من قتل «راسبوتين»؟

على الرغم من مرور أكثر من مئة عام على مقتل «راسبوتين» إلا أن الإعلام العالمي يستمر في تذكيرنا به عن طريق سيل من الكتب والمقالات والأفلام السينمائية (مثّل الفرنسي جيرار ديباردو دور «راسبوتين» مرتين) والأغاني مثل أغنية «راسبوتين لفريق «بوني أم» التي تشابه إلى حد كبير أغنية «يا عذولي لا تلمني» للموسيقار عثمان الموصلي. وتطرق، لاسيما قيصر روسيا وزوجته الملكة.

من هو «راسبوتين»

ولد غريغوري راسبوتين في قرية نائية في سيبيريا، روسيا، عام 1869 لأسرة من الفلاحين. وتدعي بعض المصادر أن والده كان شخصية غريبة الأطوار، فسماه السكان المحليون «راسبوتين» وهي كلمة تعني شخصا عديم المبادئ الأخلاقية وورث ابنه غريغوري» الاسم. وتزوج «راسبوتين» في سن التاسعة عشر وأنجب ابنا وأربع بنات. لكنه لسبب ما ادعى أنه تلقى إلهاما دينيا، وقرر وهب نفسه لخدمة الدين، فترك عائلته وسكن في أحد الأديرة لثلاثة أشهر، ويخمن المؤرخون أنه تعلم القراءة والكتابة هناك. لكنه لم يدرس اللاهوت في الدير، ولذلك، كان ناسكا، وليس رجل دين. وأصبح ناسكا روسيا يتبع تقليدا روسيا دينيا غريبا، حيث يتنقل النساك في جميع أنحاء روسيا واهبين أنفسهم للدين، يباركون سكان الريف الذين، لاسيما النساء، كانوا يظنون ان لديهم علاقة مباشرة مع الله، وبالتالي بعض القدرات غير الطبيعية خاصة إشفاء المرضى حتى إن الكاتب الروسي تولستوي قام بزيارة أحد هؤلاء النساك قبيل وفاته. ونجح «راسبوتين» في جمع بعض المؤمنين به، واستمر في تنقلاته حتى انتهى به المطاف عام 1905 في مدينة سانت بيترسبورغ، العاصمة الروسية آنذاك، وجذب أنظار نساء الطبقة الراقية اللواتي كن يؤمن بهذه الأفكار، كما أثار أعجاب بعض رجال الكنيسة على الرغم من مظهره القذر وأسنانه التالفة ورائحته النتنة حتى أنه تباهى في إحدى المرات، أنه لم يغير ملابسه الداخلية منذ ستة أشهر، وكان طوله 1.93 مترا ودائم الثقة بنفسه وعرف كذلك بعينيه الزرقاوين الثاقبتين والمؤثرتين حتى إن بعض المؤرخين ظنوا أنه كان يمارس التنويم المغناطيسي. ولم يكن «راسبوتين» الأول الذي يلعب هذا الدور في الأوساط الأرستقراطية، إذ سبقه آخرون أشهرهم الفرنسي نيزيير أنتيلم فيليب، الذي أصبح مستشارا لزوجة قيصر روسيا نيكولاس الثاني، أي الملكة أليكزاندرا، التي كانت ضحية سهلة لهؤلاء المحتالين بسبب أصابة ابنها ولي العهد أليكسي، بمرض عدم تخثر الدم الذي كانت أعراضه الرئيسية نزيفا مصحوبا بآلام مبرحة، فأصبحت تبحث عن كل طريقة لتحسين صحة ابنها مهما كانت خرافية. وحانت فرصت «راسبوتين» حينما نجح في نيل إعجاب القس الخاص بالعائلة المالكة، الذي قام بدوره بنصيحة العائلة المالكة بالاستعانة به من أجل ولي العهد. وما أن التقى بهم «راسبوتين» حتى قال لهم إنه سيحمي ابنهم ويجب أن يبقى إلى جانبه، وحصل على ثقة زوجة القيصر التي اقتنعت بقدراته الخيالية. وتم له ما أراد حيث أصبح يجتمع ببنات وابن العائلة المالكة متى ما أراد وحتى في ساعة متأخرة من الليل في غرف نومهم، ما أثار حفيظة مربيتهم التي خشيت على الأطفال منه، إلا أنها تعرضت للفصل عندما طلبت من الملكة منع هذا الرجل المشين من الاقتراب من الأطفال. ولم تكن هذه المربية على خطأ، إذ عرف «راسبوتين» بمجونه حتى أن مدير الشرطة الروسية أبلغ القيصر أنه قام بالتعري أمام رواد أحد المطاعم، والادعاء بعلاقة «خاصة» بزوجته ما أثار ذعرهم، إلا أن القيصر تجاهل الأمر. لكن حادثة غريبة أدت إلى ثقة زوجة القيصر المطلقة به، ففي عام 1912 وأثناء وجود «راسبوتين» خارج العاصمة تعرض ولي العهد إلى حادث ما سبب نزيفا حاداً وآلام شديدة عجز الأطباء عن علاجها، فأرسلت الملكة رسالة عاجلة إلى «راسبوتين» طالبة النجدة. وأجاب «راسبوتين» بأن أبنها سيكون على ما يرام إلا أنها يجب أن تبعد الأطباء عنه، وإذا بولي العهد يتحسن. وقد أثارت هذه الحادثة دهشة الجميع. وقد يكون السبب أن الدواء الذي أعطاه الأطباء للفتى كان الأسبرين الذي يمنع تخثر الدم، أي أنه كان يزيد حالته سوءاً، ولذلك فعندما ابتعد الأطباء عنه توقف تأثير الأسبرين على ولي العهد، فتحسنت حالته.

راسبوتين مع المعجبين به

نجح «راسبوتين» في توسيع مجال عمله، إذ تحول إلى مصدر للمشورة السياسية كذلك، بالإضافة إلى توليه منصب مستشار زوجة القيصر. وقد استغل ذلك بطريقة غير مستقيمة، حيث أصبحت شقته هدف كل من يريد بركاته للشفاء من علة، أو مساعدته لحل مشكلة قانونية. وكان الثمن يُدفَع نقدا أو وعدا بالولاء أو «قبلات». وعرف عن «راسبوتين» تعريته للنساء اللواتي يزرنه كجزء من طقوس «البركات» المزعومة.
أثار كل ذلك حنق بقية أفراد العائلة المالكة، ورجال الطبقة الأرستقراطية والسياسيين وحاولوا إقناع القيصر بالتخلص من هذا الدجال دون جدوى، حتى أن الملكة قاطعت شقيقتها عندما حذرتها منه. وزادت حدة الأمر وسوء الأوضاع عندما بدأت الحرب العالمية الأولى عام 1914 وسارت المعارك في غير صالح روسيا، فقام القيصر عام 1915 بمغادرة العاصمة كي يقود القوات الروسية من مركز قريب من الجبهة تاركا زوجته الملكة تحكم البلاد، دون أن تكون لديها أي خبرة في هذا المجال وتحت تأثير «راسبوتين». ولم يكن ذلك مفاجئا، فقد عرف القيصر بضعفه أمامها، وأدى ذلك إلى تزايد قوة «راسبوتين» الذي أخذ يتدخل في شؤون الحكم ويقنع الملكة بفصل وزراء وتعيين آخرين. وزاد حنق الجميع على الملكة و»راسبوتين» لاسيما في أوساط الشعب الروسي. وانتشرت مختلف الإشاعات الكاذبة عن علاقة جنسية بين الاثنين، وأن ولي العهد في الحقيقة ابن «راسبوتين» حتى ذكرت إحدى الأشاعات أنهما جاسوسان ألمانيان. وقد ساعد في ذلك كون الملكة ابنة أمير ألماني وأميرة بريطانية (أبنة فكتوريا، ملكة بريطانيا). وضاعف كل هذا من مخاوف الطبقة الحاكمة الروسية حول سمعة العائلة المالكة ومصير روسيا ككل. في هذه الأثناء كان هذا الناسك المحتال ضد استمرار انخراط روسيا في الحرب وآمن بضرورة إيقاف
لقتال بأسرع وقت ممكن.

النهاية

قرر الأمير فيليكس يوزوبوف، سليل إحدى أغنى العوائل الروسية وزوج ابنة شقيقة القيصر، أخذ زمام المبادرة والتخلص من «راسبوتين». وقام بالاتفاق مع ابن عم القيصر ديمتري بافلوفتش، وأحد أعضاء البرلمان فلاديمير بوريشكفتش وضابط خفر السواحل سيرجي سوخوتين» والطبيب البولندي ستانيسلاوس لازوفرت. كان الأمير يوزوبوف قد تعرف على راسبوتين بحجة طلب مشورته حول بعض المشاكل الصحية، لكن السبب الحقيقي كان كسب ثقته، ثم قام بدعوته إلى قصره لتعريفه على زوجته، ابنة شقيقة القيصر التي رفضت أن تكون لها أي علاقة بالأمر، وغادرت القصر. وحسب الموعد وفي يوم التاسع والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر (حسب التقويم الغربي) ذهب الطبيب البولندي إلى شقة «راسبوتين» مدعيا انه سائق لجلبه إلى قصر الأمير يوزوبوف بعد منتصف الليل. واستقبله الأمير في الساعات الأولى من يوم الثلاثين من ديسمبر في غرفة في سرداب القصر أعدت مسبقا للعملية، بينما بقي الآخرون في الطابق الأرضي مع فتاتين محدثين موسيقى عالية وكأن حفلة كانت تقام هناك. وعرض الأمير على ضيفه حلويات ونبيذ ملوثين بسم سيانيد البوتاسيوم كان الطبيب البولندي قد حصل عليه. وبعد تردد قبل «راسبوتين» ما عرض عليه إلا انه لم يصب بأذى، ما أرعب الأمير يوزوبوف» الذي صعد إلى الطابق الأرضي وأبلغ شركاءه بهذا التطور المفاجئ. لكن ألأمير كان مصرا على إنهاء المهمة فأخذ مسدسه من مكتبه وتوجه إلى الأسفل حيث أطلق النار على «راسبوتين» وأصابه في جانب صدره ما أدى إلى سقوطه على الأرض دون حراك. وأخذ بافلوفيتش وسوخوتين ولازوفرت السيارة متوجهين نحو شقة راسبوتين ومشي سوخوتين في الشارع مرتديا معطف «راسبوتين» لإعطاء الانطباع بأنه عاد إلى منزله. في هذه الأثناء كان الأمير وبوريشكفيتش في الطابق الأرضي. ونزل الأمير إلى الغرفة في السرداب لتفحص جثة «راسبوتين» فأذا به يفتح عينيه ويقف بسرعة ويهاجم الأمير بقوة وهو يزأر. وارتعب الأمير واستطاع الإفلات من قبضة الناسك وهرب من الغرفة. أما «راسبوتين» فقد خرج إلى ساحة القصر وتوجه إلى الباب الخارجي بصعوبة وهو يزأر. لكن بوريشكفيتش تبعه وأطلق عليه أربع رصاصات أصابته اثنتان منها في الصدر والرأس، وكانت هذه نهاية راسبوتين. قام المتآمرون بلف الجثة بقماش أزرق ثم رموها من على أحد جسور العاصمة في نهر متجمد.

التحقيق في مقتل «راسبوتين»

انتشرت شائعة مقتل «راسبوتين» بسرعة وأمر وزير الداخلية بفتح تحقيق. وعثر بعد منتصف ظهر يوم القتل على حذاء في النهر المتجمد كما اكتشفت دماء على حائط الجسر، فاستدعيت الشرطة النهرية وعُثِرَ على الجثة يوم الأول يناير (حسب التقويم الغربي). وقامت السلطات بفحص الجثة حيث لم يعثر على أي أثر للسم، كما استنتج الطبيب المختص ان القتيل قد أصيب بثلاث رصاصات مختلفة الأنواع، وكانت القاتلة منها في جبينه وأطلقت من مسافة قريبة. وأقر الطبيب كذلك بوجود آثار تعذيب وتشويه على الجثة لاسيما الوجه.
دُفِنَ الجثمان بحضور العائلة المالكة وبعض المقربين. أما القتلة، فلم يحدث شيء لهم حيث تم نفيهم فقط ما ساعدهم على الهروب من البلاد عند سقوط الدولة الروسية والقبض على العائلة المالكة التي أعدمت بعد ذلك.

الأمير يوسوبوف وزوجته أيرينا أبنة شقيقة القيصر

التساؤلات

كانت مصادر تفاصيل عملية القتل ما كتبه ثلاثة من القتلة في ما بعد، لاسيما الأمير يوزوبوف، الذي نشرها مرتين بعد هروبه إلى أوروبا. لكنها لم تكن منطقية تماما، فمن المستحيل أن يكون القتلة قد استعملوا سم سيانيد البوتاسيوم لأن الكمية التي أدعى الأمير استخدامها كانت كفيلة بقتل مجموعة أشخاص مثل «راسبوتين». لكن الاستنتاج الوحيد أن حكاية السم خيالية تماما. وإذا كان الأمير قد أدعى أنه قتل «راسبوتين» دفاعا عن العائلة المالكة ومصالح روسيا، فإن تاريخه لا يدعم ذلك، لأنه كان شابا فاسقا لم يهتم سوى بالسكر والمغامرات الجنسية. وهناك مشكلة ثانية، وهي كون «راسبوتين» كان في حالة صحية سيئة أصلا ما يجعل حكاية صراعه مع الأمير الشاب بعد أصابته بطلقة في صدره صعب التصديق. وقد بدأت الشكوك بصحة التفاصيل بأكملها منذ البداية، وكان واضحا أن خطة الاغتيال كانت مليئة بالعيوب، لكن المؤكد أن الأمير الذي تبنى تخطيط وتنفيذ الاغتيال لن يتعرض لأي سوء لأنه كان من أعلى طبقات المجتمع الأرستقراطي الروسي. وبما أن الأمير الشاب كان قد نشر مذكراته عام 1927 ومرة أخرى عام 1954 لتحقيق أرباح مالية وأنه كان في حالة مالية سيئة، فربما قام بالمبالغة المفرطة لإثارة القراء وتعليل قتله لرجل أعزل ومريض، وإخفاء تفاصيل خطيرة. وقد استمر الأمير في إصراره على كونه زعيم المؤامرة، وأن ما ذكره في كتابيه كان الحقيقة. بينما رفضت زوجته الكشف عن أي تفاصيل طوال حياتها.

العلاقة البريطانية

عندما وقعت الثورة في روسيا عام 1917 وأطاحت بالعائلة المالكة الروسية هرب الأمير وزوجته من روسيا على متن سفينة بريطانية حربية، بينما رفضت الحكومة البريطانية استقبال عائلة القيصر، ما أدى إلى احتجازها من قبل السلطات الثورية، ثم إعدام جميع أفرادها من قبل الشيوعيين. وللأمير علاقة قديمة ببريطانيا، فقد كان طالبا في جامعة أوكسفورد البريطانية. وكان أحد أصدقائه المقربين طالب بريطاني يدعى أوزوالد رَينر. وكان رَينر هذا موجودا في موسكو أثناء الحرب العالمية الأولى ليس بسبب عمل تجاري، بل كعميل لجهاز المخابرات البريطانية، واستمرت علاقته في تلك الأثناء بالأمير الروسي. ويدعي بعض المؤرخين مثل جايلز ملتن وأندرو كوك وريتشارد كَلن، أن من أطلق الرصاصة القاتلة في جبين «راسبوتين» لم يكن سوى رَينر نفسه الذي كان موجودا في القصر ومشتركا مع المتآمرين. وقد ذكر الأمير القاتل أن رَينر كان على علم مسبق بالمؤامرة. وإذا كان ذلك صحيحا، ما مصلحة بريطانيا في هذا الأمر؟ لقد كانت روسيا طرفا في الحرب العالمية الأولى ولم يكن جيشها قادرا على مواجهة الجيش الألماني في الجبهة الشرقية للحرب وكانت خسائره مرعبة. لكن وجود روسيا في الحرب كان يخفف من الضغط على الجيشين الفرنسي والبريطاني بشكل كبير في الجبهة الغربية. وكانت قد انتشرت إشاعات عام 1916 مفادها أن قيصر روسيا أخذ يفكر جديا بالاتفاق مع الألمان وإيقاف تلك المواجهة العقيمة ما يعني تعرض القوات البريطانية والفرنسية لخطر مواجهة الألمان بمفردهما. وكان من المعروف أن «راسبوتين» كان مصرا على انسحاب روسيا من الحرب وأن له نفوذا كبيرا داخل العائلة المالكة. ولهذا السبب، فإن القضاء على «راسبوتين» كانت ضرورية بالنسبة لبريطانيا. وإذا كان العميل البريطاني قد قام بالاغتيال فعلا، فيدل هذا على اختراق كبير للمخابرات البريطانية للطبقة السياسية البريطانية. وقد دلت علامات التعذيب الواضحة على جثة «راسبوتين» أنه تعرض للتعذيب والاستجواب من قبل قاتليه. وإذا كان هذا صحيحا كذلك، فإنه يدل على أن الاغتيال لم يكن على يد هؤلاء الروس الهواة، بل على يد فريق من المحترفين.
من المعروف أن السفير البريطاني في روسيا كان على علم بمؤامرة لاغتيال «راسبوتين» ويثير عدم إبلاغه السلطات التساؤل، بالإضافة إلى ذلك قام القيصر الروسي بسؤال السفير البريطاني إذا كان لبريطانيا أي دور في هذا الاغتيال. وكان جواب السفير بالنفي القاطع.
ما يزال المهتمون يبحثون عن معلومات جديدة متعلقة بمقتل «راسبوتين». ولا نعلم ما يخبئ المستقبل.

مؤرخ وباحث من العراق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية