من مدينة طولكرم.. إطلالة على إرهاب الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية “التي تغلي بهدوء”

حجم الخط
0

على الشارع الرئيسي بين بلدة عنبتا وطولكرم وبوابة الدخول إلى مخيم نور شمس للاجئين على مدخل المدينة الشرقي، عليك أن تبطئ السرعة وتجد الطريق بين حفر في الشارع وأكوام وحل وبرك. جرافات الجيش الإسرائيلي دمّرت هذا المقطع من الشارع لمساعدتها في اقتحاماتها المتكررة للمخيم، وفق أقوال السكان؛ خوفاً من زرع عبوات ناسفة على الشارع. والنتيجة أن السيارات تتعثر في الوحل وفي أزمة مرور دائمة. الشارعان الرئيسيان داخل المخيم أزيلا من مكانهما، وأعيد تعبيدهما من جديد على يد الفلسطينيين، ثم كرر الجيش الإسرائيلي فعلته مرة أخرى. باتت البنى التحتية للمخيم من كهرباء ومياه ومجار، متضررة بشكل كبير بسبب جرافات الجيش. تم وضع مكعبات إسمنتية وأكوام من التراب على حاجز عناب؛ لإعاقة السفر منذ بداية الحرب. ما زالت الضفة هادئة نسبياً، لكن الجيش الإسرائيلي ينشط فيها أكثر من العادة، ويزرع الدمار والقتل في ظل الحرب على غزة.

يضاف إلى الوضع الاقتصادي الصعب الدائم، إغلاق جلبته الحرب ويمنع عشرات آلاف العمال من الذهاب للعمل في إسرائيل، ومن خاطروا في السابق بالتسلل (الماكثين غير الشرعيين) يخشون الآن من التسلل عبر ثغرات الجدار بسبب الأجواء المهددة والسائدة في إسرائيل. تم ضرب بعض العمال في شوارع المدن. وتوقف أفراد الوسط العربي في إسرائيل عن دخول طولكرم كما في السابق، فهم أيضاً يخافون من الحواجز ومن الجنود والمستوطنين؛ والضفة الغربية تغلي الآن حتى لو بهدوء. والجيش الإسرائيلي لا يهتم فقط بأمن الإسرائيليين، بل ويستغل الحرب للإثقال على السكان في الضفة الغربية والتنكيل بهم.

يقضي السكان معظم وقتهم في مشاهدة ما يجري في غزة. وصدمتهم مما يجري هناك حاضرة هنا أيضاً. نظريات المؤامرة تنتشر في كل مكان، على مشاهد المفاجأة والهزيمة الأولية للجيش الإسرائيلي يوم السبت في 7 أكتوبر. لم يعتقد أحد حدوث هذا. والجميع يدركون أن ما كان لن يتكرر، وأن شيئاً ما حدث في 7 أكتوبر. ولا أحد يعرف تفسير ذلك. الباحث في “بتسيلم”، عبد الكريم السعدي، الذي يعيش في قرية عِتّيل المجاورة، قال إنه في ذلك اليوم استيقظ بعد أن اتصل معه ابنه من رام الله وهو هائج، وقال له إن عليه رؤية التقارير. السعدي، مثل معظم الإسرائيليين، لم يصدق ما شاهدت عيناه: حماس في “سديروت”. بعد ذلك، حدث شيء ما هنا أيضاً. مثلاً، شوارع كثيرة أغلقت أمام حركة الفلسطينيين، واقتصر السفر فيها على اليهود فقط، في البلاد التي ليست بلاد أبرتهايد. مثلاً: على شارع برطعة – جنين، وشارع جت – حوارة، وكذلك في حوارة المحاصرة والمعتقلة حتى قبل اندلاع الحرب.

       شهيد وليس مهندساً

رؤوس أبقار معلقة للعرض على أوتاد أمام محلات اللحوم في طولكرم. صورة لأم كلثوم موضوعة على بسطة لبيع السجق باسم “أنت عمري”. الحركة في المدينة ضجة وصخب، رغم كل شيء. قتل في مخيم نور شمس 14 شخصاً في ليلة واحدة، وسنأتي لذلك فيما بعد. في طولكرم وحدها قتل 42 شخصاً منذ بداية الحرب. أكثر من 200 شخص قتلوا في الضفة الغربية. تجمعات شوهدت هذا الأسبوع قرب مستشفى ثابت ثابت في مركز المدينة. خلف المستشفى تعيش عائلة عواد.

رسومات لتلال مغطاة بالثلوج وغابات وبحيرات وسماء زرقاء تزين الجدران، عصافير تغرد في الأقفاص، بيت متواضع خلف المستشفى. هنا يعيش “الشهيد المهندس” مجدي عواد. حسب إعلان العزاء. عواد شهيد، لكنه لم يكن مهندساً ذات يوم. في الحقيقة، درس الهندسة داخل الأردن في صباه، لكن بعد إصابته بمرض نفسي في ذروة تعلمه، اضطر إلى وقف الدراسة، وتم تشخيصه كمريض بانفصام الشخصية. ومنذ ذلك الحين، لم يعمل ولو ليوم واحد في حياته. جلست ابنته الوحيدة اعتدال (36 سنة) مع زوجها محمد بركة (50 سنة) في الصالون الصغير، وتحدثت عن حياة والدها وموته.

منذ مرضه وتشخيصه، انغلق الوالد على نفسه في غرفته في الطابق السفلي، وحافظ على الصمت. لم يكن شخصاً عنيفاً، لكن التواصل معه كان بالحد الأدنى. مع ذلك، تزوج من سميرة (55 سنة الآن) وأصبح أباً لاعتدال. تولت سميرة إعالة العائلة بواسطة أعمال النظافة في الطيبة وقلنسوة والطيرة. كان مجدي جالساً في البيت أو يذهب إلى السوق. كان الناس يعطونه شيئاً يأكله أو يشربه. كان عمره 65 سنة، والمتأمل لصورته في إعلان العزاء يجد في عينيه حزناً ومعاناة.

في 1 تشرين الثاني، استيقظ كالعادة قبل الفجر وقبل الأذان، بعد الساعة الرابعة فجراً بقليل، وخرج من البيت لجولته المعتادة في شارع المقاطعة: حمص وفول من محل، ورغيف من مخبز، بعد ذلك جلس على بوابة المسجد وتناول الفطور. بعد أن أنهى الفطور، نهض من مكانه قرب المسجد، وبدأ السير في الشارع. فيلم فيديو في كاميرا يظهر طريقه الأخيرة: عواد يسير ببطء وتثاقل، وفي لحظة سقط منهاراً على الشارع. ارتطم وجهه بالإسفلت، ضوء أزرق على الشارع في الخلفية.

كانت تقف على زاوية الشارع سيارة عسكرية على بعد 100 متر من عواد. من خلال سيره البطيء والمتثاقل لا يمكن أن يكون هناك شك بأنه رجل عجوز وأن يديه عاريتان، وأنه لا يحمل أي سلاح. رصاصة واحدة أصابت رأسه، اقتحم الجنود المدينة في تلك الليلة لاعتقال أحد نشطاء، هو كساب زقوت. اعتقل زقوت، وتوفي عواد في المكان.

       شاهدت من الشرفة

طريق العودة إلى مخيم نور شمس قصيرة. تعيش عائلة محاميد في البيت الواقع على أطراف المخيم، فوق محل تجاري مهجور. ناهدة (54 سنة) وإبراهيم (58 سنة) وأولادهما التسعة. كان إبراهيم صحافياً سابقاً، وكان يصدر مجلة أسبوعية محلية. لهذين الزوجين أقارب كثر في أم الفحم. عند زيارتنا في هذا الأسبوع، كان لديهما زوجان إسرائيليان من قرية جت. منذ كارثتهما يأتيان إلى هنا بين حين وآخر. الزوجة من جت، قالت إنها تخاف المجيء منذ الحرب.

طه (15 سنة)، وهو طالب في الصف العاشر، استيقظ في ليلة 19 تشرين الأول، ومعه كل أبناء العائلة وكل سكان المخيم عند سماع صفارة الإنذار التي يطلقها المقاتلون في المخيم عندما تقترب قوات الجيش الإسرائيلي من المكان. في هذه المرة؛ لقد كانوا مستعربين اقتحموا المخيم متنكرين بسيارة تحمل لوحة فلسطينية.

كان طه يلعب بأوراق الأونو، لعبة على الحاسوب، مع شقيقته الكبيرة شيماء (22 سنة) والمتزوجة من عربي إسرائيلي. قال لها إنه سينزل ليرى ما يحدث على الشارع الرئيسي. بعد دقيقتين، سمعت صوت رصاص في الشارع. شقيقته سارة (18 سنة) جلست على الشرفة وشاهدت كل شيء. لم يلق طه نظره إلى الشارع الرئيسي حتى أصابته رصاصتان في رأسه، واحدة تحت العين والأخرى فوقها، في الجبهة. ثم رصاصة ثالثة أخرى أصابت قدمه.

الساعة 3:35 فجراً. استدعت سارة والدها بالصراخ: “والدي، والدي، طه سقط”. خرج إبراهيم على الفور من البيت، وركض نحو ابنه الذي يحتضر. المسافة بين البيت ومكان سقوط طه بضع عشرات من الأمتار، لم يشاهد إبراهيم الجنود الذين أطلقوا النار على ابنه، لكنه صرخ عليهم بالعبرية وبالعربية بأنه والده، ورفع يديه، لكن هذا لم يساعد. ففي اللحظة التي حاول فيها أن يقلب جسد ابنه ليرى وجهه، أطلق الجنود النار عليه أيضاً. وقد أصيب إصابة بليغة في بطنه، وتم علاجه لمدة أسبوعين في وحدة العلاج المكثف في مستشفى ثابت ثابت. وهو الآن يمشي مستعيناً بعصا وبصعوبة، نحيل وشاحب الوجه بسبب المرض. بقي الأب والابن ملقيين على الشارع مدة ساعة بدون علاج، إلى أن سمح لسيارة إسعاف فلسطينية بنقلهما. سيارة الإسعاف نقلت طه أولاً، الذي تقررت وفاته في المستشفى، بعد ذلك تم نقل الأب على الفور إلى غرفة العمليات.

المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي قال في هذا الأسبوع: “قوات الأمن عملت في التاريخ المشار إليه من أجل إحباط الإرهاب واعتقال مطلوبين في طولكرم ومخيم نور شمس للاجئين. أثناء القتال، أطلق مخربون النار بكثافة وألقوا عدة عبوات ناسفة نحو القوات. وأطلقت قوات الأمن النار على مخربين مسلحين ونحو مصادر إطلاق النار وحتى نحو عبوات لتفجيرها بشكل مبادر إليه”. وجاء أيضاً: “نعرف عن المس بمجدي عواد وطه محاميد ووالده. تفاصيل الأحداث قيد الفحص”.

في الليلة التي قتل فيها طه وأصيب والده، قتل بالإجمال 14 شخصاً من سكان المخيم، 10 منهم بسبب إطلاق صاروخ إسرائيلي. الأربعاء الماضي، قتل ستة أشخاص بسبب إطلاق صاروخ في المخيم الثاني. 10 قتلى خلال شهر ونصف. أصبح هذا أمراً معتاداً.

 جدعون ليفي واليكس ليبك

 هآرتس 24/11/2023

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية