عشنا ورأينا رئيس الولايات المتحدة، أقوى دولة على كوكب الأرض، يفتخر بأنه «صهيوني» مخاطبا النخبة السياسية الإسرائيلية بأنه لا يحتاج أن يكون يهوديا لكي يكون صهيونيا، متجاهلا حقيقة أن ليس كل يهودي صهيونيا، وأن هناك الملايين، من بينهم يهود يعادون اليمين الصهيوني كما نراه، ولا يعادون اليهود. عشنا ورأينا الرئيس المدافع عن الديمقراطية والداعي للحرب من أجلها في أوكرانيا، إلى درجة التضحية بمصالح العالم كله، وهو يختصر «الديمقراطية» في أنها «ديمقراطية اليهود» في إسرائيل والعالم. عشنا ورأينا الرئيس وهو يتعهد للنخبة السياسية الإسرائيلية بأن إسرائيل لن تكون وحدها أبدا طالما بقيت الولايات المتحدة. عشنا ورأينا الرئيس وهو يعمل بنفسه على قيادة الشرق الأوسط إلى طريق «عصر السلام الإسرائيلي» ويجمع لإسرائيل الحلفاء من الشرق والغرب، لكي تبدأ رحلة جديدة، من «الدولة الآمنة» إلى «الدولة المهيمنة»؛ فما السعي إلى دمجها عضويا في المنطقة إلا توطئة لتحقيق تلك الهيمنة. استراتيجية دمج إسرائيل عضويا في المنطقة مركزها القوة؛ بما في ذلك «القوة الخشنة» ضد الفلسطينيين، وضد إيران، وضد من يخالفها في المنطقة. ولهذا فقد كان هدف زيارة بايدن الأولى للمنطقة كرئيس للولايات المتحدة، كما وقعت أحداثها فعلا، وليس كما فهم العالم أو حكام الشرق الأوسط، هو تمكين إسرائيل عسكريا واقتصاديا وسياسيا، لكي تدوس على المنطقة بقدمين ثقيلتين، أراد من أراد، ورفض من رفض. لكن الزمن يعلمنا أنه «ما طار طير وارتفع، إلا كما طار وقع»!
تطبيع وتمكين مجاني
وعلى عكس ما حدث في تطبيع العلاقات بين إسرائيل وجيرانها، منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، عندما كان «الانسحاب من الأرض المحتلة هو ثمن السلام» فإن فلسفة التطبيع الآن تقوم على أساس تمكين إسرائيل عسكريا، وحماية هذا التمكين العسكري بشبكة من المصالح الاقتصادية، التي تمنح التمكين عمقه العضوي، ولا تجعله مجرد مشروع يمشي على قدمين، وقابل للتعثر؛ فالتمكين الاقتصادي والعسكري يحول التطبيع إلى مشروع له جذور ممتدة، حتى إلى خارج المنطقة، وعميقة تصل إلى قلب محركات الحياة: الغذاء والطاقة والتكنولوجيا، فتكون إسرائيل هي قلب هذه المحركات الثلاثة.
وعلى العكس من «العلاقات الخطية» التي رافقت اتفاقيات التطبيع، الأولى مع مصر والثانية مع الأردن، على مدى عشرين عاما تقريبا، فإن الموجة الجديدة لـ «التطبيع من أجل التمكين» تتميز بسيادة نمط «العلاقات الشبكية» وليس الخطية، حيث تتشعب العلاقات وتتشابك بين إسرائيل ومجموعة من الدول في وقت واحد، ولا تقتصر على علاقات خطية «دولة إلى دولة» مثل «إسرائيل- مصر» أو «إسرائيل- الأردن». هذا هو مفهوم «دمج» إسرائيل في المنطقة حاليا. وقد بدأت محاولات نقل العلاقات بين إسرائيل والدول المجاورة من «النمط الخطي» إلى «النمط الشبكي» مع مفاوضات أوسلو، والعمل على إدخال أطراف أكثر إلى اللعبة، خصوصا دول الخليج. وكان اختيار دول الخليج مهما جدا للاستراتيجية الإسرائيلية، لأن جر تلك الدول إلى دائرة التطبيع من شأنه المساعدة على تحقيق معادلة التمكين أو التوسع الإسرائيلي، التي تقوم على ثلاثة مكونات رئيسية هي: (التكنولوجيا الإسرائيلية ورؤوس الأموال الخليجية والقوة البشرية العربية). في هذه المعادلة تتجسد مكونات «التمكين» وبناء مشروع التفوق الإقليمي لإسرائيل، وهو مشروع يقوم بالضرورة على علاقات شبكية عنكبوتية وليس على علاقات خطية بسيطة.
القوة البشرية الهندية محل العربية
لكن إسرائيل التي تتولى فعليا هندسة السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، تجاوزت نفسها في الاعداد للزيارة، لتمد مشروع التمكين العسكري والاقتصادي والسياسي، الذي ينقلها من مرحلة «الدولة الآمنة» إلى مرحلة «الدولة المهيمنة» وأضافت إلى جدول أعمال زيارة بايدن في المنطقة «قمة افتراضية» جمعت بايدن الزائر، مع يائير لابيد صاحب البيت، ومحمد بن زايد رئيس دولة الإمارات، وناريندرا مودي رئيس وزراء الهند. تلك «القمة الرباعية» كانت هي وما أُطِلق عليه «إعلان القدس» أهم نتائج زيارة بايدن لإسرائيل، فالإعلان يجدد لإسرائيل «الالتزام الأمني» مع التركيز على أن هذا الأمن لا يتحقق الا بالعداء لإيران. أما التجمع الرباعي الجديد الممتد من جنوب آسيا إلى شرق المتوسط فهو «أداة التمكين والتوسع» من خلال علاقات شبكية عنكبوتية، ذات طابع عضوي عسكري واقتصادي وسياسي تمتد إلى خارج الشرق الأوسط. كما يجب أن نلاحظ أن إسرائيل، بعد إضافة الهند إلى معادلة التمكين قد عدلت مكونات معادلة مشروعها التوسعي إلى: (التكنولوجيا الإسرائيلية ورؤوس الأموال الخليجية والقوة البشرية الهندية). المكون الثالث يحل محل القوة البشرية العربية، كقوة عاملة وقوة شرائية، وهو ما يضع مصر تحت ضغط شديد، خصوصا وأن أول ثمار هذا التجمع هو مشروع للزراعة التكنولوجية وإنتاج الغذاء في الهند، بتمويل إماراتي يبلغ 2 مليار دولار، وتكنولوجيا إسرائيلية. وتعتبر إسرائيل أن الهند هي «الصين المقبلة» كقوة اقتصادية، مع فارق كبير يتمثل في أن تقسيم العمل الإقليمي داخل هذا التجمع يجعل إسرائيل هي الدماغ والمركز التكنولوجي حسبما جاء في بيان التأسيس.
وتسعى إسرائيل لأن يصبح «منتدى النقب» إطارا موازيا للمجموعة الرباعية «2I (تو اي = إسرائيل والهند) و2U= (الولايات المتحدة والإمارات المتحدة)» وقد أعلنت أن كلا منهما إطار مفتوح لعضوية أطراف أخرى، وهو ما يمهد الطريق لانضمام دول من شرق المتوسط وربما من آسيا الوسطى وأفريقيا. وليس لإسرائيل مصلحة كبرى في نجاح قمة «1+6+3» التي تضم الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي الست وثلاث دول عربية أخرى. بل إن فشل هذه القمة من شأنه أن يعزز «المجموعة الرباعية» و«منتدى النقب» والاتفاقيات «الإبراهيمية» التي جرت الإشارة إليها في البيانين التأسيسيين لكل من الرباعية والمنتدى وكذلك في «إعلان القدس». أن إسرائيل لا تريد ولا تسعى لعقد اتفاقية دفاع مشترك مع الولايات المتحدة. ولا تريد ولا تسعى لأن يكون أمنها مشروطا بدخولها كعضو في حلف عسكري إقليمي. وقد تعرض نتنياهو منذ سنوات قليلة إلى حملة انتقادات قاسية من جانب المنظمات الصهيونية في الولايات المتحدة عندما اقترح على ترامب عقد اتفاق للدفاع الاستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة. ويخطئ من يظن أن «إعلان القدس» هو خطوة على الطريق لتوقيع معاهدة للدفاع المشترك أو للتحالف الاستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة؛ فإسرائيل لا تريد من الولايات المتحدة أكثر من «تقديم التزامات بدون مقابل» لمساعدتها إلى الحد الأقصى «للدفاع عن نفسها، وليس أن تتولى الدفاع عنها». ويجب أن نفهم العلاقات الإسرائيلية-الأمريكية من هذا المنظور، وليس من المنظور السطحي الضحل السائد في الخطاب الشعبوي لدى القوميين العرب بأن إسرائيل هي ذيل الولايات المتحدة في المنطقة، أو أنها دولة لا تعيش وغير قادرة للبقاء إلا بالمساعدات الاقتصادية والعسكرية التي تحصل عليها من واشنطن. نعم، إسرائيل لا تتوقف عن الصراخ طلبا للمساعدة، وهي بذلك تبتز العالم كله، باعتبارها ضحية النازي الأحق بالمساعدة تكفيرا عن الذنوب التي ارتكبتها الحضارة الغربية ضد اليهود، لكنها أبدا لا تريد من الولايات المتحدة أو الغرب القيام بمهمة الدفاع عنها، وهي تصر على أن تكون هي المسؤولة عن الدفاع عن نفسها، وأن واجب الآخرين، خصوصا الولايات المتحدة، هو مساعدتها عسكريا لأن تكون الدولة الأقوى بين جيرانها.
المصالح الانتخابية
وبعد تقييم الزيارة والمشهد بأكمله من منظور استراتيجي بعيد المدى، فإنه من الضروري أيضا تقييمها من منظور «انتخابي» مباشر. ذلك أن زيارة بايدن للشرق الأوسط كرئيس للولايات المتحدة، التي جاءت بعد 18 شهرا من توليه الحكم، وقبل أشهر قليلة من موعد انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في تشرين الثاني/نوفمبر، وكذلك قبل أشهر قليلة من الانتخابات العامة الإسرائيلية المقررة في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل أيضا، منحت كلا من بايدن ولابيد فرصة ذهبية للوقوف على منصة عالية، يقدم كل منهما نفسه لناخبيه على أنه المرشح ذو المصداقية، الأجدر بالاختيار لقيادة سفينة بلاده في المرحلة المقبلة. كل منهما، بايدن ولابيد يواجه شبحا يطارده من الماضي، شبح ترامب يطارد بايدن، وشبح نتنياهو يطارد لابيد، ومن مصلحة كل منهما قطع الطريق على الشبح الذي يطارد الآخر. وقد كان كل منهما حريصا أشد الحرص خلال الزيارة على اختيار خطواته وكلماته بحساب دقيق، لكي يساعد نفسه على تحقيق الأمل المنشود. بايدن لا يخفي رغبته في الفوز بفترة رئاسة ثانية رغم اقترابه من الثمانين، ولابيد يسعى بكل قوة لأن يكون رئيس الوزراء المقبل لإسرائيل، رغم علمه أن «ييش أتيد» سيكون مضطرا في كل الأحوال إلى بناء تحالف أوسع للوسط واليسار والعرب من أجل صد «ليكود» وقطع الطريق على بنيامين نتنياهو، الذي التقاه بايدن، فأكد له الأول موقفه المتشدد بخصوص إيران والفلسطينيين والعرب، ولم يخف القول بأن سياسته في حال توليه رئاسة الحكومة المقبلة لن تتغير عما كانت عليه عندما كان رئيسا للحكومة الأسبق. بايدن يريد قوة منظمات الضغط التي يتحكم فيها اليمين الصهيوني في الولايات المتحدة، وكان حريصا على توظيف خطابه السياسي وأفعاله خلال وجوده في إسرائيل لكسب تأييد قيادات هذه المنظمات وحلفائهم داخل الكونغرس. كما حرص لابيد على توجيه خطاب سياسي لا يغضب المستوطنين، ولا يفسد محاولته الفوز بأكبر عدد ممكن من المقاعد في الكنيست المقبل.
الحصاد الاقتصادي
أما على صعيد قياس الحصاد الاقتصادي لزيارة بايدن، فإن ذلك يخضع لتدقيق ما تم إعلانه أو التوصل إليه في أربعة مجالات رئيسية هي، حاجة الولايات المتحدة لنفط الخليج وما تحقق في تلبيتها، وهو ما يخضع لتفاهم سعودي-روسي وليس على رغبة أمريكية، خصوصا وأن السعودية ضاعفت هذا العام وارداتها من مشتقات النفط من روسيا. ثم التطبيع بين إسرائيل والسعودية وما تم الاتفاق عليه من خطوات، خصوصا في فتح المجال الجوي السعودي للطيران الإسرائيلي، واتفاق الأمن لجزيرتي تيران وصنافير، واستمرار الاتصالات غير المعلنة. ثم استراتيجية التمكين والهيمنة، وما تم إعلانه في بيان التحالف الرباعي، والتعويضات المقدمة للفلسطينيين مقابل التخلي عن إثارة القضايا السياسية المتعلقة بحل الدولتين وما يرتبط به.