في الماضي القريب، كانت العملية التواصلية ذات الأصول اللسانية، قد حُدِّدتْ، من قبل المنظر اللساني ياكوبسن، في ستة عوامل هي:
– المرسل (Le destinateure): هو من يستقبل الرسالة، وهو حسب ياكوبسون نوعان: مستقبل/قارئ بسيط، يتفاعل مع الخطاب بشكل سطحي وعفوي، ومستقبل متخصص، يتميز بكفاءة عالية في فك رموز الرسالة قصد فهمها.
– المرسل إليه ( Le destinataire): مصدر الرسالة الموجهة إلى المرسل إليه. له قدرة على التشفير والترميز بوصفه منتجا للخطاب.
– الرسالة (Le message): عبارة عن خطاب قد يكون شفويا أو كتابيا، وفي كلتا الحالتين، فهو يقوم على أبنية من داخل نظام لغوي، له قوانينه الخاصة. وتبقى الرسالة، هي العنصر الرئيس في العملية التواصلية.
– السنن (Le code ): عبارة عن شبكة نظامية من القوانين اللغوية المشتركة بين المرسل والمرسل إليه، التي تقوم عليها الرسالة. ويمكن تقسيم هذه الشبكة إلى أربعة مستويات: المستوى الصوتي، والمستوى الصرفي، والمستوى التركيبي، والمستوى الدلالي.
– القناة (Le canal ): وسيط عبره تمر الرسالة، ومن مهامها الرئيسة قيام التواصل.
– السياق (Le context ): هو المرجع الذي تحيل عليه الرسالة، لأن هذه الأخيرة تنشأ في سياق معين، ولا يمكن البتة فكُّ رموزها وسننها إلا بالعودة إلى هذا السياق. (وللتوسع في هذا الموضوع، يمكن مراجعة كتاب «قضايا الشعرية» لياكوبسن، ترجمة محمد الوالي ومبارك حنون، دار توبقال للنشر ط1، 1988). وسرعان ما استثمر منظرو الأدب هذا التحديد التواصلي في الحقل الأدبي، على اعتبار أن النص الأدبي هو عملية تواصلية لسانية بالأساس، خصوصا رواد البنيوية بتفريعاتها المعروفة. بعد ذلك، ومع تطور الأبحاث والعلوم في الإنسانيات، سوف يتبين أن النص الأدبي ليس مجرد ظاهرة لسانية أدبية فقط، بل إن أشياء وعناصر أخرى، لا علاقة لها بالنص كنظام لغوي، تتدخل في هذه العملية، إلا أنه تم تغييبها من قبل البنيويين بداعي العلمية (العلموية/كادامير) التي قتلت الأدب أو جعلته، على الأقل، يعيش في خطر (الأدب في خطر/تودوروف). الشيء الذي سيفسح المجال أمام أبحاث وفروض، من خارج هذه النظرية، لعل من أهمها كان النقد الثقافي.
لقد لاحظ محمد الغذامي رائد ومؤسس هذه المقاربة النقدية الجديدة، في الوطن العربي، أن النص الأدبي يُكتب من طرف مؤلِّفٍ يختفي وراءه مؤلِّفٌ آخر، يتحكم في العملية الإبداعية بطريقة ماكرة، تجعله يمرر أنساقا ثقافية مضمرة تشكلت في منطقة اللاوعي، دون أن ينتبه إليها المؤلِّف الأول. وهي أنساق تقليدانية تستحكم فيها الذكورة/الفحولة والاستبداد وغيرهما من الأنساق الرجعية، وينبغي على الناقد الذكي، الذي يمتلك بعد نظر ثاقب، أن ينتبه إلى هذه الأنساق الثقافية، وأن يعمل على فضحها والكشف عنها. وقد آثر عبد الله الغذامي، في ضوء هذا الاستدراك، إضافة عامل آخر للعوامل الستة الموضحة أعلاه، سماه «النسق المضمر» (الوظيفة النسقية). إلا أن ظهور ما يسمى الآن بالأدب الديجيتالي أو الرقمي، أو غير ذلك من التسميات، التي لها علاقة بالشبكة العنكبوتية، سيجعل العملية الأدبية تبدو أكثر تعقيدا عن ذي قبل، على اعتبار أننا صرنا نواجه وسيطا إلكترونيا جديدا (الحاسوب في علاقته بالشبكة العنكبوتية/النت) تتحكم فيه خوارزميات جد معقدة، بما يؤثر على العمل الأدبي وتلقيه في الوقت نفسه، ويضعنا، من ثم، في سياق مختلف، قد يتراجع فيه الذكاء (الخيال) الطبيعي لفائدة الذكاء (الخيال) الاصطناعي. وهو وسيط (ربو/آلة) يمارس نوعا من النزوع نحو الهيمنة، والسيطرة الثقافية، كما يمارس نوعا من الوصاية على كل من يرتبط بهذا الفضاء السيبراني، وذلك من خلال الصورة المخادعة، القائمة على الذكاء الاصطناعي، علاوة على تسهيل عملية التفاعل السطحي مع المحتويات المعروضة، تلك التي تُعطِّل الاجتهاد الذاتي، بما يغذي أجندة إمبريالية جديدة، تسعى جاهدة إلى تكريس ثقافة جديدة، سمتها الأساسية الاستهلاك السلبي، دون نقد أو تمحيص، حتى أنها أصبحت، للأسف، ثقافة متفشية في العالم بأسره، وبمباركة عولمة خبيثة في الكثير من جوانبها. إنها هيمنة مزدوجة، ووجب الحذر منها: فمن جهة، هيمنةُ الآلة ومحاولتها التحكم في الإنسان، لأنها بكل بساطة، أصبحت تنوب عنه في التفكير والتخيل، ومن جهة أخرى، هيمنة القوى المتحكمة في ظاهرة العولمة، التي قد تنمط الإبداع في العالم، وتفرغه بذلك من معناه، مُحوّلة إياه إلى مجرد بضاعة لا قيمة لها. وأتصور أننا اليوم في أمس الحاجة لتغيير نظرتنا للأدب، في ضوء هذا العامل التواصلي الثامن، الذي انضاف إلى العوامل السبعة المشار إليها سالفا، يتعلق الأمر بعامل الوسيط الإلكتروني. فكيف يمكن للناقد الأدبي، أمام هذا الوضع الملتبس والمعقد، أن يجدد طريقة (حتى لا أقول منهج) تعامله المحتملة مع أدب، تتحكم فيه حواسيب ذكية، بمعادلاتها الخوارزمية الرياضية، التي تعمل جاهدة، وبشكل موجه، على إخضاع الإنسان، من خلال قتل كل ما يملك من كفاءات كالذكاء والعقل والخيال؟
إنه في خضم هذه التحولات الجذرية، قد اعتور مفهوم الأدبية، الكثير من الشوائب والتحولات الخطيرة، ما جعل جماليات النص الأدبي، بمعناها التقليدي تتبدّد. لقد أصبح هذا الفضاء السيبراني العجيب، يمنح الكاتب إمكانات تكنولوجية هائلة، لا علاقة لها بما كان متاحا إلى حدود الأمس القريب. وبالتالي أثر هذا الأمر على هوية النص الإبداعي، الشيء الذي فرض ضرورة خلق قارئ/ناقد خاص، له إلمام بأدق تفاصيل وجزئيات عالم الرقمنة، بما يفسح المجال واسعا، أمام نقد جديد ومختلف تماما، يسميه البعض اليوم بالنقد الرقمي (الديجيتالي). إن من شروط نجاح الناقد الديجيتالي، في يومنا هذا، أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط، فضلا عن إلمامه بجماليات النص الأدبي، وتاريخ الأدب. ومن جملة هذه الشروط:
– درايته بجهاز الكومبيوتر، وإتقانه لطريقة التعامل معه، وعلمه بأهم التطبيقات المتاحة، وتمكنه من لغة البرمجة.
– اطلاعه على مختلف الفنون، الأدبية منها، وغير الأدبية خصوصا الفنون البصرية، التي تعتمد الصورة وسيلة للتعبير، كتقنية الفيديو، والسينما، والتشكيل، والكرافيك، والموسيقى…
– تمييزه بين منصات التواصل الرصينة والمسؤولة، التي تعتمد القيمة الفنية للنص الإبداعي معيارا للنشر، والمواقع التجارية التي تكون غايتها الأولى من وراء نشر النصوص، كسب أكبر عدد ممكن من المنخرطين والمتابعين.
– أن لا ينساق وراء الانبهار المتسرع بالنص الإبداعي لمجرد جمع هذا الأخير لكم هائل من اللايكات والتعاليق وما جاور ذلك.
– أن يأخذ بعين الاعتبار أن وضع النص الإبداعي الرقمي، وضع غير ثابت، بل متشابك ومتحول باستمرار.
وتبقى هذه الإشارات، مجرد ملاحظات أولية، تحتاج إلى تمحيص وتدقيق علمي مرتهن بنضج هذه التجربة الإبداعية الجديدة، ووضوح معالمها، ما دام عمرها لم يتجاوز أربعة عقود أو أكثر بقليل، وهي مدة، على كل حال، ما زالت قصيرة جدا، بالنظر إلى زمن تطور الأنواع الأدبية.
شاعر وناقد مغربي