الباحثة والناقدة السورية ديمة الشكر، تختار أن تترك كرسي البحث والتمحيص والتأمل العقلي، والدرس الجامعي، مؤقتاً، وتنحاز للتخييل الذي يمنح مجالات أوسع ليس فقط للحرية، ولكنه يوفر أيضاً إمكانات واسعة للغوص في أعماق مجتمعات تفصل بيننا وبينها قرون ثقيلة بالأشواق والآلام والانتصارات والهزائم. لم تتعامل ديمة بقدسية مع التاريخ السوري والعربي عندما اختارت هذا النوع الصعب من الكتابة الذي يظنه الكثيرون سهلاً، بينما هو في حقيقته مجحف، إذ يقضي الروائي زمناً طويلاً في البحث والتمحيص واختبار المعلومات لكتابة نص قد يكون له صدى محدود على مستوى المقروئية التي كثيراً ما تكتفي بالسهل والمباشر، الذي لا يكلف جهداً استيعابياً كبيراً. مع أن أمر التلقي ليس بهذه السهولة، بالخصوص في السنوات الأخيرة حيث فرضت الرواية التاريخية نفسها كمعطى إبداعي لا يمكن تجاوزه بسهولة.
اختارت ديمة تاريخاً آخر، إشكالياً في جوهره، يكاد يكون غير مرئي، بسبب التكتم أو المنع، تاريخاً مثل الكتلة الثلجية «الإسبرغ»، جزؤه العلوي ظاهر، وعمقه الأكبر والأوسع يظل مدفوناً تحت الماء. جزء من التاريخ الذي تعاملت معه الكاتبة مدون، لكن جزأه الأساسي يظل بياضاً. اختارت ديمة الغوص في هذا الجزء الأخير وفي ظلمته الصعبة التي أحاطت بظروف الحرب الأهلية التي مست الشام في 9 تموز من سنة 1860، في الحارات المسيحية، تحديداً «باب توما» وترتبت عنها صدامات دموية بين المسلمين والمسيحيين، في ظل نظام عثماني متهالك كلياً وعلى حافة الانهيار بعد هزائمه المتكررة وبداية تحلل إمبراطورتيه، هذا إن لم يكن هو وراء تأجيجها على الأقل، حتى ولو دعا الأمر إلى إشعال نار الفتنة والاصطدام الديني بين فئات الشعب الواحد تمهيداً لكسر الوعي القومي العربي الذي كان قد بدأ يظهر هنا وهناك في شكل مقاومة سياسية وفكرية، تحتية.
جاءت رواية ديمة في صيغة تساؤلية «أين اسمي» (دار الآداب، 2021، 240 صفحة) لا نحصل على إجابتها إلى في نهاية الرواية. هذه الصيغة منحت القارئ أفق انتظار يظل معلقاً فيه بحثاً عن إجابة ما، في نهاية العملية السردية وانغلاق النص نهائياً. اعتمدت الكاتبة على فكرة إيهامية تتعلق بنص ضائع كتب في سنة 1901، ظل الصمت يلفه. وإذا لم تكن الظاهرة جديدة، إذ مارسها الكثير من الكتاب العالميين مثل رواية «اسم الوردة» لإمبيرتو إيكو، وغيره كثيرون، على خلاف ذلك، لم تبق ديمة سجينة التاريخ؛ فقد ربطت نص قمور بحقائق تاريخية مست بلاد الشام بقوة، وأخرى خارج تاريخية ولا تنتمي إلا للنص الذي شيدت داخل عمرانها التخييلي. قدمت للقارئ، من خلال بنية نصية متعددة اعتمدت على حادثتين مركزيتين تحكمتا كلياً في مسارات النص، الأولى وقعت في القرن التاسع عشر، ودونتها قمور فتال، بينما المجزرة الثانية جرت وقائعها في القرن المعيش اليوم ودونتها زينة. وكان من نتائجهما حدث جوهري، ويتعلق الأمر باختيار مسالك المنفى ومغادرة الشام باتجاه لندن، ثم العودة الممكنة نحو الشام بحثاً ليس فقط عن الأثر الضائع ولكن أيضاً عن المعنى المرتبط بالوجود نفسه.
فقد انبنت قصة قمور على رؤيتين تتعلقان بالذات في صراعها مع طغيان الآخر وسلطته الكبيرة، الرؤية الأولى متحررة من كل قيد يسرق منها جوهرها، فقد كتبت روايتها من خلال أفق تثاقفي Interculturel أي الحوار مع الآخر (الإنجليزي) من خلال لغته (الإنجليزية) وهويتها العربية التي تصر عليها حتى ولو كتبت قمور بالإنجليزية نصها الروائي الذي أرادت من خلاله استنطاق ذاكرة مثقلة بالتاريخ والدم، بالخصوص أحداث باب توما ومقتل أمها في مشهد شديد القسوة عرفت الروائية كيف تصفه وتجعل منه بداية للرغبة في تدوين ما حدث. لكن هذا الأفق الطبيعي ثقافياً، سرعان ما يخلي السبيل لعلاقة مثاقفاتية Acculturel ترى في ثقافتها المثل المطلق، وما على الآخر إلا القبول بهذا النظام الفوقي الذي فرضته الاستعمارات المتلاحقة. ويتبدى ذلك من خلال المؤثرات البنيوية التي يريد سيدها الذي تشتغل عنده وزوجته، السير ريتشارد (الذي يتماهى في الرواية مع شخصية حقيقية هي المستشرق ريتشارد فرانسيس بورتون، الدبلوماسي الإنجليزي الذي ترجم نص «ألف ليلة وليلة» وكان قريباً جداً من الثقافة العربية لدرجة أن قيل إنه حجّ سرياً في عام 1855) فرضها على نص قمور فتال المتعطش إلى قدر كبير من النور والحرية، حتى تصبح الرواية مقبولة من ناحية التلقي وتنسجم مع النموذج الكتابي المتسيد عالمياً (أوروبياً). وليست الكتابة بلغة الآخر إلا مهرباً تعبيرياً تريد من خلاله قمور، على الرغم من كل الخسارات الداخلية، لغوياً وحضارياً ورؤيوياً، التعبير عن جرح جرته في إثرها زمناً طويلاً حتى شكل جزءاً مهماً من هويتها. ليست مجزرة باب توما إلا واحدة من أوجهه المتعددة، لهذا وضعت قمور روايتها تحت المجهر وبدأت تتأمل الأحداث وتستدرج قارئها ليعيشها في لحظة حدوثها، لأنها دونت وكأنها مذكرات حية استعادت من خلالها ديما الروائية أيضاً فصلاً قاسياً من الحياة السورية التي تعيش حاضراً دموياً، وكأن هناك تصادماً حقيقياً بين زمنين هما في النهاية زمن واحد: زمن الدم والصراعات الدينية والإثنية وأن القرن التاسع عشر كان الفراش الطبيعي لما أتى لاحقاً، وعلى مدار قرنين تقريباً لم تحل هذه المعضلات ولم يتم التفكير فيها مطلقاً لتخطيها.
فقد أدركت ديمة الشكر في روايتها الأولى أن الرواية التاريخية ليست تاريخاً، ولكنها صدى إبداعي وتخييلي يجب فهمه جيداً والإنصات لتكسراته التي حدثت في الأزمنة الفائتة، وما تزال آثارها حاضرة حتى اليوم. من هنا، فرواية «أين اسمي» ليست سؤالاً عبثياً، ولكنه سؤال وجودي ينبئ بشكل واضح عما سرق منها، من قمورة، التي اختارت مسلك الكتابة عن الوقائع بتجميعها، لتثبيت زمن لا تريده أن ينطفئ، لأنها عاشته في طفولتها بوصفه جرحاً صانعاً للهوية اللاحقة. لكن من خلال تقنية إنجليزية هي سلطة ثقافية في نهاية المطاف. فلم يكن كافياً تجميعها للأحداث والوقائع، للمرئيات والمسموعات التي «لا تحتمل»، وتركينها في الصندوق الخشبي، في انتظار فرصة كتابتها بالتقنية التي تجعل منها نصاً روائياً قائماً بذاته وليس مجرد وقائع وأحداث متتالية ليست في النهاية أكثر من مادة خام لا تعني الشيء الكثير خارج تقنية الإنجاز. لهذا، تتبادل زينة المعاصرة الأدوار مع قمور، الأولى كانت في لندن في إرسالية تعليمية، بينما مكثت قمور فتال في لندن بوصفها خادمة السيد والسيدة ريتشارد. يتم هذا التزاوج المأساوي من خلال لعبة المرايا العاكسة لشلالات الدم. زينة هي وجه قمور الآخر الذي عاش زمن المجازر في الزمن الحالي التي دمرت النسيج التاريخي السوري الحي، وزرعت شرخ الكراهية. ربما احتاج فصل زينة إلى تطوير أكثر من خمسين صفحة.
ولا يظهر مؤدى التساؤل المركزي الذي اعتمدته الروائية عنواناً لروايتها «أين اسمي؟» إلا في الجزء الأخير من نص ديمة الشكر، عندما يُقْدِم زوج قمور، حنا الغني والجميل، الذي وقف دوماً ضدها وهي تؤرخ لمجزرة باب توما، على وضع اسمه على رأس الرواية بدل اسمها المسروق الذي ظل باهتاً وغير مرئي. الأمر هنا لا يتعلق فقط بسرقة اسم، ولكن بهوية بكاملها.
شكرًا أخي واسيني الأعرج. لست من قراء القصص، لكن أستطيع أن أدلي بتعليق لأنها راوية تاريخية. لم أسمع عن مجازر ضد المسيحيين قبل ذلك وخاصة عندما كنت في سوريا. الإستعمار الفرنسي غطى على هذه الصراعات مع المسيحيين التي حدثت في زمن الدولة العثمانية، فأول وزراء بعد الإستقلال كان فارس الخوري وهو مسيحي دمشقي كما هو معروف. من جهة أخرى كان السائد في المجتمع (وهذه تجربتي) أن العلويين تعرضوا لإضطهاد في زمن الدولة العثمانية ومع بروز القومية وبعض المفكرين التنويريين كعبد الرحمن الكواكبي، ظهر تضامن مع العلويين بصفتهم مظلومين من الإستبداد. هذا كان يقف وراء قبول الشعب السوري بحافظ الأسد وكنت شاهدًا على هذا الأمر، حيث كنا ترى أن الدين ليس مهمًا في الدولة الحديثة. ومن ثم تحول النظام إلى دولة مخابراتية، بدأت القطيعة مع النظام ورويدًا تحول النظام إلى نظام طائفي. فتشابك الإستبداد مع الطائفية بطريقة عجيبة أي كارثية.
ثم جاء الربيع العربي لنكتشف أن من وقفنا معهم، ولا أقصد العلويين بالطبع بل أصحاب السلطة ومن يدعمهم، ضد الظلم والإستبداد أصبحت دولته هي الإستبداد والظلم بأبشع صوره. تجربة مريرة حقًا عشتها بنفسي وكم أتذكر تلك المجادلات ضد الطائفية من جهة ومع داعمي النظام من جهة أخرى بأن مايقوم به النظام هو خطأ كبير، لكن!. وتذكرنا ماقاله قبلنا سلطان باشا الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى، عندما أعدم حافظ الأسد ضابطًا من الدروز، بأن سوريا تسير إلى كارثة.