من أرسطو إلى إزرا باوند وريلكه: خطاب النصيحة الشعرية بين الهيمنة والتنظير

حاتم الصكَر
حجم الخط
0

1

ينطوي النصح تربوياً وسيكولوجياً، أياً كان تواضع الناصح، على أمر استعلائي: ففي مقام النصيحة، وما تتضمنه الوصية يرِد القول بلزوم الفعل والترك، والتوجيه بغير اختيار. فيبدو الناصح مطلاً من الأعلى ليوجّه المنصوح بما يظنه تجربة نافعة. لا يخلو الأمر من شعور بالتفوق في الحياة: الكبير لكبره، والقديم لقِدمه. وسنرى أن الأمر كذلك في الشعر أيضا، وما يتصل به رؤيةَ وتجربةً وكتابة.
يتخذ النصح هيئة محددة كخطاب، وتظهر النصيحة كصيغ نصية، وتراكيبها اللغوية كبنية سائدة في ثنايا الخطاب المتمركز في (افعل ولا تفعل) وتنويعاتهما الممكنة. وأياً ما وردت النصيحة تحته من مسمَّيات؛ كالرسالة والوصية والإرشادات وما يتفرع عنها، فسوف يظل لها ذلك التأويل بالكِبر، والإيحاء بالتعالي والتعليم. وضمنياً سيظهر تفوق القديم – الأصل على الجديد – الفرع. ويبدو الكبار كأوصياء والشباب كموصّى عليهم، وتتجلى ثنائية الشيوخ/الشباب التي تتنوع عليها وتمتد من ظلالها. وسيكشف فحص مفردات الوصايا عن هيمنة الخطاب من خلال تكرار تراكيب؛ مثل يجب وينبغي وعليك ولا يجوز وتجنب ولا تستخدم.. وما يماثلها.
يحاول بعض الناصحين في الكتابة – وأخص الشعرية منها – أن يلطفوا من تلك الهيمنة التي تفرضها طبيعة الوصية. فالشاعر الكبير يقدم نصائحه بهيئة سيرة ثقافية ذاتية، محفوفةً بما له من رصيد في الكتابة، وما اشتُهر به من أعمال يريد الشباب أن يستخلصوا منها كنصوص وليس كدروس، عُدَّة لهم في خطواتهم نحو مستقبلهم الشعري.
وامتدادا ً من هذا الموقع يرسل الكبار ما يرونه خطابهم المفعم بإشارات خفيَّة إلى منهجهم الشعري، والقواعد التي يؤمنون بها في الأساليب والرؤى والثقافة الشعرية والمؤثرات، فتظهر وكأنها منهج مقترح للكتابة الشعرية عامة.

2

للنصح الشعري تاريخ قديم في ذاكرة النظرية النقدية، يبدأ مع أرسطو في «فن الشعر» – كما عنونتْه الترجمات العربية – حيث يخصص فصلاً ينص فيه على ما (يجب) أن يفعله الشاعر الدرامي. ويسميها شرّاح أرسطو: نصائح وإرشادات، رغم أن أرسطو في مواضع كثيرة يبين ما يراه نظرياً أفضل الطرق للكتابة، لكنه في تلك المواضع ناقد، وليس ناصحاً.
يبدأ الفصل السابع عشر الموجّه للشاعر الدرامي بالفعل (ينبغي) الذي يشير إلى ضرورة فعل الشيء بما يشبه الأمر: (ينبغي على الشاعر الدرامي – عند بناء حبكته الدرامية، ووضعها في لغتها المناسبة – مراعاة: تخيل الوقائع وعواطف الشاعر ورسم الهيكل العام..). ويوجز عرض كل منها.
كما ينهي الفصل بتكرار الأمر بالقول: بعد أن يفرغ الشاعر من هذه التخطيطة.. يبقى عليه بعد ذلك…، ويواصل استكمال النصائح في الفصل الثامن عشر مضيفاً أمراً آخر (يجب) على شاعر التراجيديا الدرامي أن يضعه في الاعتبار هو تضمين المسرحية عنصرَيْ التعقيد والحل، و(ينبغي) على الشاعر جمع العناصر المهمة، ومعالجة كل جزء بطول مناسب، و(ينبغي) اعتبار الجوقة واحداً من الممثلين.
ولا شك أن نظرية أرسطو في الكتاب تتبين في ما يقرره بصياغة نقدية نظرية وتطبيقية تستعين بالأمثلة خارج إطار النصائح والوصايا. كقوله إن مهمة الشاعر ليست رواية ما وقع فعلاً، بل ما يمكن أن يقع احتمالاً أو حتماً.
لكنه في نصيحة جانبية، تبدأ بالفعل (ينبغي) أيضاً، ينصح بأن يؤثر الشاعرُ المستحيلَ المحتمل على الممكن غير المحتمل من الأحداث والوقائع. ولعل الانعطاف من التنظير إلى النصح بالوجوب، يعكس تشديد أرسطو على التخييل، ودعوته إلى مقاربة المستحيلات دون الركون إلى الممكنات.
وعلى خطى أرسطو وبتأثير من كتابه، يؤلف هوراس كتاباً مختلف الأسلوب في التعاليم والنصائح للشعراء، وضع له النقاد عنوان «فن الشعر» احتكاماً إلى موضوعه وما يتناول من قضايا، يرى هوراس أنها مما يجب أن تتوفر عليها الأشعار، وهي في الأصل رسالة شعرية إلى آل بيزو، يشرح لهم فيها باقتضاب تلك القواعد.
وهي لا ترقى إلى ما كتب أرسطو حتماً، وكما يرى لويس عوض مترجم الرسالة إلى العربية عام 1938 فإن طاقة النص على التأثير أضيق من طاقة كتاب أرسطو، ويصفه بأنه مفكك الأجزاء، لأنه يتناول عدة قضايا يتنقل بينها، وإن احتوت على قواعد مهمة في قضايا مثل قيمة الشعر ووظيفته، ومصدره، والدراما وأصولها وتلقيها، والصناعة أو الحرفة والإلهام؛ وسواها من الموضوعات. لكن أسلوب خطابه يؤكد تلك الهيمنة الأبوية بعبارات ترسل أحكاماً كبيرة مثل:
(اقتفِ أثر السلف أو فلتبتكر شيئاً متجانس الأطراف، وإني لأنصح الفنان أن يتخذ من الحياة أنموذجاً..).
(اصغِ إلى ما أتوقعه ويتوقعه الناس معي لو شئت أن يحبك الناس…انبغى عليك أن تلم بكل مرحلة من مراحل العمر).
تلك أمثلة مما جاء أمراً أو نهياً، وإن اشتمل على قواعد جمالية وفنية عالية القيمة.
والطريف أن لويس عوض بعد كل ما بذل من جهد في الترجمة، وما كتبه تصديراً وتقديماً وشروحاً، ينهي كتابه بوصية مضادة لقارئه، بالقول: «أيها القارئ والكاتب إن كان لابد أن تحيا في ظل أحد، فلخيرٌ لك أن تعيش في ظل شيكسبير وبيرون، من أن تعيش في ظل هوراس وجندي مهزوم». فمن حيث انتفض على من يكونوا ظلاً لسواهم، نصح القارئ الكاتب أن يكون عند الضرورة، ظلاً لشيكسبير وبيرون!

3

تتسم وصايا المحدثين بالتخفف من الهيمنة قليلاً، وتأخذ سمتاً عصرياً يحاول أن يتخلى عن تلك النبرة الأبوية الصارمة والفخامة الكلاسيكية، ويتضمن ما هو قريب من واقع الشعر وتحولات الكتابة، لكن دون التخلي عن إملاء وجهات النظر.
ولعل تلك الملاحظة تجد مصداقيتها في وصايا إزرا باوند العشر في الشعر والصورة الشعرية، فرغم تمرد باوند ومشاكساته في السياسة والأدب، بدا مهيمناً بخطاب تكشفه مفردات وصاياه العشر التي لا تخلو إحداها من أفعال تتضمن الأمر والنهي مثل (يجب عدم الالتفات إلى النقد الصادر من أشخاص لم يسبق لهم أن أنتجوا أعمالا جليلة) و(لا تستخدم كلماتٍ سطحية المعنى) وسواها من التراكيب التي تحتشد بها الوصايا التي تبدأ غالباً بـ(تجنّب، تعلّم، لا تهتم، لا تخشَ، اجعل، ابتعد، يجب، انظر، لا تظن..). بل يتكرر أحياناً فعلان أو صيغتان لطلب الفعل أو تجنبه في وصية واحدة. وتنطوي على جموح تتميز به شخصية باوند. وليس من عيوبه هو أن يكون خطاب وصاياه بتلك الصيغة النسقية، لأنه ينصاع للخطاب ذاته كما استقر في شعرية كتابة الوصايا والنصائح والتعاليم.
وذلك ما لا نلمحه في «رسائل إلى شاعر شاب» لريلكه. فهو يبدأ بنفي أن يكون لأحد سوى المخاطب الشاب نفسه أن ينصح أو يساعد. وبديلاً عن ذلك يبدأ ريلكه بالنصح، فيقترح أن يتأمل الشاعر الشاب ذاتَه، لكي يجد الباعث الذي يحثّه ويلهمه: «ليس بوسعِ أحدٍ أن ينصحك ويساعدك، لا أحد. لا توجد إلا وسيلة واحدة: عليك بسبر أغوار ذاتك، عليك بالبحث فى السبب الذي يدفعك إلى الكتابة..».
ولا شك أن هذا اليقين يتعزز بما قوم به ريلكه نفسه في قصائده ورؤيته للشعر، مع ملاحظة الصيغ الطلبية أيضاً. فهي تأتي من طبيعة استخدام الخطاب، ومقام التلقي حيث المقصود بالرسائل شاعر شاب، هو ضابط أيضاً. وربما كان لهذا أثر في تشديد ريلكه على ضرورة التنبه للذات الشعرية، والبحث عن الإجابات بصدد الكتابة الشعرية. فيطلب من المخاطب أن يقوم بمساءلة نفسه: (إسأل نفسك..). ويكررها عدة مرات في الرسالة، مذكراً بمقولة سقراط (اعرف نفسك).
وهي مهمة تتخذ في الشعر قيمة كبيرة حين يضعها ريلكه في سياق نصيحة شعرية، لكي يتجنب الشاعر الشاب الانغماس في أساليب الآخرين وتقليدهم. كما يوصي بتجنب الموضوعات العامة التي تتسطح في المعالجة الشعرية، أو تفقد القصائد فنيتها بسبب التعرض لها، مشيراً إلى قصائد الحياة اليومية، وما تلهمه الأحلام والطبيعة والذاكرة. وما تفعله ذكريات الإنسان حين تمتزج بدمه، وتصبح غير منفصلة عن أنفسنا.
وسوف يتخلخل خطاب الوصية وتناله شطحات السرياليين الذين هدموا الوصايا بطريقة كوميدية متعمدة ليجعلوا الوصية رسالة تمرد وهدم للمتداول. وقد عرضوا ذلك في مبنى ميتاشعري ينقض التربية الشعرية التي روجتها الوصايا التقليدية. في وصية واحد من شعراء «جيل البيت» هو جاك كيرواك المعنونة (مستلزمات النثر التلقائي الثلاثون) نعثر على فقرات مثل: «كن في غرام مع حياتك… اكتب في التذكر والاندهاش لنفسك… ألّف شيئاً مطلق العنان، غير منضبط… وكلما كان أكثر جنوناً كان أفضل».
وفي وصايا الشعراء العرب نماذج سنتناولها لاحقاً، تقترب من مضامين النصح بأنماط مختلفة ودلالات متنوعة، ورؤى تستحق القراءة والتقييم.

ملاحظة

 الاستشهاد بالنصوص المترجمة في المقالة: من كتاب «فن الشعر» لأرسطو بترجمة د. إبراهيم حمادة، وكتاب هوراس «فن الشعر» بترجمة د. لويس عوض، ونصوص وصايا إزرا باوند بترجمة علي سيف الرواحي، وكتاب «رسائل إلى شاعر شاب» لريلكه بترجمة صلاح هلال، ونص جاك كيرواك ترجمة عبد القادر الجنابي.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية