من دونتسك إلى الموصل: إعادة رسم «رقعة الشطرنج» العالمية

حجم الخط
1

عاد الاهتمام الامريكي بمنطقة الشرق الاوسط، بعد ان بدت ادارة الرئيس باراك اوباما وكأنها ادارت ظهرها لمشاكل المنطقة، وقالت ان مركز ثقل استراتيجيتها العالمية يتجه صوب منطقة الباسيفيك. فهل ظهور ارهاب «داعش» كان السبب وراء هذه الاستدارة والاهتمام المتجدد بالمنطقة؟
في الواقع يبدو ان سطوع خطر التنظيم المروع باعتباره يمثل تهديداً إرهابياً أكثر تطرفاً من «القاعدة»، بعملياته المرعبة وذبحه لمواطنين أمريكيين، كان أحد الاسباب وليس كل الاسباب. فهو أحد الأسباب لأنه استطاع ان يضم متطرفين متعصبين معبئين ايديولوجيا وجهاديا، تمكنوا من دحر وحدات عسكرية تقليدية في كل من سوريا والعراق، وتضاعف عددهم بعد استيلائهم على السلاح وتجنيدهم للمزيد من العناصر، بل ان هذا التنظيم الإرهابي استطاع بسط سيطرته على مناطق شاسعة وإدارتها. ولان صعود قوته هذه جعلته خطرا محدقا من شأنه أن يهدد دول المنطقة الاخرى. لاسيما ان المنطقة تشهد أصلاً حالة من التخبط وعدم الاستقرار، بالإضافة إلى احتمالات الإرهاب المستقبلية. ولكن سطوع نجم «داعش» بكل ما يمثله ليس وحده السبب وراء هذه الاستدارة، وانما هناك اسباب أخرى، في المقدمة منها تضخم الصراع الديني والجيوسياسي الذي كان يتحرك ببطء في المنطقة، الا انه مع سطوع «داعش» أضحى يرسم خريطة جيوستراتيجية للمنطقة مختلفة كليا عما هو معهود سابقا، ويلقي بظلاله على حرب دينية ربما تمتد لسبعين عاما، او على نحو شبيه بالحروب التي شهدتها أوروبا في عصر الاصلاح الديني. فمن المتوقع ان تتضمن ملامح الصراع المحوري، الذي ابتدأ في المنطقة مع ارتدادات «الربيع العربي»، بين اسلام أكثر تشددا واسلام معتدل من جهة، ومن جهة ثانية يختزن صراعا طائفيا دمويا ساحقا بين القوى السنية والقوى الشيعية. وقد أظهر سطوع «داعش» العراق بأنه ميدان المعركة المركزي في الصراع الإقليمي الطائفي، اذ تتخندق فيه القوى الاقليمية الرئيسية، وتبرز ايران فيه والميليشيات الشيعية في العراق ولبنان وسوريا واليمن من جهة، ومن الجهة الثانية الدول العربية السنية، في مقدمتها المملكة العربية السعودية ودول الخليج والاردن. ولذلك وجدنا ان الدول العربية نفسها؛ رغم تيقنها من المخاطر التي يمثلها تنظيم «داعش»؛ تشترط على امريكا وحلفائها الغربيين ان يسعى التحالف الدولي بالاضافة الى محاربة ارهاب «داعش» الى تحجيم وتقليص نفوذ ايران والتمدد الشيعي في المنطقة، ومن دون هذه التوسعة لمهمة التحالف الدولي فلن تكون هناك شراكة عربية فيه.
وربما ان هذا الهدف المطلوب من التحالف الدولي للحرب على «داعش» جعل هنري كيسنجر يؤكد على ضرورة شن هجوم كبير عليه يوازي عملية قتله الأمريكيين، مشيرا في الوقت ذاته إلى ان خطر إيران يفوق خطر الدولة الإسلامية، وأن طهران تسعى لتشكيل حزام شيعي يمتد من طهران إلى بيروت مرورا بالعراق وسوريا، شارحا أن ذلك يأتي كمحاولة لإحياء الإمبراطورية الفارسية في إطار طائفي شيعي. معتبرا أن تنظيم «داعش» مجرد مجموعة من المغامرين الذين يعتنقون أفكارا عنيفة، وانه لن يصبح واقعا استراتيجيا دائما، إلا إذا تمكن من الاستيلاء على مزيد من الاراضي، ومشددا على بلاده بضرورة وضع اهداف استراتيجية لاحباط خطط التنظيم من خلال الضربات الجوية حصرا، وليس عن طريق ارسال قوات برية. بهذا المعنى، فان الحرب على «داعش» تتضمن هدف محاولة احتواء الصراعات الدينية في المنطقة، بل ان هذه الحرب، وان كانت جوهرية وضرورية ولكنها متلازمة مع هدف استمالة السنة.. ولذلك فقد كان التركيز الدولي الذي سبق الدعوة لبناء التحالف الدولي، هو تشكيل حكومة عراقية تتشارك فيها المكونات العراقية جميعها، من شيعة واكراد وسنة، ويشعر من خلالها السنة في العراق بانهم ليس مستبعدين، وانما جزء فاعل في القرارات العسكرية والامنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وهذا ما تحاول عمله ادارة أوباما، عبر ممارسة الضغوط السياسية التي مهدت لازاحة المالكي عن رئاسة الوزراء، واعادة بناء المؤسسة العسكرية العراقية والمنظومة الامنية، من خلال اعادة التأهيل التي تشرك الكثير من العناصر الكفوءة ذات الخبرات التي ظلت طيلة السنوات الماضية مستبعدة.. وهذه العملية الان يجري التحضير لها، وبهذا المعنى فان الحرب على «داعش» تتضمن تصحيح العملية السياسية في العراق، في الوقت ذاته الذي تتضمن اعادة تأهيل العراق لاعادته لحضنه العربي.
وتدرك امريكا ان التخطيط لادارة الحرب على «داعش» لابد ان يستدعي بالضرورة التعاطي الجاد مع ما يسميه هنري كيسنجر «الطوفان السوري» كونه اجتذب جماعات طائفية ودينية، أيقظت التوترات القديمة الجيوستراتيجية في المنطقة، وكذلك الصراع الطائفي بين السنة والشيعة. وبالتالي لم يعد الصراع في سوريا حول الديمقراطية والديكتاتورية بقدر ما أصبح صراعا اقليميا حول السيطرة. وبهذا السياق فإن الحرب لابد ان تضع مكانا واضحا ليس فقط لاعادة توجيه الصراع في سوريا، ومن ثم إعادة رسم التصور السياسي فيها، وربما إعادة رسم التصور السياسي للمنطقة. وفي هذه العملية لاعادة الرسم، فإن ادارة اوباما ما زالت لم تحسم الخيارات بعد ما بين الاهتمامات الأمنية وأهمية تطوير الحكم السياسي والشرعي، ويبدو ان السؤال سيظل معلقا في المنطقة حول المدى الذي ينبغي فيه المخاطرة بالمصالح الامنية على حساب التطوير الاصلاحي والديمقراطي السياسي.
غير ان محمولات «الطوفان السوري» ليست مقتصرة على البعد الاقليمي بكل تضاريسه وتموجاته، وانما هي معبأة ببعد دولي ارادت منه موسكو بالذات والى حد ما بكين ايضا، اعادة تشكيل ملامح اللعبة الاممية، بحيث يعاد تشكيل رقعة «الشطرنج» العالمية لصالح موسكو والصين وعلى حساب واشنطن. وهذا ما دفع ادارة أوباما الى ان تنظر للقوس المأزوم من دونتسك في أوكرانيا، إلى الموصل في العراق، باعتباره ساحة واحدة يتطلب رؤية استراتيجية كبرى للتعامل معه. وبالتالي فإن الازمة في أوكرانيا وسوريا والعراق وغيرها من الأهداف المحتملة مثل، اليمن وليبيا، كلها تضم في جنباتها مجمــــوعات إثنية وطائفية تقاتل من أجل الاستحواذ على قصب السبق في السلطة والنفوذ. وبالتأكيد ان اعادة تشكيل رقعة الشطرنج يتطلب من اطــــراف اللعــبة، التعامل مع مساومات متقابلة، وبالتالي تنازلات متبادلة،، ولذلك فعندما تشجع واشــــنطن منح الشرقيين في اوكرانيا، الذين يتحدثون الروســـية حكماً ذاتياً محلياً أكثر تمثيلاً، وعندما يتم التلويح لموسكو بأن العقوبات التي فرضت عليها قابلة للمراجعة، فإن ذلك يجب ان تدفع فاتورته من جانب موسكو في سوريا،، لاسيما وان روسيا تشارك امريكا والغرب مخاوفهما من «داعش»، الذي مثل معسكر التدريب والتأهيل لارهابيين تجمعوا من روسيا والغرب وآسيا الوسطى في هذه المرحلة، ليرتدوا على الغرب وروسيا في القادم من الايام.
ووفق هذه الرؤية، فإن الحرب على «داعش» تحتمل قسطا كبيرا من اعادة تشكيل لعبة الامم على المستوى العالمي، لانه بالتأكيد اعادة تشكيلها ما بين موسكو وواشنطن، سينعكس على دور بكين فيها. كما ان الحرب على «داعش» وأزمة اوكرانيا سمح باعادة اللحمة التي انفصمت بين الغرب على ضفتي الاطلسي إبان الغزو الامريكي للعراق عام 2003، الذي شهد معارضة باريس وبرلين بوجه خاص، بينما الان نشهد انخراطا امريكيا اوروبيا في اطار الناتو في الحرب على «داعش»، فضلا عن التعاطي الموحد مع ازمة اوكرانيا.
من هنا تبرز حقيقة تجدد الاهتمام الامريكي بمنطقة الشرق الاوسط، ليس فقط لانها المحور المركزي للحرب على الارهاب، وليس فقط لاهميتها النفطية والجيواقتصادية في الصراع العالمي، ولا بسبب فقط اسرائيل وما تمثله اسرائيل بالنسبة لامريكا، ولكن لان منطقة الشرق الاوسط هي الان بالتحديد المفتاح الاساسي لاعادة تشكيل النظام العالمي الذي لا زالت تتطلع امريكا ان تحتل مكان الصدارة فيه. وهذا ما جعل الرئيس باراك اوباما الذي صنف عهده كعلامة بارزة لانسحاب غير معهود من مشاكل الشرق الاوسط من قبل السياسة الخارجية الامريكية، ان يعيد هذا الرئيس نفسه اعادة تشغيل زر الاهتمام بالشرق الاوسط ومشاكله.

٭ كاتب وصحافي عراقي

عصام فاهم العامري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    أعتقد أن أمريكا قد تورطت بهذه الحرب
    والمستفيد الوحيد منها هو ايران

    أمريكا الآن تعتبر بصف ايران بالنسبة للسنة

    ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية