بقي حي الشجاعية المعقل الرئيسي لحماس في شمال قطاع غزة، الذي ما زال يجري فيه قتال شديد. في الوقت الحالي، يظهر الجيش الإسرائيلي بعيداً جداً عن تحقيق السيطرة في هذا الحي. المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي أعلن عن مقتل سبعة مقاتلين من لواء “غولاني” ووحدة الإنقاذ 669 في معركة مع حماس في الحي. من بين القتلى قائد كتيبة في “غولاني” واثنان من قادة الفصائل في اللواء وقائد فصيل في وحدة 669. كما قتل جندي آخر في معركة أخرى شمالي القطاع. أصيب القتلى أثناء السيطرة على مركز القصبة القديم والمكتظ. يظهر من التحقيقات الأولية أنهم وقعوا في كمين مركب شمل إطلاق قذائف “آر.بي.جي” وتفعيل حقل ألغام ضد عدد من قوات الإنقاذ.
يبدو أن المقاومة تقلصت قليلاً مؤخراً في مخيم جباليا. في مناطق أخرى في شمال القطاع التي سيطر الجيش الإسرائيلي على جزء منها منذ فترة، تستمر نشاطات كثيفة للبحث عن فتحات أنفاق وسلاح ومخابئ لحماس، وتحدث بين حين وآخر حادثة محلية تدل على أن رجال حماس ما زالوا نشطين في المنطقة. أما جنوبي القطاع فيستمر الجيش الإسرائيلي في تركيز نشاطاته في خانيونس وعلى اللواء القطري لحماس.
الأفلام التي ينشرها المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي عن المعارك تعكس صورة وضع معقدة. المقاتلون الذين يعودون من القطاع يتحدثون عن تقدم بطيء ومحسوب، وبأن وقتاً كبيراً يمر على القوات بانتظار التعليمات لاحتلال مناطق أخرى. ولكن القتال نفسه لمقاتلي المشاة وبدرجة كبيرة سلاح الدبابات، يكون من مسافة قريبة جداً وفي منطقة مأهولة ومكتظة، جزء منها دُمر. المنطقة المأهولة إضافة إلى فتحات الأنفاق التي بقي كثير منها قابلاً للاستخدام، تمكن خلايا حماس من الاحتكاك مع الجيش الإسرائيلي، وأحياناً من مسافة بضعة أمتار.
هذا واقع يقلص التفوق النسبي للجيش الإسرائيلي بشكل جزئي، سواء في التكنولوجيا أو جمع المعلومات، ويجبي إصابات فينا. تبدو الأمور بشكل جيد في التوثيق الذي نشر أمس، الذي ظهر فيه مقاتل من وحدة “يهلوم” في سلاح الهندية وهو يقتل مخربين في اشتباك من مسافة صفر داخل شقة، وأصيب بشظايا قنبلة أثناء ذلك. المشاهدون في البيوت تأثروا بالتأكيد من شجاعة وهدوء هذا المقاتل، لكنهم ربما تساءلوا عن طريقة أخرى أكثر أمناً لمعالجة الخطر.
النشاطات الهجومية يرافقها استمرار الجهود للعثور على جثث للمخطوفين. أول أمس، تم العثور على جثتين للشاويش زيف دادو من لواء “غولاني” ولعيدن زخاريا، وهي فتاة من حفلة نوفا. هناك جهود عملياتية كبيرة تستثمر في ذلك إضافة إلى العمليات الاستخبارية. قتل في الاسبوع الماضي أثناء العملية جنديان من الاحتياط من لواء المظليين 551: الرائد أياد مئير باركوفيتش، والرقيب غال مئير آيزنكوت.
في المقابل، يبدو أنه لم يبدأ بعد أي تقدم جديد في الاتصالات لعقد صفقة تبادل. الوسطاء في قطر وإلى جانبهم دولة أخرى، يحاولون عقد صفقة جديدة للتبادل تشمل إطلاق سراح عدد من الـ 135 مخطوفاً، الأفضلية للنساء والرجال المرضى والمصابين والمسنين. لكن حماس لا تظهر أنها في استعجال.
كانت الصفقة السابقة حاسمة لها لأنها؛ فقد كانت بحاجة إلى وقف لإطلاق النار لمدة أسبوع للانتعاش وتنظيم قواتها في ظل الهجوم الإسرائيلي. الآن حيث أصبح شمال القطاع في معظمه تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي وانسحب منه معظم مسلحي حماس، فلا يظهر ضغط مشابه في أوساط قيادة حماس. جهات رفيعة في حماس قالت إنه لن يتم إطلاق سراح مخطوفين آخرين إلا في صفقة شاملة يطلق فيها سراح جميع السجناء الفلسطينيين في إسرائيل. حتى الآن لا دلائل على أن حماس تشعر بانخفاض قدرتها على المساومة في المفاوضات.
في المقابل، رغم الوضع الصعب للمخطوفين (الذين أعن الجيش عن موت 20 منهم)، فلا يبدو أن القيادة في إسرائيل تسارع إلى عقد صفقة. في الخلفية صعوبات سياسية؛ فرئيس الحكومة نتنياهو، يخشى من انتقاد الجناح اليميني المتطرف في الائتلاف حول صفقة أخرى، التي سيراها تنازلاً لحماس وتشويشاً على سير العملية البرية.
حدود الصبر الأمريكي
ثمة تشخيص آخر يسمعه القادة والجنود، يتعلق بكمية كبيرة من السلاح والعبوات الناسفة التي تعثر عليها قوات الجيش الإسرائيلي أثناء عمليات التمشيط. أحياء كاملة في القطاع استخدمتها حماس كمناطق عسكرية، أقامت فيها منظوماتها الدفاعية ضد الغزو الإسرائيلي. هذا الاستعداد يشمل تفخيخ بيوت كثيرة إلى جانب مخزون كبير من السلاح. في الوقت نفسه، بذلت جهود كبيرة في حفر شبكة الأنفاق التي تفوق قوتها ما توقعته الاستخبارات، إضافة إلى إنتاج السلاح وتهريبه.
السلاح الذي يتم تهريبه وصل في معظمه عبر الأنفاق بين شطري رفح. وليس واضحاً مدى مساهمة غض نظر مصر المتعمد في عمليات التهريب. ولكن العامل الأكبر الذي ساهم في مشروع حماس هي قطر. مليارات الدولارات التي حولتها لغزة ساعدت السكان الفقراء، لكنها فعلياً أعفت حماس من عبء الاهتمام بالمدنيين. إضافة إلى ذلك، نشرت “نيويورك تايمز” هذا الأسبوع بأن الاستخبارات الإسرائيلية اكتشفت مؤخراً بأن قطر قد حولت بشكل مباشر أموالاً لذراع حماس العسكري، ومع ذلك لم توقف الحكومة الدفعات الشهرية القادمة من الدوحة لغزة.
نتنياهو، المسؤول الرئيسي عن ذلك وعن فشل إسرائيل الشامل في معالجة موضوع القطاع خلال 15 سنة تقريباً، يستمر في تضليل الجمهور وتشويشه. رئيس الحكومة في حملة سياسية، ورسالته الأساسية للجمهور أنه الوحيد الذي بإمكانه إفشال المؤامرة الأمريكية بدمج السلطة الفلسطينية في السيطرة على القطاع في حالة هزيمة حماس هناك. نتنياهو صدر كل يوم تصريحات هجومية حول ذلك، في الوقت الذي يجد نفسه في عمليات حسابية مع خصومه السياسيين. أول أمس، كان منشغلاً ليثبت أن عدد القتلى في عملية أوسلو خلال عقد، يشبه عدد ضحايا هجوم 7 تشرين الأول.
على خلفية أقواله، نفهم تصريح الرئيس الأمريكي بأنه يحب نتنياهو ولكنه لا يتفق معه على أي شيء (الجزء الأول يمكن عزوه لتهذيب أمريكا المبالغ فيه). وقال بايدن أيضاً إن على نتنياهو إجراء تغيير في تشكيلة حكومته، وحذر من فقدان تأييد العالم لإسرائيل. في المقابل، يستمر الرئيس في تبرير هجوم إسرائيل رداً على المذبحة التي نفذتها حماس في بلدات الغلاف ويعارض فرض وقف فوري لإطلاق النار.
رغم التصريحات المتناقضة، يبدو أن خطوط التوافق بين الولايات المتحدة وإسرائيل بقيت واضحة. إذا استمرت إسرائيل في الاستجابة لطلبات أمريكا، على رأسها ضخ المساعدات الإنسانية للغزيين، فستسمح الولايات المتحدة للجيش الإسرائيلي بوقت إضافي للعمل في القطاع ضمن الإطار الحالي الواسع. ولكن صبر أمريكا محدود، وربما نشعر بتغير في موقف أمريكا خلال بضعة أسابيع.
اضطر نتنياهو للتراجع؛ فخلافاً لتصريحاته السابقة، سمح بإدخال كمية كبيرة من الوقود إلى القطاع الذي يصل جزء منه إلى حماس. ولكن تصريحاته الأخيرة، إلى جانب رفضه الانشغال بمخرج سياسي مستقبلي من المواجهة، تستمر في خلق التوتر مع واشنطن. هذه الأمور ستتجلى في الغد عندما يصل مستشار الأمن القومي الأمريكي، جاك سوليفان، في زيارة أخرى لإسرائيل والمنطقة.
سيضطر سوليفان إلى التعامل مع الوضع الذي يتصاعد بسرعة في البحر الأحمر. الحوثيون في اليمن هاجموا أمس سفينة أخرى كانت تبحر وهي ترفع علم النرويج، وهددوا بإغلاق كامل لمضيق باب المندب أمام السفن المتوجهة إلى إسرائيل. المشكلة هي كما أكدت مصادر رفيعة في الجيش الإسرائيلي، ليست إسرائيلية فقط؛ إذ يمر 13 في المئة من حجم الملاحة العالمية في المسار القصير للشرق الأقصى عبر قناة السويس والبحر الأحمر، وثمة حاجة لتحالف دولي حازم من أجل محاربة ذلك كما حدث قبل عقد ضد قراصنة من الصومال عملوا في تلك المنطقة.
عدم يقين
التجربة التي تمر على المقاتلين في الجيش النظامي وفي الاحتياط استثنائية جداً؛ سواء القتال في منطقة مأهولة ومكتظة أو الفترة الزمنية للقتال بقوة كبيرة. العبء على “الاحتياط” يذكر بالسنتين بعد حرب لبنان الأولى.
في محادثات مع مقاتلين في الاحتياط يمكن ملاحظة دافعية عالية للقتال وإيمان كبير بعدالة المعركة. ولكن إضافة إلى ذلك، هناك دلائل على “التآكل”، وتساؤلات حول مدة المعركة ونتائجها المتوقعة. ويظهر أيضاً انتقاد شديد لسلوك الحكومة، التي ينشغل وزراؤها بسرقة الأموال الائتلافية ويعالجون ببطء وإهمال الكثير من الإسرائيليين الذين تضرروا نتيجة الحرب.
يبدو أن هيئة الأركان العامة لم تستوعب بعد حجم الحدث في الاحتياط، وتداعياته الكثيرة المتوقعة. هناك فجوة بارزة بين رجال الخدمة الدائمة ورجال الاحتياط، التي يصعب جسرها في الأوقات العادية. ولكن على الجيش الإسرائيلي الآن الإسراع وإعداد نفسه بخطط لجهاز الاحتياط في السنة القادمة. بدون مقاربة جدية ومنظمة ونزيهة مع وحدات الاحتياط، سنكون أمام شرخ يؤثر على أداء القتال أثناء المعركة.
عاموس هرئيل
هآرتس 13/12/2023