منذ وصول الحكومة الجديدة، في الجزائر، وهي تصر على تكرار بيان صحافي، حتى يكاد يحفظه الناس جميعاً، يتضمن دعوة إلى تجنب نشر الأخبار الزائفة، وتفادي التسرع في نقل المعلومة، واعتماد المصدر الرسمي حصرياً في الإلمام بالخبر.
فهم البعض، في البداية، أن هذا الإجراء ينطوي على نوايا حسنة، ويقصد منه الحد من انحياز السلطة في تعاملها مع وسيلة إعلام واحدة دون غيرها، كما حصل في سنوات بوتفليقة الأخيرة، بدون أن ننتبه إلى أن هذا القرار يتعارض مع جوهر الفعل الديمقراطي، الذي يفترض به أن يتيح الحرية والمنافسة في الوصول إلى المعلومة، ويمنع عن السلطة احتكارها.
ومع تفشي وباء كورونا، في البلد، عاد البيان نفسه للظهور، يحث على تجنب نقل الأخبار الكاذبة وتفادي التهويل، ومرة أخرى تحاول الحكومة أن تحوز وحدها السبق في قضية تمس حيوات المواطنين، والسبب في إلحاحها على البيان، في هذا الوقت، هو وقف المعركة الثانية التي أشعلها الوباء، والتي تتخذ من الإنترنيت أرضية لها، فمع زيادة هلع الناس وتشاؤمهم، باتت الإنترنت وجهتهم في الإحاطة بما يحصل، وأدركت السلطة أن المعركة سوف تتجاوزها، وأن السيطرة على كورونا تبدأ من السيطرة على مواقع التواصل الاجتماعي، هكذا اصطف فريقان في المواجهة؛ السلطة من جهة، والمعلومة الهائمة على مواقع التواصل الاجتماعي من جهة أخرى، ونتائجها سوى تحدد طبيعة علاقة المواطن مع الإعلام الرقمي مستقبلاً.
لا ننكر أن حمى الشائعات قد تضاعفت، في الفترة الأخيرة، وصار كل واحد من مستخدمي الإنترنت يبحث أن تحظى منشوراته عن الوباء على العدد الأكبر من الاهتمام والتفاعلات، تزايد عدد الصفحات، وتحول بعض الفضوليين إلى أطباء ومختصين في الأوبئة، كما أن العنصرية أيضاً نشطت، وتكاد تخرج عن السيطرة، بدأت من عنصرية تجاه الصينيين، مع تحميلهم مسؤولية ما وقع، ثم انتقلت إلى تعاطف معهم عندما هم أطباء صينيون، يتفرقون في دول تفشى فيها المرض، يقدمون المساعدة، وتحولت العنصرية إلى التركيز على كل منطقة وباء جديدة، ضف إلى ذلك أن نظرية المؤامرة قد استعادت صحتها، ويبدو أن الجزائريين من أكثر الشعوب إيماناً بها، يتداولون تارة أن حرباً بيولوجية تدور خلف الستارة، وتارة الأخرى يستخرجون ما يروق لهم من بطون كتب الدين، قصد التدليل على أن القرآن كان سباقاً في التنبؤ بها، وهذا الجو «الموبوء»، الذي يتنافس فيه الجميع على قذف ما يخطر لهم من آراء وأفكار ومعلومات، يزيد المشهد عتمة، وينتقل كورونا من الجسد إلى الإنترنت، معلناً معركة أخرى، يحدث ذلك في ظل ضعف السلطة عن التواصل والتحاور والإعلام، وشعورها بالمأزق الذي تدحرجت له، ولم يعد بيدها سوى الدعوة للتعقل، متغاضية عن أن الإنترنت بات بحراً هائجاً، إن لم نساير موجته، فقد يجرفنا التيار، وإن فكرة السيطرة عليه تشبه من يبحث عن ماء في الصحراء.
إن كان للمرض تبعات على علاقات الناس في ما بينهم، فإن معركة الإنترنت الآن ستكون لها تبعات على علاقة الناس بالسلطة، ومدى ثقتهم فيها أو العكس.
لم تعد السلطة الكلاسيكية مؤهلة لبسط حكمها في بلد تتسع فيه الإنترنت، لم يعد دورها متاحاً، وقوانينها غير قابلة للتطبيق في بعض الأحيان، ففي الزمن الحالي تصير ملزمة على تجديد جلدها، أن تتحول وفق إيقاع التحولات التي يحيا فيها المواطن. لا تعد الديمقراطية بمفهومها التقليدي واردة، وصارت تحتمل أن تطرأ عليها تغيرات، مثل التغيرات التي تطرأ على الجسد عند خضوعه للعلاج من كورونا. لقد اعتقدنا في الجزائر أن الإنترنت ستسهل، مع الوقت، تعديل أساليب الحكم، وتتيح حرية أوسع للناس، كما أنها قد تمهد لتطور في طريقة التسيير، وتمدها بليونة أكثر، لكن حصل شيء مغاير، وجدت السلطة نفسها، شيئاً فشيئاً، معزولة، والتقنيات الجديدة تتجاوزها، والمعركة الحالية ضد كورونا، التي تدور في الإنترنت بالحدة ذاتها، كما تدور في المختبرات والمستشفيات، ستكون عاملاً محدداً، في المستقبل، في تحديد مساحات الحرية للمواطن، وحقه في المعلومة، كما أنها سوف تعيد تعريف الديمقراطية في الجزائر.
من أساسيات الديمقراطية، إتاحة حرية الرأي، والحق في تداول المعلومة، وفي ظل تفشي كورونا، انقلبت الديمقراطية على نفسها في الجزائر، وتود الحد من هذين الحقين، فقد ارتفع التخويف والفزع على حساب النقاش العقلاني، تضاعفت مقالات في صحف تستشرف وتخوف بدون دليل، وأرقام الإصابات الجديدة تتصاعد والوفيات تتلاحق، كل يوم، وعلى الضفة الأخرى، تشتد المعركة على الإنترنت، وتتواصل الخصومات، بين من يود أن يملك حقاً مطلقاً في نشر ما يسمع أو ما يعرف أو يظن، أنه حقيقة ومن يود أن يهيمن على مسالك الرأي، ويفرض حجراً على استخدام الإنترنت سوى للضرورة. هناك ميل نحو غلق الباب أمام الإعلام الجماهيري، كي تظل الكلمة الواحدة المسموعة كلمة السلطة وحدها، كي تستأثر باللسان الواحد في البلد، ويلتزم الآخرون فقط بالاستماع. كما أن وسائل إعلام الدولة التقليدية من راديو وتلفزيون لم تعد كفيلة بإتمام المهمة، وتجد نفسها في ذيل القاطرة أمام الإنترنت، فالمعلومة في الجـــزائر لا تبدأ من شاشة ولا صحيـــــفة، بل من موقــــع تواصل اجتماعي، لذلك يبدو أن معركة المعــلومة في زمن كورونا والركض في الهيمنة على النـــت، هـــي المعركة الخفية الأهم بعد معركة البحث عن شفاء للمرض.
إن كان للمرض تبعات على علاقات الناس في ما بينهم، فإن معركة الإنترنت الآن ستكون لها تبعات على علاقة الناس بالسلطة، ومدى ثقتهم فيها أو العكس.
هناك ميل يقول إن معركة اليوم سيكون له أثر إيجابي في تمتع مواطن المستقبل بحرية أوسع، وقدرة على محاسبة المسؤولين، لكن مع اشتداد الوضع يبدو أن الأمر سوف يتأخر، صحيح أن الإعلام الرقمي الجـــديد نجــح، حيث فشل الإعلام التقليدي، لكن في بلد مثل الجــــزائر، يخشى على نفسه مثلما يخشى مريض من نتائج فحص قد تؤكد إصابته بالوباء، سوف تتأخر الوسائل الجــديدة في تحسين حياة المواطن، لكن ما يجري حالياً سوف يكون بارومتر السنوات المقبلة.
٭ كاتب من الجزائر