للسرد مناحٍ ومسارات كما له مدارس واتجاهات، ينتقي منها الكتّاب في مرحلة زمنية معينة وضمن بوتقة مكانية محددة، ما يرونه يلائم توجهاتهم السردية، ويوائم طبيعة واقعهم ومتغيراته وأزماته. وأي كاتب يشتط عن هذه الانتقائية سردياً ويتمظــــهر خــارج إطار هذه الملاءمة والمواءمة، هو بمثابة مغرد خارج السرب.
وليس سهلاً على القاص أن يغرد خارج السرب وهو يختط لنفسه نهجاً سردياً، يجرب فيه آفاقاً واتجاهاتٍ تخالف السائد السردي، متمترساً فيها لوحده، إلا إذا كان اختياره قد بُني على رؤى واعية، وارتكز على قواعد، تجعله يسير سيراً مواظباً، لكنه متأنٍ، فلا ينحرف عنه ولا يحيد، كي يثبت إبداعية خطه، وكي لا يقع في التكرارية ولا يسقط في التردادية.
وعلى الرغم من أن كل قصصه ستكون منتهجة هذا الخط نفسه، فإنها تظل متسمة بالجدة والابتكار، في كل مرة يمارس فيها القاص كتابتها.
هذا ما نجده واضحاً بقوة عند القاص منير عبد الأمير، الذي تجسدت في قصصه القصيرة سمة الانتهاج المحدد للون من ألوان السرد وهو (الخيال العلمي) بوصفه موئلاً إبداعياً للكتابة السردية، عليه واظب القاص، وفيه انغمس، وبه واصل، لتكون تجربته القصصية عبر عقود من الزمن، تجربة رائدة في هذا المجال، تستحق الإشادة والثناء؛ بيد أن النقد العراقي لم يلتفت إلى هذه الإبداعية القصصية، تاركا هذه التجربة تمرّ باهمال من دون أن يوليها أي اهتمام.
ومعروف أنّ الخيال العلمي قوة تخييلية، تمنح القاص والروائي مساحات للسياحة العلمية، الممزوجة بالروح الخيالية. ومن هذا الامتزاج يتولد سرد مستقبلي يحلق في المجرات والكواكب، ويسافر عبر الزمن، ويستغور كيانات غريبة، فيرى فيها العجائب، ويذهب إلى عوالم مجهولة ميتافيزيقية فيأتينا منها بالغرائب، داخلا مخابر الفيزياء، ومستجليا عالم الحواسيب ومستكنها أسرار وخفايا الأحياء والأموات، وغير ذلك كثير مما يمكن لقصة الخيال العلمي أن تجمع فيه العلم بالخيال الذي فيه تكمن جمالية السرد وإمتاعيته.
وللتلاقي بين العلم والخيال رؤى وتصورات فلسفية، فهيغل يرى أن الفن وإن لم يكن أرقى أشكال الروح، فإنه لا يتلقى تكريسه الحقيقي إلا في العلم، وبأسباب جديدة تبرر تطبيق وجهة نظر الفكر على الفن، التي تنبع من مستوى ثقافتنا وشكلها. والسؤال هنا ما الذي يحمل أديباً ما على اختيار خط حاد عنه الآخرون، أو تركوه ليأتي هو ويرهن تجربته كلها بالخيال العلمي جامعا الفن بالعلم، علماً أن للكاتب رصيداً إبداعياً محموداً في السرد الواقعي ومنه روايته «رجلان على السلالم»، وله ترجمات في القصة والرواية والنقد التشكيلي؟ إن لكل أديب طاقة إبداعية مصدرها الثقافة بمعطياتها النظرية والعملية. ومن دلائل الثقافة العالية التمكن من فهم نظريات علمية، والإلمام المناسب بتجارب مختبرية وحسابات بحثية وتخمينات منطقية، تجعل مخيلته ترتقي على حدود المتعارف الواقعي إلى ميادين الاختلاف المعرفي. وارتقاء المخيلة لا يعني أن الأديب سيقف على اليوتوبيا، مجلياً ببصره رؤى علمية لم تخطر على بال أحد، متنفساً في فسحة عقلية كافية وحسب؛ بل يجد فيها أيضا مأوى ذا فيض نوراني خاص، منه يمتح المزيد من الأفكار الخلابة الصافية، التي فيها يرتهن مصير البشرية ومستقبلها على هذه الأرض.
وقد داوم منير عبد الأمير على توظيف الخيال العلمي، مستثمراً المخيلة استثماراً علمياً إبداعياً، وعلى طول تجربته القصصية التي غدت فريدة في هذا المجال، وقلَّ أن نجد لها نظيراً قصصياً. وهو في مراوحته في ميدان الخيال العلمي؛ لم يكرر نفسه، بل اتخذ من المعاودة صيرورة بها تتنوع تجربته. ولم يفتنه في الخيال العلمي موضوع مثل موضوع السفر عبر الزمن والرجوع من الموت، أو الذهاب للفضاء. وعادة ما يكون الهدف من السفر هو الحب. ليشكل هذان الموضوعان (الموت والحب) ثنائية غائية، حولهما يتمحور الخيال العلمي. فالموت هو التفكير الموضوعي في الحياة، التي لا تتوقف بالموت، الذي هو ومنذ دينوزيوس رؤية وأفق خطاب ـ كما يرى كيركغارد ـ وبه يتم إدراك الهوة بين الوجود الإنساني والوجود الإلهي، وبعبور هذه الهوة يتم الوصول إلى الحقيقة. وما بين الموت والحب تتحقق المعجزات والعجائب، عبر السفر في الفضاءات كرنولوجيا بطريقتين:
الطريقة الأولى/ محو الماضي واستنتاج التناقض في قوانين المنطق، كما في قصة (الأبدية) المنشورة في العدد السابع من مجلة «الأقلام» عام 1971 التي تبدأ بطريقة تتابعية «لقد دفن في صمت.. وهو الميت كان راقدا على ظهره في هدوء هناك، والظلام لا يقطعه غير مكعب النور المسكوب من فوهة المقبرة»، وتتعقد حبكة القصة حين يمتزج الموت بالحب، وهو ما يحمل الميت على ترك القبر قاصداً بيته وأهله «وجد نفسه ينهض في هدوء، وهو يتصور نفسه يخرج من المقبرة». وفي هذه النقطة توظف المخيلة العلمية، ويأخذ التفكير العلمي بالاندماج بالخيال السردي، فيظهر الميت في هيأته الواقعية بصورة شبحية، «كان نصفه لامعاً مضاءً بجانب واحد من المصابيح والجانب الآخر بقي أسود حتى نقطة التلاشي، وكان وقع خطاه على الإسفلت بدون صوت مسموع، فالقماش ملفوف بإحكام حول قدميه ورجليه ولم يشعر بحاجة إلى تغيير شيء، سوى أنه رفع كفه في وقتها ليزيح القماش قليلا عن عينيه وأنفه».
والتفكير جعل الميت واعياً للصيغة الفيلمية التي بها بدا لأهله «وبدا هو بجسمه الملفوف ورأسه الطريف، كأنه مومياء على شاشة فيلم سينمائي متخيل مصور بالرمادي والأبيض والأزرق»، لتكون خاتمة القصة منطقية وقد عاد إلى قبره، وهو يعرف أن لا مفر له ولا لأهله من القبول بالواقعين الحياتي الفوقي والمماتي التحتي.
والرؤية نفسها نجدها في قصة «انتصار» المنشورة في العدد التاسع عشر من مجلة «كتابات معاصرة» عام 1993 وفيها الميت هذه المرة امرأة تربطها بالسارد علاقة حب. وتبدأ القصة من النهاية، حيث المرأة ميتة انتحارا «ها هو جسدها الجميل على المنضدة الطويلة الصقيلة تغطيه عباءتها الناعمة اللامعة، رائحة الموت خفيفة جدا، ولكن عطر الحياة قوي جدا ينبعث من عباءتها تلك». وباسترجاع السارد لزمن سابق على زمن القصة يتبين أن في الموت الحياة، وفي الإصرار عليه معرفة لما بعده وهو الحياة، «كان وجودي دون رغبتي واختياري ومعرفتي.. لم تكن لديّ سوى أمنية واحدة وهي أن أموت في تلك اللحظة»، وهكذا كان قرارها في إلقاء نفسها في البئر تعبيرا عن انتصارها، الذي يحيلنا على عنوان القصة الذي فيه تركزت الثيمة.
الطريقة الثانية/ الذهاب إلى المستقبل والعودة إلى الحاضر، وفق فرضية بعد كونية رباعية الأبعاد زمكانية، بها يستبدل الموت بالحضور والحب بالغياب توقفا عند لحظة سردية لا ترتهن بالمحتمل، وإنما تنغمس في المستحيل داخل عالم افتراضي خارق وغير طبيعي. وهو ما تجسده قصة «الطائر الجميل» المنشورة في العدد 287 من مجلة «البيان» الكويتية عام 1990، وفيها يقطع كائنان فضائيان الكواكب ليهبطا ـ كل واحد على حدة ـ على الأرض، منفرداً وهو يبحث عن رفيق حبيب، فأما هي فـ»جاءت في صحن طائر وردي اللون.. ولم تدرك كيف ارتطم الطبق الطائر بالأرض، لقد أغمي عليها ولما عادت إلى وعيها كانت قد فقدت ذاكرتها». أما هو فهبط بصحنه الطائر وتجول وهو ينشد لحنا بصوت جميل، كعاشق أبدي يبحث عن امرأة. وتتعقد الحبكة باستمرار الكائن الفضائي تجواله وهو غير مبال بالبشر، الذين ظنوا به سوءا «كان الاتصال قد تم فورا بالمركز السري لوزارة الدفاع العالمية في كوكب الأرض، وأبلغ عن الظاهرة الغريبة هذه». والمفارقة أن القضاء بالأسلحة على هذا الكائن غير ممكن، فهو ذو إرادة عجيبة تجعله يصر على اللامبالاة إزاء أي هجوم يشن عليه، وهو مندمج بصورة غريبة في عالمه الحالم. ويدعوه البشر إلى لقاء حي فيظهر على الشاشة البلورية، وهو يسرد حلمه الذي فيه شاهد امرأة تقود طبقا طائرا جميلة بملابس العرس «إنها تطوف بالطبق وكأنها طائر جميل يحوم قبل أن يهبط بعذوبة عند الهدف إنه هو الهدف».
وتنفرج أحداث القصة بدخول الكائن الفضائي إلى مستشفى سري ليلفت انتباهه «في إحدى غرفه البيضاء الأنيقة فتاة في سرير توقف عن الغناء لحظات.. اختلج قلبه بعنف.. فها هي امرأة أحلامه أمامه، سألته من أي كوكب أنت» فأجابها: كوكب رقم 2 من اللانهاية وأنت؟ من كوكب رقم 1 من اللانهاية». وتنتهي القصة وقد ركبا في الصحن الطائر وهما يغنيان أنشودة الحب ويبتعدان عن الكرة الأرضية. في إشارة إلى أن الحياة خارج كوكب الأرض أبسط وأكثر براءة من الحياة عليها، والسبب الشر الذي دمر البراءة والطيبة، وأحل محلهما الأطماع والعدوان، لتكون في الشر النهاية التي بها تدمر البشرية نفسها بنفسها، بينما في الحب اللانهاية التي بها ستحيا البشرية إلى الأبد بسلام.
وهذه هي الصيرورة التي قصد بها سورين كيركغارد الدلالة على لايقينية الحياة الأرضية، التي فيها كل شيء غير مؤكد، في حدود زمانية اللحظة التي فيها نتخيل الأسى الواقعي للوجود الإنساني بالعموم.
٭ كاتبة من العراق