الناصرة- “القدس العربي”: تعرب أوساط رسمية وغير رسمية في إسرائيل عن مخاوفها من مقاضاتها في محكمتي الجنايات والعدل الدولية في هاغ، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وإبادة شعب ومحاولات تهجير للفلسطينيين.
رغم الانتقادات في العالم، تواصل جهات إسرائيلية غير قليلة التورّط بخطاب الترانسفير. وفي المقابل، تحذر جهات أخرى من أن ذلك ينطوي على أدلة قضائية ستستخدم ضد إسرائيل، خاصة أن هناك وزراء ما زالوا يتحدثون علانية عن القتل والإبادة والتدمير والتهجير. وضمن ردود الفعل الدولية انضم “الاتحاد الأوروبي”، أمس، لانتقادات محلية ودولية، أمريكية أيضاً، لتوجهات الوزيرين الداعيين لترحيل الفلسطينيين إيتمار بن غفير وباتسلئيل سموتريتش، محذّراً أن ذلك انتهاكٌ للقانون الدولي.
ويتزايد القلق في إسرائيل من احتمال مقاضاتها على جرائمها بحق الفلسطينيين المدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، خاصة خلال الحرب على غزة، التي تدخل اليوم الخميس يومها التسعين، دون تحقيق أهدافها المعلنة.
أوساط تحسب نفسها على اليسار الإسرائيلي تناصر فكرة “التهجير الطوعي” لفلسطينيي القطاع، بحجة أن هذا يخدم هدفاً إنسانياً
يتزامن ذلك مع توجّه جنوب إفريقيا لمحكمة العدل الدولية في هاغ، طالبةً فتح ملف تحقيق ضد إسرائيل، بشبهة ارتكاب جريمة إبادة شعب وجرائم حرب، وتتجه وزارة القضاء الإسرائيلية لعدم مقاطعة المحكمة، بل انتداب قاض دولي بارز للدفاع عنها هناك.
لكن خطاب التهجير الذي طرح من جديد مع بداية الحرب على غزة يتصاعد في الأسابيع الأخيرة. وفي الأمس، عقد في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) اجتماعاً للتداول في مسألة “تهجير الفلسطينيين من القطاع، واستعادة المستوطنات الإسرائيلية داخله”، قال فيه النائب تسفي سوكوت (حزب “القوة اليهودية”)، على سبيل المثال، إنه على الأقل ينبغي احتلال شمال القطاع وضمّه وتدمير منازل الفلسطينيين وبناء مستوطنات على أنقاضها.
وقبل ذلك، أدلى نائب من “الليكود” (الحزب الحاكم) موشيه سعاديا، بأقوال تندرج ضمن دعوات التدمير والتهجير: “كما هو مفهوم للجميع بأن اليمين كان محقّاً بما يتعلّق بالشأن الفلسطيني، فاليوم حيثما ذهبت تسمعهم يقولون لك: دمروهم”!
لكن خطاب التدمير والتهجير، وتسوية قطاع غزة مع الأرض، يرد على لسان الوزراء، لا النواب فحسب، فقد سبق أن قال وزير المالية والوزير الإضافي باتسلئيل سموتريتش إنه “إذا كان داخل قطاع غزة 100 أو 200 ألف عربي وليس مليونين فإن كل خطاب “اليوم التالي” سيتغيّر”.
وهذا ما يتفق معه وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، الذي لا يكفّ عن الدعوة للمزيد من القتل والتدمير، ويدعو لتركيز مشروع “الهجرة طواعية” لتشجيع هجرة الفلسطينيين من غزة.
وشهدت الساحة السياسية الإسرائيلية دعوات مماثلة وأشد خطراً، مع شن الحرب على غزة، فقد سبق وعبّر وزير التراث اليهودي عمّا تتمناه أوساط إسرائيلية غير قليلة بقوله إنه ينبغي إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة كواحدة من الطرق للانتصار في الحرب.
وقبل ثلاثة أيام، هاجمت الوزيرة المستوطنة أوريت ستروك سلاح الجو لأن “طياريه يرفضون للوهلة الأولى القيام بقصف مدنيين داخل القطاع” وكأن كل هذا الدمار والقتل والمذابح لا يكفيها ولا تشبع شهوة الانتقام والقتل والكراهية للفلسطينيين.
يتفق مع ذلك بعض الجنرالات في الاحتياط، أمثال مستشار الأمن الأسبق غيورا ايلاند، الذي يواصل بشكل منهجي، تصريحاً وكتابة، مطالبته بخنق غزة، وحرمان كل سكانها من الماء والدواء، بدعوى أنه لا فرق بين مدنيين وعسكريين، و”كلهم إرهابيون”، وأنه بدون ذلك ستفشل إسرائيل في حربها.
وتعكس مثل هذه التصريحات أفكاراً دفينة معشّشة في أذهان عدد كبير من الإسرائيليين، بعدما بات خطاب التهجير القسري، أو التهجير الصامت، أو التهجير طواعية، جزءاً من الخطاب السياسي السائد، ومن التيار الرئيس في الحلبة الإسرائيلية، بعدما كان محصوراً في هوامشه. واللافت أن هذا الخطاب الإجرامي له جذور في اليسار الصهيوني، قبل وخلال وبعد نكبة 1948، وما زالت أوساط تحسب نفسها على هذا اليسار تناصر فكرة “التهجير الطوعي”، أمثال رئيس لجنة الخارجية والأمن المعارض رام بن براك (حزب “هناك مستقبل”)، الذي كتب مقالاً مشتركاً مع نائب “الليكود” المتشدد دان دانون طالباً فتح باب الهجرة للفلسطينيين داخل القطاع، بحجة أن هذا يخدم هدفاً إنسانياً.
إن تصاعد هذا الخطاب في إسرائيل، تزامناً مع هذه الحرب على غزة، يعكس أيضاً حالة عماء وعنصرية مرضية غريبة الأطوار، لا تؤمن بإنهاء الاحتلال والصراع على مبدأ الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، بدلاً من مواصلة إدارته ومحاولة كنس القضية الفلسطينية تحت سجادتهم، رغم أن هذه الرؤية قد تفجّرت في وجه إسرائيل في السابع من أكتوبر، ولحدّ بعيد يعكس هذا الخطاب مشاعر إحباط من فشل هذه الحرب في تحقيق أهدافها المعلنة.
على خلفية كل ذلك، تحذّر بعض الأوساط الإسرائيلية من استمرار الوزراء والنواب في دعواتهم للتهجير والتدمير، منها صحيفة “هآرتس” التي تدعو في افتتاحيتها اليوم لليقظة قبل أن “يقع الفأس بالرأس”.
في إسرائيل حالة عماء وعنصرية مرضية غريبة الأطوار، لا تؤمن بإنهاء الاحتلال والصراع على مبدأ الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، بل بمواصلة كنس القضية الفلسطينية تحت سجادتهم
تقول “هآرتس” إن جنوب إفريقيا تؤسّس دعواها القضائية على المساس الواسع بالمدنيين داخل القطاع، الجوع والحالة الإنسانية، منوهة أن “إبادة شعب” غير معرّفة من خلال عمليات تقوم بها دولة معيّنة، بل من خلال نيّة بإبادة مجموعة سكانية معينة كلها، أو قسم منها. وتمضي “هآرتس” في تحذيراتها: “حقيقة أن إسرائيل تقاد من قبل حكومة هي الأكثر تطرّفاً في تاريخها، وأعضاؤها يتحدثون عن “محو قطاع غزة”، ويتدارسون علانية فكرة الترانسفير، يدعون لاحتلال قطاع غزة، وبناء مستوطنات داخله مجدداً، لجانب الحقيقة أن النقاش الجماهيري يعمل على تطبيع قتل 50 ألفاً، أو 100 ألف مواطن في غزة، تجويع السكان، ومنع دخول مساعدات إنسانية، كوسيلة ضغط على “حماس”.. كل ذلك من شأنه أن يساعد محكمة العدل العليا في هاغ لأن تنسب لإسرائيل النوايا بالمساس بالمدنيين.
وتتابع: “تصريحات التهويش لدى قادة كبار في إسرائيل تزيد من خطورة حالتها القضائية. الإسرائيليون لا يسمعون أنفسهم. منذ بدء الحرب تزايدت لدى الوزراء والنواب دعوات من شأنها أن تعتبر شهادات على النيّة بتنفيذ جرائم ضد البشرية. في إسرائيل ربما يتعاملون مع مثل هذه التصريحات بوصفها شعبوية رخيصة، لكن في العالم يتعاملون معها بجدية”.
وتخلص “هآرتس” للتأكيد على أن خط الدفاع يكمن في قيام إسرائيل بالإثبات بأنها تفعل كل شيء لمنع المساس بالمدنيين، وتدخل دوماً مساعدات إنسانية، وتعمل ضد “حماس” فقط، لكن الطريق المجدية لزعزعة أسس الدعوى ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية هي إبعاد الوزراء المحرضين المشجعين على ارتكاب جرائم حرب من الحكومة.
وتتابع: “هكذا فقط يمكن إقناع العالم بأن الأفكار العبثية التي ينشرها هؤلاء الوزراء لا تمثّل الواقع. ينبغي فعل ذلك بسرعة قبل أن يدفع هؤلاء الوزراء إسرائيل نحو هاوية ومكانة الدولة مجرمة الحرب”.
ويبدو أن قيام محكمة العدل الإسرائيلية، أمس، بإصدار حكم جديد ضد الحكومة يلغي هذه المرة قانون تحصين مكانة رئيس الوزراء والمعروف بقانون التعذّر، أي منع خلع رئيس وزراء من منصبه خلال أدائه منصبه، بعد يومين من حُكم آخر ألغى قانون المعقولية، هو رسالة إسرائيلية للعالم بأن هناك جهازاً قضائياً إسرائيلياً مستقلاً قادراً على ملاحقة المتورطين في انتهاكات خلال الحرب، ولا حاجة لتدخل محاكم دولية.
تزامناً وانسجاماً مع هذا الخطاب الإجرامي، خطاب “التهجير طواعية”، الترحيل المختبئ خلف كذبة “الطواعية”، كشف النقاب، اليوم، عن نيّة السلطات الإسرائيلية بدء تهجير مواطنين من فلسطينيي الداخل والقدس للضفة الغربية، بدعوى إدانتهم بـ “الإرهاب”، استناداً لتطبيق قانون تم تشريعه في شباط الماضي.
ومن جهته، قال الناطق بلسان وزارة الداخلية الإسرائيلية، اليوم، لإذاعة جيش الاحتلال إن التقرير السري حول ذلك، والذي تمت صياغته داخل لجنة الخارجية والأمن في الكنيست لم يصل وزارته بعد، ولذا ليس بوسعه التطرّق للنشر حول النيّة بالشروع بتطبيق قانون التهجير المذكور.