قبل 30 سنة، على صفحات «القدس العربي» تحديداً، كتبت أعرّف قرّاء العربية (لكن السوريين منهم خصوصاً) بعمل مجهول للروائية البريطانية الاشهر أغاثا كريستي؛ هو «تعال، حدّثني كيف تعيش» أو هكذا شئتُ ترجمة العنوان الاصلي بالإنكليزية Come, Tell Me How You Live ، الذي سوف يترجمه توفيق الحسيني إلى «هكذا عشت في سوريا: في شاغر بازار وتل براك وتل أبيض: مذكرات» دار الزمان، 2007؛ وأكرم الحمصي إلى «تعال قل لي كيف تعيش» دار المدى، 2016. أعادتني إلى تلك الذاكرة مقالة للباحث الهندي سانجاي سيبايمالاني، نُشرت قبل أيام في أسبوعية «الـغارديان» الهندية، يتخيل فيها مقدار الأسى الذي ستشعر به كريستي لو عاشت، وعايشت، ما حلّ اليوم بتلك الأماكن السورية التي أحبتها؛ وما إذا كانت، مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، قد استبصرت بعض مظاهر الصراعات الإثنية والدينية والطائفية والعشائرية في الشمال السوري.
أشير، من باب التعريف بالكتاب مجدداً، وبإيجاز يقتضيه المقام، أنّ كريستي رافقت زوجها باحث الآثار ماكس موللوان الذي نظّم بعثة صغيرة رائدة جابت حوضَيْ الفرات والخابور، وسبرت عشرات التلال في المنطقة. كانت الرحلة، قبيل بلوغ منطقة التنقيب، طويلة وعابرة قارّات: من كاليه في فرنسا، إلى اسطنبول، ثمّ بيروت وحلب وحمص؛ وبعدها تدمر، دير الزور، الميادين، البصيرة، عجاجة، الحسكة، تل براك، القامشلي، عامودا، شاغر بازار، الرقة، عين عروس، ورأس العين. وخلال الأجزاء الأخيرة من خطّ السير هذا، توفّرت عشرات التلال على ضفاف الفرات والخابور، فضلاً عن النهر الأصغر الذي يعرفه أهل «الجزيرة» السورية تحت اسم «جغجغ». قضت البعثة الشهرين الأخيرين من عام 1934 في سوريا على سبيل استطلاع التلال التي كان موللوان يعتزم التنقيب فيها، ثمّ غادرت مؤقتاً لتعود مجدداً وتبقى حتى ربيع 1937.
في أمكنة عديدة زارتها كريستي وجلبت منها ذكريات عطرة، بل لعلها تلك الذاكرة التي تمتزج فيها عظمة التاريخ المشرقي مع أنفة الأرستقراطية البريطانية الفكتورية، سوف تحلّ أشكال شتى من الخراب الذي أنزلتها بها البربريات المعاصرة، من براميل الأسد المتفجرة إلى فظائع «الخليفة» البغدادي
ويجدر التذكير بأنّ كريستي تجولت في مصر والعراق، لكنّ انطباعاتها عن سوريا، ومنطقة «الجزيرة» على وجه التحديد، ظلّت الأكثر رسوخاً في ذاكرتها؛ ولم يهدأ لها بال، كما عبّرت، حتى دوّنت تلك الانطباعات في كتاب وجداني وعاطفي وشاعري، بدا صدوره غريباً عن أديبة سوف تستحقّ سريعاً لقب «سيدة الجريمة»! تقول عن الكتاب إنه «شهادة، كتبتُه قبل الحرب، ووضعته جانباً. لكنني الآن، وبعد أربع سنوات على اندلاع الحرب، أجد أنّ خواطري ترحل من جديد إلى تلك الأيام الهانئة التي قضيتها في سوريا. مبهج، في أزمنة الدمار هذه، أن يدرك المرء بقاء تلك الأمكنة الساحرة والتلال المتناثرة التي احتضنت تاريخ البشرية السحيق والرجال الأشداء المصبوغين بسمرة ثرى خصيب عتيق. يثلج صدري أن أتذكر الرابية الصغيرة من زهور المخملية التي زرعتها بيدي قرب شاغر بازار، وأنها تزهر في هذه الأيام بالذات».
وأعترف أنني يندر أن «أضعف» عاطفياً أمام نصّ قد تفوح منه روائح الاستشراق، أو يلوح أنها تُضمره طيّ ولع من أيّ نوع بالشرق وعوالمه؛ غير أنني اختلفت مع جمهرة من الباحثين في أدب كريستي ساجلوا أنّ بذور ميولها العنصرية والاستعلائية تجاه الشرق والثقافات الآسيوية عموماً (وهي، في كلّ حال، قليلة ومحدودة) بدأت من رحلتها إلى سوريا العراق؛ ودليلهم، في هذا، أنّ روايتها البوليسية «جريمة في وادي الرافدين» 1935، كانت أولى ثمار ذلك «الاختمار» الاستشراقي. كذلك لست أرى، وأحترم في الآن ذاته سجالات الباحثين الذين سعوا إلى النبش في استشراق كريستي، أنّ هذه الرواية تُرسي خلفيات كولونيالية/ ثقافية من خلال تنظيم مواجهة تضع عدداً من الأوروبيين، في موقع تنقيب بين دجلة والفرات، أمام حفنة من عرب «صفر الوجوه داكني الملامح». وهذه عبارة، شبه يتيمة في الواقع، كان الراحل إدوارد سعيد سيعفّ، أغلب الظنّ، عن احتسابها ضدّ كريستي إذا عدّ النزر اليسير فقط من عنصرية أرثر كونان دويل وبطله الأشمّ شرلوك هولمز!
صحيح، بالطبع، أنّ «تعال، حدّثني كيف تعيش» ليس عملاً روائياً، بوليسياً أو سواه؛ لكنّ سيّدة الحبكات الغامضة لم تجد فيه مهرباً من رسم ملامح شخصية أدبية هنا، أو بناء أحدوثة عابرة هناك، فاستخدمت في هذا وذاك التقنيات التي مارستها ببراعة فائقة في السرد البوليسي. الصعوبة هنا، وكما للمرء أن يتخيل، تكمن في مدى تلاؤمها أمام عالم يبدو فطرياً متناهياً في بساطته على السطح، لكنه في المستويات الأعمق من وقائع الحياة اليومية يخفي كوناً معقداً غنياً، وفلسفة عيش، وصراع بقاء مع قوى صماء قاسية. مثال أولئك الكهول الذين شعرت كريستي أنهم أشدّ صلابة، وغموضاً وشموخاً، من جبل سنجار الوعر الذي يسكنونه كي يروا العالم من علٍ، من «نقطة التقاء السماء بأغصان البطم»…
وفي أمكنة عديدة زارتها كريستي وجلبت منها ذكريات عطرة، بل لعلها تلك الذاكرة التي تمتزج فيها عظمة التاريخ المشرقي مع أنفة الأرستقراطية البريطانية الفيكتورية، سوف تحلّ أشكال شتى من الخراب الذي أنزلتها بها البربريات المعاصرة، من براميل الأسد المتفجرة إلى فظائع «الخليفة» البغدادي، وبينهما الشركاء من غزاة سوريا أجمعين. هي صورة تقيم الرباط بين كريستي في ثلاثينات القرن الماضي، وما حاق اليوم بتلك التواريخ السورية الدفينة في بطون التلال الفراتية والخابورية، إذْ ليس عبثاً أن التواريخ دوائر.
عنوان الكتاب بالإنكليزية: Come, Tell Me How You Live
ترجمة صبحي حديدي: «تعال، حدّثني كيف تعيش»
ترجمة توفيق الحسيني: «هكذا عشت في سوريا: في شاغر بازار وتل براك وتل أبيض: مذكرات»
ترجمة أكرم الحمصي: «تعال قل لي كيف تعيش»
***
القصد التحريضي من كلمة Come التي تعني بهذا القصد التحريضي كأقرب تعبير في العربية «هلاَّ» أو حتى «هيَّا»..
وأقرب تعبير في العربية لهذا التواري اللفظي ما نوَّه عنه غياث المرزوق بالكلام عن «الطامَّةِ الكبرى في الهَضْبِ في سِبَاخِ الكتابةِ السياسيةِ هَضْبًا» /حيث الفعل «هَضَب» يعني «تحدَّث باستمرار»، ويدل في الآن ذاته على نفس الاشتقاق الجذري من الاسم «هضبة»/.. !!
/ أحيل المهتمين إلى مقال غياث المرزوق: «غُلُوُّ ٱلْكِتَابَةِ ٱلْسِّيَاسِيَّةِ: لَغْوُ ٱلْتَّنَبُّؤِ بِالْتَّرَدِّي أَمْ رَغْوُ ٱلْتَّبَوُّءِ بِالْتَّحَدِّي؟»
سلمت يداك عزيزي صبحي. هذا المجرم الكيماوي خرب سورية وحضارتها ونفوس شعبها وجعلها في قعر الامم
كيف لنا أن نرمم وجه التاريخ المهشم بديكتاتورية البراميل بل كيف لنا أن نعيد للحضاره ألق ربيعها من بين أعمدة دخان أتت على حقول القمح وحولت سنابل الأمل إلى رماد بل كيف لنا أن نتأمل وجه التاريخ العريق في وجه أعمدة أثرية وآثار باتت شاهدا على أبشع الجرائم وتلطخت بدماء ضحايا حتى إنك تسأل حين تراها ترى كيف تستطيع الصمود واقفة دون أن تنهال في هاوية وهي شاهد على كل صرخات المقتولين مقالة رائعة زاخرة بالثقافة