من الأسطوري إلى المعاصر: السردية الرمزية في قصائد «أولئك أصحابي» لحميد سعيد

قيس كاظم الجنابي
حجم الخط
1

يمرُّ توظيف الشخصيات في القصيدة المعاصرة بثلاث مراحل زمنية وموضوعية، بداية بتوظيف الشخصيات الأسطورية مثل، كلكامش وعشتار ونرسيس وأنليل. ثم توظيف الشخصية التاريخية مثل، خالد بن الوليد والمقداد بن الأسود وصلاح الدين الأيوبي، وأخيراً توظيف الشخصيات المعاصرة، وهي في العموم قريبة من الشاعر، مثل شخصية السياب ومانديلا وزوربا وكاسترو.
وفي مجموعة حميد سعيد «أولئك أصحابي» ــ دار الصوت للصحافة والنشر، إسطنبول 2019، ط2، ثمة إحالة إلى الصحبة والقرب في اختيار الأبطال والشخصيات التي وظفها في هذه المجموعة من النصوص، فثمة محاولة لتوظيف عدد من الشخصيات والرموز المعاصرة بطريقة جديدة، تستند إلى التمثل بحيث تصبح الشخصية وسيطاً بين الشاعر والمتلقي؛ وهذا التوجه يحمل في دواخله تحولات مهمة في توظيف الأفكار والشخصيات لاقتحام المناخ الشعري، وتأسيس نصوص شعرية قادرة على التعبير عن معاناته الإنسانية ومشاغله، وما يحيط به من ظروف، تركزت في الغالب حول موضوعين رئيسين، هما (الغربة والموت).

العنوان

استخدم الشاعر لفظتين مثيرتين، في العنوان، الأولى (أصدقائي) وغالب هؤلاء تصدروا العلاقة معه، من خلال القراءة، وليس من خلال العلاقة الخاصة واللقاء المباشر. والثانية تشير بوصفها اسم إشارة إلى التمثل؛ بمعنى أنه يتمثل هؤلاء الأصدقاء، حيث انتزع الشاعر هذه الشخصيات من محيطها السردي، بوصفها أبطالاً لعدد من الروايات، ووظفها لتكون جزءاً من مشروعه الإبداعي، من أمثال (القبطان إيهاب، عوليس، سانتياغو الصياد العجوز، أنا كارنينا، زيفاغو، مدام بوفاري، الكولونيل، زوربا، أحمد عبد الجواد، الأخوة كرامازوف، دون كيخوته، عشيق الليدي تشاترلي) وغيرها، وبعض القصائد لم تتمثل شخصية بعينها، وإنما تتمثل عملاً ما بعينه، مثل رواية «لم تشرق الشمس ثانية» «صمت البحر» و«الأخوة الأعداء». وهكذا جاء هذا التمثل ليكون صورة معبرة عن حاجة الشاعر إلى موضوعات تخرج به عن النمطية والتكرار، نحو فضاء واسع من التصور، فكان ذلك بمثابة إعادة إنتاج لصور جديدة نابعة من فضاء الغربة، والبحث عن موضوع جديد، وآفاق جديدة.

الشخصية/القناع

تشكل الشخصية/الصديق قناعاً يستطيع الشاعر من خلاله أن يواجه القارئ/المتلقي من دون أن يهز كيانه، ويثير حفيظته في طرح المواقف والآراء، وكأن الرأي المطروح، وهو ما يعزز قوة النص، ويديم تماسكه ويمنحه القدرة على الاستمرار واستنباط الموضوعات والرؤى؛ وبهذا غدت الشخصية/الصديق، أقرب إلى الشخصية الأسطورية، التي تعلل الأحداث والمواقف، لتضفي على الحقيقة نوعاً من الإقناع والتأثير؛ كما أن هذا النوع من التوظيف يمنح القصيدة فرصة في التلاعب بالكلام يسمح له بتسويغ الحكايات السردية التي تمثلها الشخصية، وكأنه يحاول أن يضع النص الشعري بموازاة الحكاية السردية، كما تفعل الأسطورة. فمن يقرأ القصيدة الأولى من المجموعة، وعنوانها «تجليات الماء» يلاحظ أنها تحاول إنتاج شخصية (إيهاب) بطل رواية «موبي ديك» لهرمان ملفل التي تدور الكثير من أحداثها على سطح البحر/الماء، وما يحمله البحر من رموز كبيرة ومتعددة؛ فالماء واحد من عناصر الكون الأربعة، فهو رمز للحياة وواحد من عناصرها الرئيسية، يستقي صورته ورمزيته من قوة تلك العناصر، وهي (الهواء والنار والتراب والماء) وهنا يبدو إحساس الشاعر بالعزلة:
حاولت أن تجعل الماء مقبرة
وحاول أن يجعل الماء.. مملكة ساحرهْ
في موانئ باردة..
بانتظارك كل الذين ضيّعهم في المياه البعيدهِ
حيث اقتضيت ما كنت تحسبه حُلُماً.
وبعد نوع من الصمت ينتقل الشاعر، من فضاء البحر وأجواء الرواية إلى فضاء الأسطورة، فيقول:
في ما مضى..
كانت الأساطير تنزل حيث نزلتَ
لقد شاخت الأساطير وانطفأت قناديلها..
أي أسطورة ستعيد إليك سطوتك الآفلة؟
وهنا يبلغ فضاء الغربة الحقيقي (فلا بحر، ولا رفاق، ولا عائلة، ولا أحد في الجوار) في ظل إحساسٍ واضح بالغربة، فلا شيء أكثر من الحُلم يقف صامتاً في هذه القصيدة غيره هنا، والتساؤل هنا يفتح باباً للإجابة.
وتشارك هذه القصيدة قصائد أخرى، منها قصيدتا «الشيخ يعود إلى البحر» التي تتمثل شخصية الصياد العجوز (سانتياغو) بطل رواية همنغواي «الشيخ والبحر» وقصيدة «صمت البحر ثانية» التي يهديها إلى مؤيد عبد القادر، وهي تتمثل شخصية (فيركور) الاسم المستعار للرسام والكاتب جان بريلير؛ وفي هذه القصائد يقف البحر موازياً للقوة والعنفوان، فقد كان بطل رواية همنغواي يبدو رمزاً للبطل الإيجابي الذي لا يتخلى عن قضيته ووجوده، من خلال صراع مع حيوان القرش في الرواية؛ وهنا يحاول الشاعر أن يجعل الحلم موازياً للواقع، أو يكسر قسوة الواقع بالعودة إلى الحلم، الذي جاء مثل نبوءة جلجامش في موت أنكيدو؛ حيث الصراع الوجودي بين الحياة والموت، الذي أسفر عن هزيمة الإنسان أمام الموت، وفي ذلك يقول الشاعر:
وأني أصطحب البحر إلى الحانةِ.
في ليل يفتحُ فيه القمر الطفل.. جميع الأبواب
لندخل مملكة الصيدِ.. وفردوس الصّيادينْ
أنا والبحر ومانولين
تغافلني الريحُ.. وتذهب بي حيث تشاءُ
وتُنزلني في مدنٍ لا تعرفني..
فالتحديات التي تحيط بالإنسان تجعله جزءاً من فضائها، وعليه أن يختار خلاصهُ بأيّ طريقة، وبطل رواية «الشيخ والبحر» انتصر انتصاراً صار خلاصاً رمزياً، وليس خلاصاً حقيقياً. وعالم الصيد، عالم شبيه بعالم الحياة نفسها، ولهذا يستخدم الشاعر الأفعال المضارعة مثل (أصطحبُ، أرى، يفتح، تغافلني، تذهب، ندخل، تنزلني، تعرفني)؛ وهي أفعال مضارعة في زمنها، ولكنها تعود به إلى الماضي القريب في نوع من الترحيل المضمر؛ فالصورة التي يرسمها الحاضر هي صورة خاضعة لمؤثرات إنسانية وجسدية عالية، تجعله ينادي البحر كما يناديه (سانتياغو) ثلاث مرات، وهو يعقد صلحه مع الحيتان، ويتحوّل الواقع فيه إلى حلم، أو يتشكل انتصار الإنسان فيه على خصمه الشرس، في الحلم والأمنيات، وهذا ما يحصل في بحث الكثير من البائسين عن الأمنيات المؤجلة.
أما قصيدة «صمت البحر.. ثانية» فعنوانها عنوان لأشهر روايات المقاومة؛ وهي مهداة لصديقه مؤيد عبد القادر، وتستحضر مشاهد الإهانة التي يوجهها جنود الاحتلال الأمريكي للعراقيين. والشاعر في جلّ قصائده هذه، تبدو القصيدة لديه بمثابة حكاية مشحونة بالحدث المؤثر، حكاية موقف مؤثر؛ وهذا ما يشير بصورة مضمرة إلى أن قصائده الثلاث عن البحر بدت مثل تنويهات لما حصل في الصراع الأزلي بين الواقع والحلم، وبين الطموح والواقع، وبين البحر والأرض، والبحر رمز للتحدي والأرض هنا تمثل الاجتياحات والحروب والدمار، وصوت الرصاص، وكل الأفعال التي تحطم صلابة الإنسان، إذ تبدأ القصيدة بجملة يرفدها بتساؤل:
ظل يدفع عنه مخاوفه.. بالتذكُّرِ
ماذا تبقى له؟
والبلاد تُفارقهُ.. وسيرحل بعد قليل..
الى أين؟
تضمر هذه الأسئلة المطروحة تلميحاً إلى صورة حية عن جنود الاحتلال الأمريكي للعراق، حيث يعد مثل هذا التساؤل كشفاً/تفسيراً لعلاقة ندية بين المحتل وهوية البلد الذي يحتله، وأسئلته مشحونة بالمخاوف منه:
ليرى أصابع العريف الملّون..
تعبثُ بالمُعجمِ العربيِّ
يدوس ببسطالهِ كتب الجاحظ وابن المقفع وابن هشام
وما ضمت المكتبهْ
من فرائدَ..
هل كان بينَ العريف الملون والطبري..
عداءٌ قديمْ؟
يعطيُ الشاعرُ هذا النص صورة واضحة عن سلطة الاحتلال، وهي سلطة مضادة للعلم وتتضمن نزعة مضمرة ضد الشرق وحضارته، وضد العرب بشكل خاص، فالعريف الملون، يحاول أن يثبت قوته وعدوانيته، بالغم من تشدق أمريكا بحقوق الإنسان؛ لهذا يبدو مشهد الاحتلال الأمريكي للعراق هو المهيمن، ويبدو الفعل المضارع مهيمناً تماماً كما في الأفعال (ترى، يدوس، تعبث)؛ فالشاعر يرسم المشهد عبر رؤية ثقافية ومعرفية تستلهم تراث الجاحظ وابن المقفع.

توظيف الشخصية الروائية

في قصيدة «جحيم أنّا كارنينا.. وفردوسها» ثمة توظيف لشخصية الروائية الحالمة بالفردوس، عبر لازمة خاصة، تحيلنا إلى رواية «الحرب والسلام» لتولستوي، القرينة برواية عنوانها يحمل اسم هذه الشخصية، حيث العودة إلى مدينة بطرسبرغ؛ وهذا الاقتران يلتصق بالمقهى الذي يترك مقعدين، ملمحاً إلى معرفته بها، فالحرب تقترن بالمعرفة وبالحب، للروح والجسد، غربة وغربة الموت/ الخوف؛ وكل هذه الأفكار تبدو محملة بصراعات الحياة والوجود، هي التي تجعل الحلم جحيماً، على الرغم من المفاتن الثرية فيه، فالحب كما يقول:
الحبُّ..
أن تتجدد الغابات والفلوات والأنهار والأمطار..
الحبُّ..
أن تدنو البحار من المُحِبَّ.. إذا دنا منها
ترافقه إلى أحلامه.. وتنام حيث ينام..
البطل الرمز
والشاعر يوظف الشخصية المعاصرة، موازاة الذات مع الآخر، أو بين البطل الرمز والشاعر، في بعده الوجودي والإنساني؛ فالحب محاولة للوصول إلى جوهر الحياة، والتعبير عنها، وهو نقيض الموت الذي يكتسح الجمال والحياة، ويوقف تقدمهما، لكنه ضرورة لاستمرار وتداول الأجيال والأشياء والموجودات لدورانها وحركتها، وكذلك الحال مع (الدكتور زيفاغو) بوصفه رمزاً للصراعات الطائفية، ولكن الشعر يعيد ترميم الحياة، حتى لتغدو مملكة الشعراء مباركة بحنان النساء؛ لذا كانت «لارا» القصيدة والدفء والوسيلة للتعبير عن المنافي.
في قصيدة «قيامة مدام بوفاري» يصف الشاعر بطلة الرواية بالقول:
إنّ «إيما» امرأةٌ..
يُدركها الرضا إذا عشقها الرجال
وهي امرأة..
تولد إذْ تُحِبُّ.. تموتُ حين لا تُحِبُّ..
فكأن الحبَ يقترن بالحياة، ويضارعها؛ بينما الموت ينفيها، ذلك أن طقوس الحب/الموت تعتمد في ما يبدو على فهم بدائي صحيح من أن الحياة في الطبيعة تعتمد اعتماداً وثيقاً على الموت، فلابد للنبات والحيوان من موت لتغذية الأحياء، ولا بدّ للأحياء من الرحيل ليفسحوا المجال لنسلهم. وصراع الحياة والموت هو صراع وجودي وأزلي، يضمر خلفه الصراع الحقيقي بين الاحتلال والناس من أهل العراق، أو كما صورها بين الثور الهائج والإنسان المستكين، كما في قصيدتي «لم تشرق الشمس.. ثانية» و«ثم وجد الكولونيل من يكاتبه»؛ حيث الإشارة إلى عمليات القنص التي تحيلنا بصورة ما إلى الحروب ونهاية الكولونيل، حينما تقضمه التفاحة رمز الخطيئة، وقد عمد الشاعر إلى قلب الرمز، أو استخدام الرمز المضاد، أو استبداله، كما في قوله:
شيمٌ لاذعٌ وعواصف سودٌ
رأى في كل من فتحت له أبوابها.. تفاحة أولى
فيقضمها..
وها هو.. بعد أن جفت ثمار حقوله..
قضمتهُ
فلربما تحيل عملية القضم هذه إلى الاحتلال، وقضم خيرات البلاد، كما يبدو ذلك، وهذه القصيدة تتخذ المرأة وسيلة رمزية للتعبير عن بعدها السياسي الواضح.

أساطير جديدة

يخلق الطابع الحكائي الذي يربط أنا الشاعر بالشخصيات، نوعاً من الانبهار أو الدهشة، ويجعل الحكاية أكثر تأثيراً، كما أن صورة الآخر الذي اختاره كصديق لها مغزى خاص، ولها طعم جديد، فالعلاقة بين الشاعر و(سيدي حامد بن الأيّل) الباحث عن شخصية (دون كيخوته) صاحب طواحين الهواء، يوظفها لبناء أفكاره ومواقفه، حين يخطف اللصوص فرسه ويكسرون رمحه، ثم يبيعون السيف والترس، فالحكاية تسير بشكل مضمر داخل القصيدة، ووفق عمقها التاريخي، في اتجاهين:
الأول، إنها رواية رائدة في الأدب العالمي. وثانياً، إن لها علاقة بالليالي العربية، وفيها تتلاحق الجمل الشعرية كحبات المطر، أو كحبات القمح التي تطحنها الطاحونة، في إحالة إلى طواحين الهواء وعلاقتها بالطاقة المائية، وهنا نتساءل:
ما الذي يدفع شاعراً مثل حميد سعيد إلى أن يتخذ هذه المجموعة من الأصدقاء؟
أعتقد أنه يحاول أن يوظفهم للتعبير عن قضيته، ويجعل من أصواتهم الخافتة، أو الصارخة دريئة أمام أعدائه، ووسيلة لتمثل ما لم يستطع أن يتمثله؛ ولكنه حين يبلغ رواية «الأخوة كرامازوف» التي تحيل إلى عقدة أوديب، وصراع الأب مع ابنه، وكأنه يحيل بطريقة ما إلى أخلاقيات القادمين الجدد، كالولايات المتحدة التي انقلبت على أمها إنكلترا. فيحاول الكشف عن المستور الأخلاقي بأسلوب ذكي، كما في قوله:
في خريف العلاقة العائلية أو في خريف البلاد
أبٌ فاجرٌ.. وثلاثة أبناءْ
الأبيقوري والمتعالم والمتصوف
كلُّ له حلم يتآكل في عالم عطنِ..
مثل تفاحة فاسدة.
فالأبناء الثلاثة هم رموز للمتعاونين مع المحتل (العلماني والمتعالم والصوفي) لأنهم الركيزة التي تكشف عن ازدواجية الشخصيات التي عبرت عنها الرواية نفسها، حين يقول العبيد ما يقوله أسيادهم، ويمكن أن تمر مروراَ سريعاً، على شخصية مثل (الليدي تشاترلي) التي خصها بالوصف الجسدي الباذخ، وجعلها أيقونته، ثم ينتقل إلى رواية «الأخوة الأعداء» التي تحيل إلى صراع الطوائف في اليونان، وربما في العراق الآن، مع أن كل الذين يقتلون جاؤوا من مدن الفقراء، مستفيداً من لازمته، المعروفة (الأساطير تمحو الأساطير).

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد العزيز حسين الصاوي:

    لااجد في التوظيفات الشعرية لتناول احداث معاصرة وخاصة الاحتلال ، حسب التحليل، ما يتصل بتجربة الشاعر مع نظام البعث . ماسبق الاحتلال وماتبعه متصلان عضويا.. لاسيما وان حميد سعيد كان مسئولا ثقافيا مرموقا ولعله كان لفترة رئيسا لتحرير صحيفة حزب البعث. الحق إنني لم أقرأ لاي من مثقفي تلك الحقبة من البعثيين العراقيين تقييما لتجربة البعث سواء بالصيغة الشعرية او، وهو الافضل والافيد للمستقبل العربي، الكتابة النثرية .

إشترك في قائمتنا البريدية