أضاع هذا البلد جزءاً غير قليل من وقته جرياً وراءَ غنائيات «لبنان همزة وصل بين الشرق والغرب»، مقتاتاً على هذه في الاقتصاد كما في السياسة كما في الثقافة، غير مدرك أن إشكالية «همزة الوصل بين الشرق والغرب» تتشارك فيها بأشكال مختلفة، وانقسامات متنوعة، ومبالغات متفاوتة، عشرات البلدان. مثلما أنّ عيش الثنائية الإسلامية المسيحية بنسب لا يقل فيها أي من أتباع هاتين الديانتين عن ثلث السكان ليست خاصية يتفرّد بها لبنان، بل تجمعه بقبرص وألبانيا، وأثيوبيا، وأرتريا، ونيجيريا، وإلى حد معين كازاخستان، وكان يمكن أن تجمعه ببلغاريا لو لم تتبع سياسات الترحيل القسري لمعظم المسلمين منها منذ استقلالها عن السلطنة العثمانية وإلى نهايات القرن الماضي. كذلك، كانت الثنائية المجتمعية الإسلامية المسيحية شيئاً توجّب على حركة الإنتقال نحو نموذج الدولة القومية القضاء المريع على عناصره السكانية والحضارية التي كانت متوفّرة بقوة في تركيا واليونان.
بدل أن تدفع معزوفة «همزة الوصل بين الشرق والغرب» لبنان للتصالح أكثر مع النطاق الهلنستي ـ العثماني الذي كان كلّه «همزة وصل بين الشرق والغرب» بمعنى من المعاني، فقد فضّلت الأيديولوجيا اللبنانوية مسابقة القومية العربية على إدارة الظهر، بإحتقان، للماضي الهلنستي ـ العثماني، ولو أنّ البلد بقي، مع هذا، في مواضع كثيرة، أكثر عثمانية من سواه، انطلاقاً من إعادة انتاجه نظام الملل في بوتقة «الدولة الطائفية»، ووصولاً إلى حفاظه على شيء من الروحية الليفانتينية المدائنية لعثمانية «عصر التنظيمات»، وقوة أثر نموذج «الأعيان والأفندية» في العصر العثماني المتأخر، على النخب السياسية والثقافية اللبنانية سواء بسواء.
فضّلت أيديولوجيا «همزة الوصل» قطع الأوصال مع كل ما من شأنه تعزيز «غريزة المقارنة» المبنية على التوازن بين التقاط عناصر التشابه وبين ملاحظة اختلاف السياقات وبعد المسافات. وفي المقابل، وجدت هذه الأيديولوجيا لعبة مفضّلة لديها في المنازعة مع أخصام لها من طينتها في آخر الأمر. فالأيديولوجيا اللبنانوية المهيمنة لم تفقه من إختلاف إلا ذلك القائم على الفرادة القصوى غير القابلة لإعمال المقارنات، وأخصامها لا يرون من خطاب نقيض للغة «الفرادة» غير نفي السمات الخاصة والتمايزات من الأساس.
لم تكن أيديولوجيا «همزة الوصل» هي هي، قبل وبعد الحرب. همزة الوصل الذي ينهض بها تجار الترانزيت لم يكن لها نفس معنى همزة الوصل التي يؤمنها تضخم القطاع المصرفي.
بدل أن تدفع معزوفة «همزة الوصل بين الشرق والغرب» لبنان للتصالح أكثر مع النطاق الهلنستي ـ العثماني الذي كان كلّه «همزة وصل بين الشرق والغرب»، فقد فضّلت الأيديولوجيا اللبنانوية مسابقة القومية العربية على إدارة الظهر، بإحتقان، للماضي الهلنستي ـ العثماني
همزة الوصل التي أمنها التاريخ التراكمي لمدينة بيروت، من فترة ازدهارها كعاصمة لولاية تحمل اسمها في العصر الحميدي إلى فترة تحويلها إلى عاصمة لكيان متمحور حول متصرفية جبل لبنان إلى لحظة تناميها على حساب الجبل، لم تكن هي نفسها همزة وصل التاريخ «الانقطاعي» لها، مع الحرب التدميرية لوسطها أولاً والتفريعية لها ولضواحيها إلى مجموعة من المدن، ثم إعادة إعمار هذا الوسط بالشكل اللاهي عن التكامل مع باقي المدينة، وباقي الساحل، وتذكيري بمضامين رواية «مدن الملح». في كل مرة، كان نوعا من غنائية «همزة الوصل» يستقدم لتسويغ التوجهات التي تحكم حقبة من تاريخ العاصمة، ومن تاريخ البلد. إلا أنه، وبعد الحرب خصوصاً، كانت هذه الغنائية تخفي واقعاً مفرطاً في النثرية «السينيكية»، كنثرية همزة الوصل بين الوصاية السورية والسياسة الأمريكية في المنطقة، ونثرية همزة الوصل بين «السين سين»، سوريا والسعودية، ثم إيران والسعودية.
سنة تلو سنة أخذ يتباهت الرصيد الشعري لهذا التراكم من همزات الوصل المتغنية بالفرادة، بدل توسيع شبكة المقارنة مع مجتمعات وبلدان عديدة. آخرة همزات الوصل كانت دخول البلد في طوق من العزلة. عزلة تتقاطع فيها جملة عناصر، لكن كل هذه العناصر تتقاطع بالنتيجة مع الحصار الأمريكي والغربي والعربي أيضاً على «حزب الله»، وعلى لبنان ككل بالنتيجة. في نفس الوقت هي عزلة «تدويلية» بامتياز، من المحكمة الدولية إلى اليونيفيل المعززة جنوباً إلى باريس 1 و2 و3 ثم «سيدر»، إلى طلب النجدة من صندوق النقد الدولي مؤخراً، ناهيك عن الجرعات التذكيرية الدورية المتحدرة من القرارين 1559 و1701. همزة الوصل هي الآن بين الكبوة والعزلة والركود وبين مسارات التدويل الممأسسة… والبطيئة.
هو الإنسداد إذاً. لكنه في الوقت نفسه الانتقال من ارتفاع منسوب الوهم والشطط في غنائيات «لبنان همزة وصل بين الشرق والغرب» إلى الاندفاع أكثر فأكثر نحو أوهام «لبنان الأوتارسي». والأوتارسية أو الأوتاركيا، التي تعني في اصطلاحها اليوناني القديم الكفاية الذاتية، تعني التصوّر بأنّه يمكن بناء اقتصاد مغلق في مجتمع من المجتمعات يعتمد على دورته الداخلية بشكل كامل. في اللحظة نفسها الذي تتوجه فيه الحكومة المحسوبة على «الممانعة» إلى صندوق النقد الدولي، ما يفترض أن يعني على أقل تقدير خطل كل وهم حول الأوتارسية، فإنّ هذا الوهم لا يزال، مع ذلك، يجد طريقه، إلى كثرة الكلام. تارة يستظل بمعزوفة «الانتقال من اقتصاد ريعي الى اقتصاد منتج»، وتارة بالنوستالجيا الزراعية اللاهية عن الإستفهام حول تأمين شروطها. عملياً، يدخل البلد في مرحلة من التمازج «الثقافي» بين النقيضين، غنائية «لبنان همزة وصل»، من جهة، و«لبنان مشروع أوتارسيا منتجة من نمط جديد»، من جهة ثانية.
وهذا ينطبق على القوى التي تتبنى مرامي تغييرية في لبنان قبل سواها. فهذه ما تزال ترطن، والى حد كبير، بغنائية «لبنان همزة وصل»، وتنساب فيها في نفس الوقت نفحات «أوتارسية» تتعامل مع البلد كما لو أنه جزيرة نائية عن محيطه، وتغالي في مستطاع «القدرات الذاتية» على نحو إرادوي خالص. لأجل هذا، شيء من إعادة الإفساح بالمجال للتنفس والتفكير والفعل في لبنان اليوم بات مرتبطاً بالإبتعاد المتوازن والمتزامن عن غنائية «همزة الوصل» التي لا تخبو وإن شحبت من جهة، وعن أوهام «الإعتماد على الذات» في كل كبيرة وصغيرة، الذي لا يساعد كثيراً على اعادة دعوة النقاش الى حيث الواقع.
كاتب لبناني
لقول بأن لبنان همزة وصل بين الشرق و الغرب فيه تجني على الشرق
–
و المسيحية معا لان الشرق هو نفسه مهد المسيحية و ليس الغرب
–
تحياتي