هل ما أعلنه مصطفى الفقي، عبر قناة «القبس» الكويتية من علاقة ثورة يوليو/تموز 1952 بالأمريكان، وعلاقة جمال عبد الناصر بالإخوان اكتشافا؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، أؤكد أنه يدهشني هذا الشغف على الحضور الدائم من جانب مصطفى الفقي، السكرتير السابق للرئيس مبارك للمعلومات، في السنوات العشر الأولى من حكمه، أو أقل من ذلك، لأنه لم يلتحق بالعمل في البلاط في بداية عهد مبارك، فالترشيح كان في مرحلة لاحقة!
وإذا تابع المرء منصات التواصل الاجتماعي، حيث مقاطع الفيديوهات من برامج تلفزيونية يشارك فيها، فإنه يتملكه الخوف من أن يفتح الصنبور فينزل منه مصطفى الفقي، وهو في كثير من اللقاءات يكرر نفسه، ولا يقول جديداً، وأحياناً يقول كلاماً متناقضاً، دون أن يجد المذيع الكفء ليعيده إلى ما قال، فهو في ملف التوريث قال الشيء وعكسه، حسب الظروف، وبرغبته أن يثير شغف المشاهد، ولعله هنا ينافس مفيد فوزي، وكأنه في برنامج «حديث المدينة».
وفي الأيام الأولى لوفاة الفنانة سعاد حسني، قال مفيد فوزي في مقابلة تلفزيونية، وبطريقته في الحذق، فيستدعي العبارات من قولونه، أو مصرانه الغليظ، فلست متخصصاً في الجراحات الدقيقة، إن عبد الحليم حافظ تزوج الفنانة الراحلة (على سريري)، وفي ذكرى وفاتها في العام التالي، قال في مقابلة أخرى إنه يستطيع أن يقطع أن العندليب لم يتزوج سعاد حسني!
والفقي مغرم بهيكل، لكنه يقلد مفيد فوزي، والأخير ظل ردحاً من الزمن يقدم نفسه باعتباره تلميذا في مدرسة هيكل الصحافية، وظن أنه الوريث له في بلاط صاحبة الجلالة، ففسدت الطبخة، وأنتجت هذه الشخصية المتكلفة التي تتحدث كثيراً ولا تقول شيئاً عليه القيمة!
وطيلة السنوات الأربعين الماضية، فان كثيرين أرادوا أن يكونوا هيكل، وحدث تنافس بين من أرادوا أن يقولوا إنهم تلاميذ له، في حين أن هيكل مدرسة عقيم، بلا تلاميذ أو أبناء، فليس التابعي أو مصطفى أمين، وهو حالة أوجدتها الظروف، حيث عبد الناصر بجانب مهارات هيكل وكفاءته، وهيكل نفسه أراد أن يعيد التجربة في ظرف آخر وشخصيات مختلفة، ومن السادات، إلى مبارك، والسيسي، ولا أكون متجاوزاً إذا قلت ومحمد مرسي، وأنه بدا لي واضحاً في الحلقات الأولى من حلقاته التلفزيونية مع لميس أنه يجرب حظه معه، لكن الدنيا قد تغيرت، وإذا كان هو هيكل، فلا أحد من هؤلاء عبد الناصر!
نفسي أكون الشيخ صلاح
أن يعجب صحافي مبتدئ بصحافي كبير، ويتمنى أن يكون مثله، فهذا جائز ومقبول، مع أبناء المهنة الواحدة عموما، لكن حلم مصطفى الفقي بقى ملازما له حتى الآن، ومنذ أن كان موظفاً صغيرا في السفارة المصرية في لندن، إلى أن فتحت له الاستوديوهات، وعندما منح برنامجاً في قناة «النهار» على ما أتذكر، حرص على الظهور بهيئة هيكل وطلته وبمكتب شبيه بمكتبه وهو يقدم حلقات «مع هيكل» لقناة «الجزيرة»!
وعندما تذكرت هذا الآن، طفت على سطح الذاكرة واقعة قديمة وقريبة، ففي الفترة الزمنية بعد منتصف الثمانينيات وقبل نهايتها جلسنا مجموعة من الزملاء، الذين هم في «الأوله في الغرام»، وعندما يكون الواقع بائسا، والمستقبل ضبابياً، يكون الهروب إلى الأماني الوردية، وطرحت سؤالا على الحضور الكرام، عن الشخصية التي يريد كل منا أن يكونها في المستقبل؟!
والمتوقع أن تكون الإجابة، مصطفى أمين، احسان عبد القدوس، التابعي، مصطفى شردي، عباس محمود العقاد، الخ، لكن زميلنا قال إجابة من خارج المنهج، مسكونة بجرعة كبيرة من العاطفة الجياشة عند النطق، وكأنه العندليب: أريد أن أكون الشيخ صلاح أبو إسماعيل!
كان الشيخ صلاح (والد حازم) عالماً أزهرياً معروفاً، وبرلمانيا معارضاً من العيار الثقيل، وكان يتسم بهيلمانه الجسدي، فيتفوق على نجله الآن طولا وعرضاً، وهو ليس صحافيا ليكون حلم صحافي شاب أن يكون مثله في المستقبل. وكان معنا زميل حاضر النكتة، وساخر بطبعه، نذهب معا لحضور مسرحية ما فتكون فرصة لنضحك، ليس على ما يدور على خشبة المسرح، ولكن لتعليقاته الفكاهية على المشاهد والممثلين، ولأننا نكون دائماً في الصف الأول، فيبتهج الممثلون لانسجامنا مع العرض، الذي نخرج منه دون أن نتذكر شيئاً!
إنه زميلنا محمد الفقي، وما بينه وبين مصطفى الفقي هو مجرد تشابه أسماء، فالصحافي من المنوفية، وصاحبهم من البحيرة!
وإزاء هذا الحلم غير المنطقي من الزميل بأن يكون الشيخ صلاح أبو إسماعيل، علق الفقي: «حتى جسمك لا يساعدك على ذلك». وكان الزميل نحيفاً شأن الجمع الكريم، إلا الفقي. فما الذي يجعل دبلوماسياً، وأكاديمياً، وعضواً سابقاً في المجلس القومي للمرأة يحلم أن يكون هيكل؟!
علاقة عبد الناصر بالإخوان
لا بأس، فقد اهتم كثيرون على منصات التواصل الاجتماعي بما قاله الفقي، كأنه اكتشاف، الأمر نفسه تعامل معه المذيع كأنه اختراع، وتمت الإشارة في الإذاعة بالفلاش الى ما قال، وكأن الفقي جاء بالذئب من ذيله، مع أن علاقة جمال عبد الناصر بالإخوان ثابتة تاريخياً، وقد وردت في مذكرات الضباط الأحرار، ومنها ما جاء في مذكرات خالد محيي الدين «الآن أتكلم»!
فهي معلومة مستقرة، وإن كان أول من شكك في صحتها هم الناصريون الجدد، بعد الجزء الأخير من المسلسل التلفزيوني «الجماعة»، وأقاموا الدنيا وأقعدوها ضد مؤلف العمل وحيد حامد، الذي يفتري على الزعيم بغير الحق، وهي حملة أفشلت المسلسل، وأفشلت الغرض منه، وكان في سياق حملة الإبادة الإعلامية ضد الإخوان!
وهو عمل منحوس فعلا، فانتهى مفعوله بقيام الثورة بعد الجزء الأول، وكان المؤلف قد وعد بجزء ثان، وعندما قامت أعلن وحيد حامد، أن لا جزء ثان ولا ثالث، لكن بعد الانقلاب فتشوا في دفاترهم القديمة فكان هذا الجزء، الذي ضاع تأثيره مع الهجوم عليه من فريق محسوب على الانقلاب أيضاً، ليوضع في العلب، ولا يذاع مرة ثانية!
وإذا كانت علاقة عبد الناصر بالإخوان لم يشكك فيها الأولون، فالأمر نفسه بالنسبة لعلاقة ثورة يوليو/تموز بالأمريكيين، ولا أدري مصدر هذا الاحتفاء من خصوم عبد الناصر بكلام مصطفى الفقي، ودهشة البرنامج من ذلك وكأنه حقق سبقاً بلغة الصحافة، والموضوع أثير في سنة 1988، وأذكر أنني حققت في الأمر فلم ينفه أحد من الذين استطلعت رأيهم، بمن في ذلك القطب الناصري الكبير فريد عبد الكريم، والخلاف كان على التأويل، ومما قاله هذا الذي كان يمثل الناصريين الحنابلة، كان بين الثورة والأمريكان «توافق على الأهداف وليس اتفاق على الأهداف»!
وعندما أصدر محمد جلال كشك كتابه «ثورة يوليو الأمريكية»، لم يجد الحفاوة اللازمة، فالإخوان متورطون في الثورة، والوفد الذي كان قد عاد بقوة لم يكن مشغولاً بعداء الماضي، فتحالف مع الإخوان الذين شاركوا فيها، وكانوا مع قرار مجلس قيادة الثورة بحل الوفد، ومع عزل قياداته سياسياً، ووافقوا على قرار عدم عودة الحياة النيابية لأنها ستعيد حزب الأغلبية الذي هو الوفد، وإن كان فريد عبد الكريم قال لي في جلسة سبقت الاتفاق على حوار معه أعتذر عنه بعد ذلك، إن حزب الوفد لم يعد للمشهد السياسي إلا للانتقام من ثورة يوليو!
لم يتذكر الوفد التاريخ في التعامل مع الناصريين، إلا مرة واحدة عندما أرسل هيكل خطاباً مطولاً لرئيس تحرير «الوفد» جمال بدوي، بناء على اتفاق بينهما، حول موقفه من مؤتمر الأقليات الذي كان سينظمه في القاهرة سعد الدين إبراهيم وألغاه مبارك، وكان هيكل منحازاً لعدم إثارة موضوع الأقليات، وبدأ خطابه المطول بعبارة «عزيزي جمال»، ورفض الباشا فؤاد سراج الدين نشره، وقال لبدوي هذا خطاب منه اليك، وليس موجهاً للصحيفة، أو مقالاً يعد عدم نشره حجراً على الآراء!
كانت معركة ذكاء بين إثنين يتمتعان بالكفاية منه، فهيكل لم يرسل مقالاً للنشر في صحيفة أعداء العصر الناصري وضحاياه، فقط رسالة لزميله الصحافي جمال بدوي، بناء على «دردشة» سابقة في الموضوع، وفهمها سراج الدين فكان القرار بعدم النشر!
وإذا كان الإخوان شركاء في ثورة يوليو، فقد كان جلال كشك من سدنة حزبها الأوحد، ولم تكن أمريكا وقتئذ هي أمريكا الآن، فقد خاطبها الزعيم الطلابي الإخواني مصطفى مؤمن، قبل ذلك بزعيمة العالم الحر!
تلك أمة قد خلت!
صحافي من مصر