قدمتُ من قرية صغرة تنام مساء على كتف كثيب رملي في الأطراف الجنوبية للربع الخالي في محافظة مأرب اليمنية. أتذكر بساطة أولئك القرويين التي أورثتهم حياة سعيدة أجاهد اليوم – ويجاهد غيري – لاستعادتها دون جدوى، تماماً كما يجاهد عقل أدمن التعلق بوسائل التواصل الاجتماعي للعودة إلى مرحلة الكتاب والقصائد الحالمة.
كان غروب الشمس إيذاناً بوقت الراحة من أعمال اليوم، وبعد صلاة العشاء يتحلق أفراد الأسرة حول الفانوس، يستمعون للوالد يحكي ما تيسر من تجاربه وتجارب الآخرين، وأقاصيص المخيال الشعبي المليئة بالشجى والحب والمغامرة والحكمة، ولم تك ليلة تخلو من الشعر والطرفة والحكايات الموحية، ومع اقتراب موعد النوم يردد الوالد «حُداء» لا تزال أصداؤه تتجاوب معي في زحمة قطارات باريس وطائرات تشارلز ديغول.
هذا الحُداء المقدس هو الذي كنت أنام على إيقاعه بروح طفولية صافية، تتخيل قوافل الجِمال تشق الرمل، وعند لحظة الغروب تنعطف قرب بعض الكثبان لبعض الراحة، لتنام على رمل في نعومة خدٍّ حسناء مترفة، وتحت أضواء نجوم الصحراء التي تطرز قبة السماء المليئة بالأسرار.
لم يكن لدينا ـ حينها – شيء يربطنا بالعالم خارج حدود القرية، وكنت أظن أن الشمس إذا غربت وراء الجبل فإنها تطلع على أبناء القرية الأخرى الرابضة خلف الجبل بالقرب من الكثيب، وكان أبناء القرية يطلقون لفظة «عرب» لتعني ناسا – أي ناس – حتى ولو لم يكونوا عرباً، لأنهم ربما كانوا يتصورون أنه لا يوجد في العالم غيرهم وغير «عرب» القرية المجاورة.
ومع الليل تهل الأسمار والأشعار ويتجمع الرجال في باحة القرية، لقليل من التواصل قبل الخلود إلى النوم للتزود ببعض الطاقة ليوم آخر مليء بالعمل والأمل.
هذه الحياة كانت مصدر سعادة لا حدود لها، سعادة نفتقدها جميعاً اليوم، ونحن نجري من دولة إلى أخرى، ومن مدينة إلى غيرها، ومن حساب فيسبوك إلى مجموعة واتساب إلى إنستغرام إلى موقع إخباري إلى وكالة أنباء إلى الجزيرة والعربية والسي أن أن والبي بي سي وبرامج وأفلام وشاشات وكاميرات وأضواء حارقة لا حصر لها أصابت أرواحنا بتلوث مريع، وضجيج كثيف أصاب شاشاتنا الداخلية بعتمة عمياء ضاعت فيها معالم الطريق ووجهة الروح التي أصبحت حائرة قلقة تبحث عن شاطئ بعيد تهرب إليه من ضجيج هذا العالم اللاهث وراء اللذات والأضواء والصراعات والمذاهب والطوائف والسعار التكنولوجي الذي تحولنا معه إلى كومة من الغرائز والأحقاد والقلوب المعدنية والنفوس الجوفاء.
لقد أصبحنا أكثر عصرية وأكثر إلماماً، في عالم تقارب حتى أن الحدث يحدث في قرية نائية في أطراف الصحراء، فأعرفه أنا في باريس قبل أن يعرفه أكثر القرويين هناك، وجاءت وسائل التواصل التي لو عاصرها جبران خليل جبران لما كتب شيئاً من رسائله الغرامية العميقة إلى مي زيادة. هل يمكن تصور غسان كنفاني مبدعاً كل تلك الرسائل إلى غادة السمان لو أنه كان لديه جهاز تلفون ذكي يحوي ما لا يحصى من أيقونات الوله والشوق ليتحول الحب الرومانسي إلى مجرد صور وأيقونات ورموز جاهزة أشبه بالوجبات السريعة المثلّجة في محل على ناصية شارع باريسي مزدحم؟
ما الذي جرى؟ ماذا فعلت بنا التكنولوجيا؟ كيف تحولت القلوب إلى قنينات اختبار يتفاعل فيها الحب كيميائياً؟ كيف اختصرنا مدلول الحب على الحب الغريزي الخالي من المودة والرحمة؟ كيف خلت حياتنا من أبعادها الروحية ونضبت معها ينابيع السكينة والطمأنينة؟ كيف عَلِقْنا في نقطة هذا القلق الذي لا نستطيع معه الاحتفاظ بالحياة ولا التخلص من الاحساس بالموت؟ كيف دفعنا هذا «القلق الوجودي» إلى إنكار وجود الله، ثم ذهبنا نبحث عن السعادة في الجنس والثروة والسلطة والكأس والأفيون الذي غزا كل شارع وأصبح شغل أقسام الشرطة في جميع أنحاء العالم؟
لقد حرم الإنسان المعاصر نفسه بنفسه من سكينة النفس، ثم ذهب يبحث عنها في عالم من ضجيج وزخرف وبهرج وكاميرات وصراخ وشعارات وثورات وثروات، ثم لما لم يجد ما يريد لجأ إلى الانتحار شخصياً واجتماعياً وفكرياً وروحياً.
هل يمكن تصور أبي حيان التوحيدي مبدعاً أمتع المؤانسات لو أنه أصيب بلعنة التكنولوجيا، وتم إدخال رقم تلفونه ضمن مائة مجموعة واتساب، وأصبح تلفونه يرن بشكل مخيف بسبب سهولة الحصول على رقم هاتفه؟
إننا اليوم محرومون من طعم الدهشة التي كانت لأجدادنا عندما وقفوا للمرة الأولى يشاهدون جسماً طائراً في الفضاء أطلقوا عليه «أبو ذيل» محرومون من دهشة رؤيتهم لأول سيارة تجمعوا حولها بدهشة أهل الريف متسائلين أي كائن غريب هذا؟ كيف يأكل ويشرب ومتى ينام؟
وإذا كان جيلنا قد حُرِم بعضَ الإدهاش فإن تلاحق المبتكرات التكنولوجية لم يترك فرصة لجيل أبنائنا لكي يذوقوا طعم دهشة متوهجة ذاقها الأجداد.
ما زلت أتذكر المرة الأولى التي شاهدنا فيها جهاز التلفزيون، وكأن عالماً سحرياً قفز إلينا من صفحات ألف ليلة وليلة. كانت المرأة الريفية الملثمة تطالع الشاشة فإذا ظهر المذيع ردّتْ اللثام على وجهها، خشية أن يراها ذلك الرجل «طويل العين» القابع داخل تلك العلبة السحرية، وإذا ظهرت المذيعة أرخت تلك الريفية اللثام قليلاً، لتختلس النظر لتلك الفتاة «غير المحتشمة» التي لا تغطي وجهها وشعرها. أية براءة كانت في ذلك المجتمع الذي كان يعيش في مدينة الفارابي الفاضلة ويوتوبيا توماس مور وجزيرة حي بن يقظان النائية التي صنعاها له ابن طفيل؟
كل هؤلاء الفلاسفة كانوا يبحثون عن السعادة في تلك العوالم الخيالية التي تعج بالفكر والفلسفة والجمال الذي يبعث على الدهشة والمتعة وراحة البال، كل ذلك كان في زمن سابق على عصر القلق الذي نعيشه اليوم، مع كم كبير من المؤثرات الحسية والصخب المميت والجدل الحافل بالضجيج الفارغ.
كيف لو عاش جلال الدين الرومي في زمننا هذا؟ الزمن الذي أصبح فيه التصوف سياسة، والحب معادلة كيميائية والقصيدة رموزاً رياضية، والقلب أيقونة محشورة في جهاز تلفون.
هل كان يمكن تصور وجود فلاسفة وأنبياء وشعراء وكتاب وعشاق كبار ومتصوفة عارفين في عصر تذوب فيه الحواجز بين القصيدة والمقالة والقصة ونشرة الأخبار، وتتبدد المشاعر بين المعادلات والرموز والأيقونات الجاهزة؟
وهل يمكن تصور أبي حيان التوحيدي مبدعاً أمتع المؤانسات لو أنه أصيب بلعنة التكنولوجيا، وتم إدخال رقم تلفونه ضمن مائة مجموعة واتساب، وأصبح تلفونه يرن بشكل مخيف بسبب سهولة الحصول على رقم هاتفه؟
إننا في حاجة إلى التفكير بشكل جدي في إعلان الحرب – إن استطعنا – على مارك زوكربيرغ وبيل غيتس وبريان أكتون وجان كوم وكيفن سيستروم ومايك كريغر، وعلى منتجي ومذيعي نشرات الأخبار المسائية التي تحدد وقت ما قبل النوم لتعطينا جرعات قاتلة من الأرق الذي لا ينتهي.
وحين نتخلص من أسرنا لعاداتنا، ونكسر سطوة التقليد، ونقول لا لتحويل قلوبنا إلى قنينات اختبار، ولا لاختصار حياتنا في تطبيق تعيس على شاشة تلفون غبي، وحين ننخلع من كل هذا المهرجان الصاخب، والحفلات التنكرية السخيفة، ونخرج من رقصة ما بعد الحداثة لنعود إلى الناي والشبابة والعود، وحين نكسر إطار تلك اللوحة السوريالية، ونعلن أن القلق الذي نحن فيه مبعثه الصراع بين إحساسنا بالعدم (الموت) وتشبثنا بالوجود (الحياة) ذلك الصراع الذي ذهبنا لنعالجه بالانغماس في المزيد من وسائل التواصل أو «وسائل التقاطع الاجتماعي» التي قضت على تواصلنا الإنساني، لتحيل كلاً منا إلى قارب معزول تتقاذفه أمواج مثلث برمودا إلى مصيره المحتوم، وعندما ندرك مبعث هذا القلق فإنه يمكن معالجته، بالتخفف من كثير من الفلسفات والأفكار والتعقيدات والتلفونات، والعودة إلى حياتنا الطبيعية التي يكون فيها التلفون وسيلة تواصل ضرورية، لا فرن أعصاب تذوب داخله الأحاسيس والمشاعر والمعاني والأفكار الجميلة.
وحينها سنجد المزيد من الوقت للوحة الجميلة والقصيدة المحلقة والنغمة الحالمة والهمسة الدافئة، وملاعبة طفل مشاغب، وسنجد الوقت الكافي للتأمل في خلق الله، وسنستشعر لا نهائيات الكون، وحينها تتضاءل مشاكلنا ومخاوفنا وهمومنا وأحقادنا أمام قدرة الخلاق العظيم.
وإذا كان من الصعب استعادة قريتنا الصغيرة النائمة على كتف الكثيب الصغير ونحن نعيش في هذه المدينة الصاخبة، فإنه يمكن استعادة أخلاق تلك القرية وبساطتها على المستوى الشعوري والسلوكي، وعندها نردد مع من وصل إلى شاطئ الأمان قول المولى: «الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» حيث يمكن أن نجد بعضاً من سكينة مزقتها أصوات المدافع نهاراً وضجيج نشرات الأخبار عند التاسعة مساء.
كاتب يمني
قال لي شيخ تركي التقيته في المانيا بوما ، و قد عبرت امامنا دراجة (بايسيكل) : في صباي كان يطلق كبار قريتنا على هذه ، مشيرا الى الدراجة، عربة الشيطان! قلت ولماذا؟ فال لأنهم يوم رأوها تعجبوا من سيرها و بهذه السرعة دونما أن تثبت على الارض.. البساطة جميلة يا أستاذ جميح .. لكن مع البسطاء!!