تبدو حكومة لبنان مفهوماً نظرياً. في الحقيقة، ثمة رئيس حكومة ووزراء في الدولة، لكن منذ شهر تقريباً لم تجتمع الحكومة ولو لمرة واحدة، على الرغم من وجود “102 موضوع للنقاش على طاولة الحكومة”، أعلن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي. والأهم من بينها هو تدهور الليرة اللبنانية إلى مستوى 35 ألف ليرة للدولار (مقابل السعر الرسمي 1500 ليرة).
الاقتصاد قد ينتظر؛ فهناك أمور ملحة أكثر مثل مكانة وزير الإعلام جورج قرداحي، الذي فرضت السعودية بسببه مقاطعة اقتصادية خانقة على لبنان. تحدث قرداحي وأدان الحرب التي تشنها السعودية في اليمن، وقال إن نضال الحوثيين يستهدف تحسين حقوقهم. صحيح أنه قال ذلك قبل تعيينه وزيراً للإعلام في أيلول الماضي، إلا أن السعودية تعتقد أنه من غير المعقول أن يشغل منصب وزير لبناني شخص يؤمن بعبثية الحرب التي تعتبرها جوهر نضالها ضد إيران. وهي تطالب بإقالة قرداحي، وإلا فليذهب لبنان إلى الجحيم.
بالنسبة للبنان، تحول هذا الأمر إلى قضية وطنية لها تداعيات وجودية. يعارض “حزب الله” إقالة الوزير، وهناك حركات تعتبر طلب السعودية تدخلاً فظاً في الشؤون الداخلية. في الوقت نفسه، تعتبر المقاطعة الاقتصادية على لبنان حبل المشنقة المعلق في رقبته، الذي قد يفشل جهود المساعدات الدولية. بدون ضمانات موثوقة بأن لبنان يستطيع تسديد القروض التي سيحصل عليها، فمن المشكوك فيه أن توافق الدول المانحة ومؤسسات التمويل الدولية على إعطائه هذه القروض. قد توفر السعودية جزءاً مهماً من هذه الضمانات، ولكن طالما يشغل قرداحي منصبه في الحكومة، فلن تقدم هذه الضمانات.
نظراً لأن إقالة قرداحي تقتضي مصادقة ثلثي أعضاء الحكومة، فقد أعلن “حزب الله” وشركاؤه بأنهم لن يشاركوا في جلسات الحكومة. بهذا، يستخدمون قوتهم لمنع اتخاذ القرار. وعلى الطريق، هم يحبطون حدوث الاختراق الاقتصادي. لهذا الاختراق تعبير في سياسة لبنان، وهو “مبدأ الثلث المعطل”، الذي بحسبه يكفي لثلث وزراء الحكومة ووزير واحد منع اتخاذ أي قرار مهم تريد الحكومة اتخاذه. كم من الوقت يحتاج “حزب الله” لمنع اجتماع الحكومة؟ هذا يتعلق بنجاح المساومة التي سينجح في إدارتها مع الرئيس ووزراء الحكومة حول موضوع مختلف كلياً.
يخطط في آذار القادم لإجراء انتخابات برلمانية. ولأن البرلمان هو الذي ينتخب الرئيس، فمن المهم لـ”حزب الله” ضمان أن البرلمان الجديد سينتخب رئيساً على هواه. هنا تلتقي مصالح حسن نصر الله مع مصالح الرئيس ميشيل عون (83 سنة)، الذي قد ينهي ولايته قبل انتهاء العام 2022. يسعى عون لإعداد أرضية لانتخاب صهره جبران باسيل حليف “حزب الله”. المشكلة هي أن باسيل، الذي فرضت عليه الإدارة الأمريكية عقوبات، يعاني من عجز شديد في شعبيته في أوساط الجمهور. قد تثبت انتخابات آذار ضعفه السياسي وتقليص فرصته في أن يكون رئيساً. يعرف عون هذه المعضلة، لذلك أعلن معارضته إجراء الانتخابات، إلا إذا جرت في أيار، وهو يربط بذلك توقيعه على الأمر الرئاسي المطلوب لإجراء الانتخابات.
تأجيل الانتخابات إلى أيار لا يعتبر ضمانة لفوز باسيل فيها بصورة أكبر، لكن سيكون لديه شهران آخران لتنظيم أموره وتجنيد الدعم. وثمة احتمالية أخرى، هي أن نتائج الانتخابات ستثمر عن كتل وقوى لن تصل إلى تفاهم حول مرشح الرئاسة. هكذا يستطيع عون مواصلة الاحتفاظ بالكرسي إلى أن يتم العثور على وريث متفق عليه، الأمر الذي يمكن أن يستغرق أشهراً.
لعون و”حزب الله” مشكلة واحدة صغيرة، وهي ضرورة تغيير الدستور من أجل تأجيل موعد الانتخابات. تحتاج هذه العملية إلى أغلبية ثلثي أعضاء البرلمان، التي من المشكوك أن تكون موجودة الآن. وهذه ليست العقبة الوحيدة؛ فتأجيل الانتخابات قد يخرج الجمهور المحبط واليائس إلى الشوارع، وسيطالب بإجراء الانتخابات في موعدها لتحريك عجلات الإعمار الاقتصادي. من هنا، تأتي حاجة “حزب الله” لاستغلال أي فرصة سياسية لعقد صفقة قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة. إذا احتاج الأمر، سيبذل كل جهوده لمنع استقالة قرداحي أو إقالته، وهكذا سيتم الحفاظ على الأزمة مع السعودية إلى حين ليّ ذراع القوى السياسية ويجبرها على الموافقة على الانتخابات في أيار أو على إلغاء الانتخابات.
في الوقت نفسه، مطلوب من “حزب الله” والرئيس عون مواجهة نجم مضيء في سماء السياسة في لبنان، وهو قائد الجيش جوزيف عون، الذي لا يخفي نيته في أن يحل محل ميشيل عون (لا توجد قرابة عائلية بينهما). لجوزيف عون شعبية وتعاطف في أوساط الجمهور، بسبب نجاحه في إبعاد الجيش، بقدر الإمكان في الواقع اللبناني، عن السياسة. في المظاهرات الأخيرة في بيروت ظهر وكأنه يؤيد المتظاهرين. وفي أيار الماضي، عندما زار فرنسا، استقبله إيمانويل ماكرون، وكأنه رئيس الدولة. علاقته مع الولايات المتحدة، التي تعلم فيها، وثيقة. ولا يقل عن ذلك أهمية أن له علاقات جيدة مع حسن نصر الله، ويكره صهر الرئيس باسيل.
لكن حتى الانتخابات البرلمانية وبعدها الانتخابات الرئاسية، هناك وقت طويل. في دولة يتغير فيها الإشكال السياسي في أي لحظة، فإن آذار أو أيار يعتبر وقتاً طويلاً جداً.
بقلم: تسفي برئيل
هآرتس 29/11/2021