في مؤتمر صحافي، عقد في تشرين الاول/ اكتوبر 2011، نفى نوري المالكي، رئيس وزراء النظام العراقي، امكانية حدوث أي خلل أمني في البلاد في اعقاب انسحاب القوات الامريكية، قائلا: ‘إن القوات العراقية هي التي تدير الملف الامني منذ عام 2008، والقوات الامريكية لا تتدخل، فالكلام عن ارباك الوضع الامني بعد الانسحاب كلام غير دقيق’.
بعد شهرين، في كانون الاول/ ديسمبر 2011، وفي مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس الامريكي باراك اوباما، بعد ان اجبرت مقاومة الشعب قوات الاحتلال على الانسحاب، قال المالكي متبجحا: ‘لم يتصور احد اننا سننجح في هزيمة القاعدة والارهاب، والعراق اصبح اليوم يعتمد على اجهزته الامنية في تثبيت امنه نتيجة الخبرة التي حصل عليها’. واراد المالكي ان يستطرد اكثر لولا انه سرعان ما تذكر بانه واقف بجانب رئيس الولايات المتحدة فلم يتماد، كما يفعل عادة امام اجهزة الاعلام العراقية، في ادعاءاته بان سياسته وحزبه هي التي ادت الى اجبار قوات الاحتلال على الانسحاب، فقال مستدركا بأن العراق ‘يبقى بحاجة الى التعاون مع الولايات المتحدة في القضايا الامنية والمعلومات ومكافحة الارهاب ومجال التدريب والتجهيز’. واومأ المالكي برأسه موافقا حين حذر اوباما ‘دولا اخرى’ لم يسمها من اي ‘تدخل’ في شؤون العراق بعد انسحاب الجنود الاميركيين. وقد بين اوباما مستقبل السياسة الامريكية بالعراق مؤكدا: ‘اننا نقيم شراكة مع العراق من اجل امن المنطقة من خلال الشروع بمرحلة جديدة من العلاقات الإستراتيجية ضمن إتفاقية الإطار الإستراتيجي للتعاون، طويل الأمد، بين العراق والولايات المتحدة’. وأن ‘على العراقيين ان يعلموا انهم ليسوا بمفردهم. ان الولايات المتحدة شريك قوي ودائم لكم’.
فلا غرابة، بعد مراجعة هذه التصريحات من الجانب الامريكي، وربط العراق باتفاقية الاطار الاستراتيجي، المعتم عليها غالبا، ان تثار الكثير من التساؤلات حول دور الولايات المتحدة الامريكية في العراق الآن، عن خفوت صوتها، عما اذا كان لها دور اساسا، وعن مدى صحة تصريحات المالكي حول سيطرته على الوضع الامني وقضائه على القاعدة.
هذه التساؤلات، سواء في العراق او خارجه، خاصة في اجهزة الاعلام الامريكية، باتت مكثفة في اعقاب نجاح عملية اغارة على معتقلي ‘أبو غريب’ في الضاحية الغربية من بغداد، و’التاجي’ الواقع حوالي 40 كم شمال بغداد. مما ادى الى تحرير حوالي 800 معتقل، في عملية، تناقلت وكالات الانباء، تبنيها من قبل منظمة القاعدة، وبلا تحقيق، استنادا الى انها ‘تحمل ملامح عمليات القاعدة’ ونشرت على ‘موقع جهادي’، وكأن من الصعب افتتاح اي موقع كان. وصف الكثيرون العملية، من بينهم صحيفة ‘الهيرالد تريبيون’ الامريكية في افتتاحيتها، يوم 31 تموز/ يوليو، بانها فريدة من نوعها تنفيذا وكفاءة، مما يثير الشكوك حول قدرة حكومة نوري المالكي، أمين عام حزب الدعوة، على حفظ امن العراق، وانعكاسات ذلك على الأمن الامريكي ضمن سياسة ‘الحرب على الارهاب’. وهي النقطة الأهم بالنسبة الى امريكا، بعد السيطرة على مصادر الطاقة وتحقيق الأمن لدولة الكيان الصهيوني. وقد انعكس نجاح العملية في اختراق الاجهزة الامنية، التي خصص لها ميزانية تساوي 44 بالمئة من اجمالي الميزانية العامة للبلد، في اجهزة الاعلام العراقية والاجنبية بالاضافة الى تزايد استهانة المواطن العراقي بحكومة تعجز عن حراسة المعتقلات فكيف بحماية المواطنين في الاماكن العامة!
عبر الصحافي سرمد الطائي عن مشاعر الكثير من المواطنين حين تساءل، ساخرا بمرارة، في مقالة له (المدى 30 تموز/ يوليو)، هل الارهابيون اكثر نزاهة من رئيس مجلس الوزراء؟ واستطرد الطائي قائلا: ‘ما يعني انه تنظيم متقن، لا يكذب على نفسه، ولا يتذرع بالجهل، كما لا يرمي بالمسؤولية على ‘شركائه’، ويبدو ايضا ان قادة التنظيم غير الديمقراطي، ينجحون في احاطة انفسهم بخبراء لديهم كفاءة وإيمان بمبادئهم ‘الفاسدة’، بينما يحيط سلطاننا نفسه بعديمي الخبرة وناقصي الحكمة، والذين يكذبون عليه وعلينا بثمن موت احبتنا من البصرة الى الموصل’.
فما هو موقف الادارة الامريكية بعد ان صرحت المنظمة الدولية للشرطة الجنائية ‘الإنتربول’، أن اقتحام السجنين يشكّل ‘تهديدا كبيرا’ للأمن العالمي وان المعتقلين المحررين باتوا ‘خطرا عالميا’؟ خاصة ونحن نستعيد كلمات اوباما حول اتفاق الشراكة الذي اوضحه، قائلا: ‘سوف نكون شركاء لأمنِنا المشترك. لقد ناقشنا كيف يمكن للولايات المتحدة أن تساعد العراق في تدريب وتجهيز قواتها ليس عن طريق تمركز القوات الأمريكية هناك أو بوجود قواعد للولايات المتحدة في العراق، تلك الأيام قد ولّت… ونظراً للتحديات التي نواجهها معاً في منطقةٍ تتغير بسرعة فقد اتفقنا أيضاً على إنشاء قناة جديدة من الاتصالات الرسمية بين مستشارينا لشؤون الأمن القومي’.؟
تعامل البيت الابيض مع الحدث الذي هز العراق، بنوع من التجاهل تاركا للسفارة الامريكية، ببغداد، المجال . اذ قال المتحدث الرسمي، بان الولايات المتحدة ‘قلقة للغاية’ حول الهجمات الارهابية ومستويات العنف العامة. وان الولايات المتحدة على اتصال مستمر مع الحكومة العراقية ‘ للمساعدة في تحسين قدرتها على إضعاف أو هزيمة القاعدة داخل العراق’. وعزا جيمس جفري، السفير الامريكي السابق في العراق، التدهور في استجابة القوات الامنية العراقية، الى تدهور مهاراتها وكفاءتها منذ رحيل القوات الامريكية عن العراق نهاية 2011. وهو تصريح قد يراد منه تغيير طبيعة العلاقة ‘الناعمة’، المغلفة بالتحجيب الاعلامي، الى علاقة علنية تماثل ما كانت عليه قبل اعلان الانسحاب.
فالمعروف ان هناك اجتماعات دورية منتظمة وخطوط اتصال ‘للاستشارة واسداء النصح والتدريب’ بين مسؤولين امريكيين ومسؤولي النظام العراقي باسم ‘اللجنة العليا المشتركة’. وان اكبر سفارة في العالم موجودة تظلل بقواتها الخاصة ورجال مخابراتها بيوت ومكاتب مسؤولي النظام في المنطقة الخضراء. وان الرؤية الامريكية لمستقبل ‘الشراكة’ مشروط، كما قال اوباما في خطابه (13 كانون الاول 2011): ‘سوف نكون شركاء لأمنِنا المشترك’. هذه الشراكة ستتم ‘ليس عن طريق تمركز القوات الأميركية هناك أو بوجود قواعد للولايات المتحدة في العراق ـ تلك الأيام قد ولّت ـ بل من خلال نوع التدريب والمساعدة التي نقدمها لدولٍ أخرى. ونظراً للتحديات التي نواجهها معاً في منطقةٍ تتغير بسرعة فقد اتفقنا أيضاً على إنشاء قناة جديدة من الاتصالات الرسمية بين مستشارينا لشؤون الأمن القومي’.
يشير مسار التصريحات والاحداث، الأخيرة، اذن، الى رغبة الادارة الامريكية في تقوية دورها الامني والاستخباراتي، علنيا واعلاميا، للاستفادة مما تم الاتفاق حوله مع المالكي، منذ اشهر، وأعلن عنه كــ ‘تفعيل’ لاتفاقية الاطار الاستراتيجي، خاصة العمليات الخاصة تحت بند مكافحة التمرد.
ان نجاح عملية الهجوم وتحرير عدد من المعتقلين من سجني ابو غريب والتاجي، وتبنيها من قبل منظمة القاعدة، واعتراف مختلف الجهات بكفاءة التخطيط والتنفيذ، على دمويته، فضح زيف الصورة التي يقدمها المالكي عن سيطرته على الوضع الأمني، كما يجعل اللاعبان الرئيسيان في الساحة، أي الولايات المتحدة وايران، امام خيار تصعيد العنف من حالة ‘الحرب منخفضة المستوى’ الى الحرب الأهلية، حماية للأمن القومي الامريكي والايراني من جهة، ولاستمرار استعراض قدرتهما على تسيير الامور وابقاء العراق، كمنصة لمفاوضاتهما، من جهة ثانية. ففي الوقت الذي كشفت فيه صحيفة ‘الهيرالد تربيون’ عن ميل المالكي المتزايد نحو ‘التدريب والاستشارة’ ومع تواجد القوات الخاصة والسي آي أي الامريكية، أعرب المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، عن ‘قلق ايران العميق’ إزاء انتشار الأنشطة الإرهابية في العراق وسعي الجماعات الإرهابية لتحقيق أهداف سياسية غير شرعية واستهداف ‘العالم الاسلامي’. كل ذلك يتم على حساب عدد الضحايا العراقيين الذين بلغ عددهم 1057 قتيلا خلال الشهر الماضي فقط.
‘ كاتبة من العراق