من الدور الإخباري إلى وجهة النظر

القاهرة ـ «القدس العربي»: رغم ظهور السينما الثورية في العشرينات على يد «دزيجا فيرتوف»، صاحب «الرجل ذو الكاميرا»، ونظريته حول عكس الواقع الحقيقي من خلال عدسة الكاميرا، وازدراء الفيلم الروائي/الخيالي، إلا أن تجاربه وتنظيراته كانت حجر الأساس لاعتماد أساليب ومنهج التوثيق في السينما الروائية، والتي أنتجت جماليات مختلفة، عن التي كانت تصدّرها هوليوود، ونظم الإنتاج الضخمة.
فتوالت الحركات والتيارات السينمائية التي تأست بالمنهج الوثائقي … كالواقعية الجديدة في إيطاليا، والموجة الجديدة وسينما الحقيقة في فرنسا، والسينما المستقلة في انكلترا، ثم السينما المباشرة في أمريكا. وأصبحت أصداء وأساليب هذه التيارات وتطورها تتردد في السينما المعاصرة، التي انتهجت رؤية جديدة للواقع ومعالجته، لم يكن الفيلم الروائي يتعامل معها من قبل، كل هذا بهدف البحث والإيهام بالصدق، والاقتراب أكثر من القضايا الإنسانية الحياتية، سواء نتيجة واقع مأزوم من جرّاء الحرب، أو نتيجة سياسات وانتهاكات إنسانية للدول الرأسمالية.

بخلاف الأمثلة السابقة من اتجاهات ومدارس مثل الواقعية الجديدة أو سينما الحقيقة، نجد أن الفيلم الروائي انتهج الشكل والأسلوب الوثائقي من خلال آليات سردية تتحدد أكثر في كل من الشخصية والحدث والمكان، فهذه الآليات تنتمي في ذاتها للواقع، أي .. شخصيات وأحداث وأماكن حقيقية، ولكن يتم الاستعانة بها في نهج توثيقي، كمحاولة لإضفاء معنى جديد على هذا الواقع.

الشخصية

الكثير من الأفلام الروائية اتخذت من «الشخصية» الحقيقية مادتها الأساسية، خاصة الشخصيات الشهيرة، التي أثرت في الحياة … كمطرب أو بطل رياضي أو زعيم سياسي، بحيث يُعاد دوماً تأويل التاريخ وفق رؤية صانع الفيلم. نذكر على سبيل المثال من الأفلام الحديثة … فيلم إمير كوستاريكا عن مارادونا، وفيلمي أوليفر ستون عن كاسترو وياسر عرفات. إلا أن هناك تجربة ملفتة، وهي فيلم Downfall للمخرج الألماني أوليفر هيرشبيغل، الذي يروي قصة سقوط الرايخ الثالث، وساعات هتلر الأخيرة. فالفيلم يقدم صورة مختلفة عما تم تأسيسه لهتلر، فهو يقترب منه أكثر كشخص في حالة انهيار تام. وهو مستوحى من كتابين تناولا تلك الفترة/وثائق، هما .. «آخر أيام هتلر» ليواخيم فست، و»آخر سكرتيرة لهتلر» لترودل جونغ، والذي اعتمد عليه الفيلم أكثر.
إضافة إلى الكثير من المذكرات والحقائق من اتباع هتلر، الذين بقوا على قيد الحياة. فالفيلم أعاد بناء الأحداث وفق هذه الكتب والشهادات الحيّة/الوثائق، وكان يحاول رسم صورة مغايرة ومعتدلة في مخيلة المشاهد حول الزعيم النازي. دون تقديم تبريرات لما حدث، ولكن الاكتفاء بنتائج تاريخ طويل من جنون السلطة.

الحدث

ربما يأتي الحدث في المرتبة الثانية بعد الشخصية في تناول الفيلم الروائي لحدث حقيقي، وإعادة إنتاج بعض ملابساته وتحليلة بإضفاء وجهة نظر جديدة لهذا الحدث، الذي يعد تاريخياً في الكثير من جوانبه. فالأمر إذن إعادة تأويل لهذا التاريخ، فكان لابد من انتهاج منهج التوثيق والاعتماد على الوثائق سواء بالصورة أو الكتابة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى … للإيهام بالحقيقة ومحاولة تصديق تأويلها الجديد. فالأمر إذن توثيق بالصورة ككتابة التاريخ، سواء اختلفنا أو اتفقنا مع وجهة نظر صاحب العمل في النهاية. ومن أهم الأمثلة على هذا الشكل … فيلم JFK لأوليفر ستون، الذي اتخذ من واقعة اغتيال كنيدي مدخلاً لمناقشة تواطؤ وفساد سياسي كبير يضرب الولايات المتحدة.
تجربة أخرى قام بها «كلينت استوود» في تصوير واقعة حربية حقيقية من وجهتي نظر مختلفتين … فقدّم فيلم «رسائل من إيوو جيما» لسرد احداث معركة إيوو جيما، التي دارت بين الولايات المتحدة واليابان خلال الحرب العالمية الثانية من وجهة نظر اليابانيين، ثم فيلم «رايات أبائنا»، الذي يتناول المعركة نفسها، لكن من وجهة نظر أمريكية! فالرجل هنا وإن كان يعتمد حادث حقيقي مصوّر منذ زمن، إلا أنه يعيد تفسيره، ويجعل وجهة نظر صاحبه هي التي تقود عملية السرد الفيلمي، وصولاً للتشكيك في مفهوم ومعنى الحقيقة. وتجربة راشومون مثال جيد في هذه النقطة.

المكان

سيكون المثال في هذه النقطة فيلم «الطريق إلى غوانتانامو» لكل من مايكل وبنتربوتم ومات وايتكروس، والذي يقدم رواية عن ثلاثة مسلمين بريطانيين احتجزوا سنتين في سجن غوانتانامو العسكري الأمريكي في كوبا دون توجيه أي اتهامات إليهم. فالفيلم يدور عن مكان تجمّعت به شخصيات حقيقية، لم تزل على قيد الحياة. واستعاض عنهم بممثلين لتأدية أدوارهم بين ذويهم، لتمثيل رحلتهم من بريطانيا إلى باكستان ثم أفغانستان حيث تم أسرهم وشحنهم في النهاية إلى غوانتانامو. فالحكاية تم إعادة تمثيلها في مواقعها الحقيقية ما بين لندن وباكستان وأفغانستان. بخلاف المشاهد التي صوّرت معتقل غوانتانامو، التي تم تصويرها في إيران، وتم بناء ديكور كامل للمعتقل، إضافة إلى استخدام أشرطة إخبارية وتسجيلات حقيقية … كتعليقات بوش ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد وهما يدافعان عن الممارسات في غوانتانامو، ويقول بوش إن السجناء هم قتلة لا يشاركوننا قيمنا، بينما رامسفيلد يؤكد أن السجناء يعاملون وفقاً لاتفاقية جنيف، والصورة بالطبع تأتي لتكذب هذه الأقوال.
…..
فالأمر في النهاية لا يتعلق بشكل دون آخر، سواء صنّف البعض أن الطريق إلى غوانتانامو على سبيل المثال من الأفلام الوثائقية، أو يميل إلى الروائي، أو يتخذ شكل الدوكيودراما. فالمعيار يكمن في النهج التوثيقي للفيلم، وكيفية النجاح في استخدامه، ونقل وجهة نظر صانعه وفق هذا الأسلوب. بغض النظر عن التصنيفات.
وفي ظِل ثقافة الصورة، وانتشار الفضائيات، ونقل الحدث فور وقوعه، بل وأثناء وقوعه … سيغيب الفيلم الوثائقي التقليدي، ويصبح الفيلم المعتمد على تحليل الأحداث والربط بينها في إطار فكري ورؤية استنتاجية ــ وجهة نظر أكثر من كونها إخبارية ــ هو الأسلوب الأكثر ثقة من مجرد نقل الأحداث أو تأليفها بالكامل.

محمد عبد الرحيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية