبو الروس
في عام 1998 كان صابر أبو الروس، المقيم في مخيم قلنديا للاجئين، شاباً في الـ21 من عمره. حينذاك خجل صابر أن يذكر أمام باحث “بتسيلم” الميداني جميع تفاصيل الضرب والتنكيل اللذين تعرّض لهما، ولكنه اليوم وهو في الـ40 من عمره يتحدّث بصراحة عن الألم النفسي الذي أصبح جزءاً دائماً من حياته: “حتى يومنا هذا أنا لا أتحمل مشاهدة الأفلام التي تحتوي العنف أو تقارير إخباريّة عن الأحداث المتعلقة بالجيش الإسرائيلي رغم أنه يتوجّب على كل فلسطيني أن يكون على دراية بما يجري من حوله”.
عن ذلك قال الناطق العسكري: “تم إغلاق الملفّ بعد التحقيق لعدم وجود أدلة”. ومثله أمين حمدان الذي يخاف حتى اليوم من كل شيء له صِلة بالجيش أو الشرطة الإسرائيلية. قبل 16 عاماً اعتدى عليه جنود بالضرب عند حاجز عين عريك أمام عدسات وسائل الإعلام في حادثة أثارت ضجة عالمية. في اليوم التالي على الحاجز نفسه منعه الجنود أنفسهم من مواصلة طريقه إلى المستشفى. لم يتمكن أمين من تلقي العلاج إلا بعد مضي ثلاثة أيّام على الضرب الذي أدى إلى كسور في فكه وأضلُعه. طوال أشهر بعد ذلك كان مع كل حركة يأتيها يحس كأنّ سكاكين تنغرز في جسده إلى أن شُفيت الكسور في أضلُعه. وكانت تلك السكاكين تنشب نصالها فيه أيضاً كلّما سأله ابنه الصّغير مستغرباً: “يا أبي، كيف سمحت لهم أن يفعلوا بك هذا؟”. في رده على ذلك قال جيش الاحتلال: “لم نجد الملف”.
لم نجد أدلة كافية
بعد أن مضت 12 عاماً على استشهاد الوالد برصاص جنود أطلقوه عن بُعد في 2004، قرّرت الابنة بيان حجازي المقيمة في رفح أن تعمل بنصيحة والدها المرحوم الدكتور سمير حجازي فتسجلت للدراسة في كلية الطب. قبل ذلك بخمس سنوات في مكان آخر في قطاع غزّة جنود آخرون يطلقون نيرانهم. هذه المرة على صيادين. سعيد البردويل ومحمد الشريف المقيمان في مخيم خانيونس للاجئين كانا على متن قارب صيد لهما وأصيبا بنيران الجنود. “لم يطلبوا منا شيئاً ولم يقولوا أيّ شيء حتى أنهم لم يشتمونا. فقط أطلقوا الرصاص علينا”.
لكنهم شتموا مدحت الشويكي وهُم يشبعونه ضرباً. في عام 2000 كان مدحت في الـ23 من عمره حين ارتأى جندي أنه “يتواقح”. الضرب المبرح الذي تعرض له مدحت استدعى معالجته في المستشفى، بعد ساعات على ضربه وهناك هدّده عناصر الشرطة باعتقاله. وبقيت الندوب في الجسد والنفس التي استوطنها الاكتئاب. وجاء من سلطات الاحتلال وفق تأكيد “بتسيلم” أنه “تقرر عدم محاكمة الشرطيّ لعدم كفاية الأدلّة”.