كان الشيخ عووضة الذي عاش في حوالي القرن الثامن عشر الميلادي يبيع السنة من العمر بقرش والسنتين بقرشين والمئة سنة بمئة قرش، كما كان يبيع أسرار الغيب للعامة والخاصة، ويمتلك ما عرف بلغة «كن فيكون»، أي القدرة على فعل كل شيء مهما كان صعباً أو بدا للآخرين مستحيلاً.
وردت هذه التفاصيل التي تبدو اليوم أشبه بقصص الخيال الأسطورية في الكتاب الذي اشتهر باسم (طبقات ود ضيف الله)، نسبة لاسم صاحبه محمد النور بن ضيف الله الذي أراد أن يقوم بالتوثيق لأهم الشخصيات التي عاشت في عصر مملكة الفونج، التي حكمت أجزاء واسعة من السودان الحالي (1505-1821). أظهر ضيف الله اهتماماً مكثفاً بقصص الأولياء وشيوخ التصوف، حيث نقل كثيراً مما كان يتداوله العامة عنهم حينها كقصة الشيخ عووضة المشار إليها أعلاه وغيرها من القصص الأخرى عن الولي الذي يحيي الموتى أو الآخر الذي كان يمتلك القدرة على تحويل الأنثى لذكر، أو منح العقيم ولداً، أو غيرها مما يتم سرده بتفصيل لا يخلو من طرافة وتشويق.
على ما فيه من مبالغات واضحة، يقدم كتاب الطبقات هذا لمحات مهمة عن الجو الاجتماعي الذي كان سائداً في بلاد الفونج وقتها، والذي كان فيه التصوف بشكله المقترن بالخرافات والبدع والتصورات الغيبية يشكل حجر الأساس فيه. بدا الأمر وكأنه امتزاج بين عقيدة التوحيد الإسلامية المؤسسة لمملكة الفونج، والعقائد الإفريقية الأخرى التي كانت ما تزال متجذرة في الوعي الجمعي للناس بركائزها المبنية على الطوطمية أو على تعميق أثر الوسائط بين الخالق والمخلوق على اعتبار أنه لا يمكن بدون هذه «الزلفى» أن يصل صوت الإنسان البسيط لخالقه.
الصورة الاجتماعية في القرن التاسع عشر لم تتغير كثيراً عما كان قد وصفه «ضيف الله». كانت طبقة الأولياء الصالحين قد بدأت تأخذ حظها في التركيبة الاجتماعية، بفضل الاحترام الذي كان يمتزج في كثير من الأحيان بالتقديس المتغذي على السرديات، التي تضخم من قدرة هذا الولي أو ذاك على الإتيان بما لم تستطعه الأوائل. كان لكل ذلك أبلغ الأثر في نجاح الدعوة التي قام بها محمد أحمد، الذي سيعرف لاحقاً بالإمام المهدي. الفكرة الساحرة لوجود مخلّص مرسل من السماء إلى الأرض ومتمتع بالبركة وبالقدرات الفائقة، وجدت رواجاً سريعاً ما كان يمكن لها أن تجده لولا أنها وجدت في ذلك المكان في ذلك الوقت. هنا نلاحظ أن محمد أحمد بدا هو نفسه مقتنعاً ومؤمناً بشكل لا يقبل الجدل بكونه المهدي المنتظر، الذي حكت عنه كتب التراث، والذي ستكون له أدوار سياسية بنقل الناس من حياة الظلم والفجور، إلى دولة الإيمان الصادق. لاحقاً ستبدأ عقيدة جديدة بالتشكل لا يكون المرء بموجبها مسلماَ مكتملاً، إذا آمن بالنبي محمد، عليه السلام، ولم يؤمن بالمهدي، الذي يمثل المرحلة ما بعد الأخيرة للرسالة المحمدية.
سوف يكون لهذه النقطة الأخيرة المتعلقة بإعادة تعريف معنى المؤمنين، آثار كثيرة اجتماعية وسياسية، فهي التي ستدفع بالمهدويين، رغم وضعهم السياسي الحساس، وما كانوا يواجهونه من تحديات، للدخول في صراعات كانوا في غنى عنها مع بعض القيادات الدينية غير المؤمنة بالمهدية، ومع بعض شيوخ القبائل ورجال الممالك الإسلامية الأخرى المجاورة، وهو ما سيكون أحد أو أهم الأسباب التي ستؤدي لتشتيت الجهود وإضعاف الجبهة الداخلية والتشويش على مبدأ «العدو المشترك» الاستراتيجي، الذي يلزم السياسي بالدخول في مصالحات وتحالفات مع بعض الجهات التي قد لا يكون بالضرورة متفقاً معها بشكل كامل.
من الناحية الأخرى فإن الآلاف الذين اتبعوا المهدي كان معظمهم مؤمنين به إيماناً روحياً لا يتزعزع. كانوا مؤمنين بقدرته على التواصل الروحي، وأنه كانت تصله في اليقظة والمنام إشارات هي أقرب للوحي الذي يقوده نحو النصر والتمكين. تعزز هذا الإيمان أكثر مع الانتصارات الأولى التي تحققت لجيشه، الذي كان أقل عدة وعتاداً مقارنة بالجيوش التي واجهها، والتي كانت تحاول رد مناطق نفوذه لحدود الحكم التركي المصري، الذي كانت تسيطر عليه بريطانيا.
بعد سقوط الخرطوم وإعلان دولة المهدي تحولت الدروشة الجمعية إلى «دروشة سياسية»
هذه الحالة من «الدروشة الجمعية» ذات التأثيرات السياسية لم تقتصر على بلاد السودان، بل هي موجودة في معظم المجتمعات، التي لم تترسخ فيها عقيدة التوحيد. نجدها داخل العمق الإفريقي، حيث التجاذب المستمر مع العقائد المحلية، كما نجدها في مناطق أخرى كالهند مثلاً، التي ازدهرت فيها دعوات وإدعاءات ما تزال آثارها باقية حتى اليوم، كالقاديانية التي ظهرت إبان الاحتلال البريطاني، والتي كان صاحبها أحمد القادياني في بداياته يدّعي أيضاً، للمفارقة، أنه المهدي المنتظر، الذي يجب أن يجتمع المسلمون حوله، قبل أن يطور تعاليمه التي ستصبح لاحقاً أقرب للدين الجديد الذي هو مزيج من الأجواء الروحية الهندية وبعض تعاليم الإسلام، إضافة إلى الإعجاب المثير للجدل ليس فقط بالنفس، لدرجة ادعاء النبوة ولكن، للغرابة، بالإنكليز أنفسهم الذين كان يراهم القادياني أصحاب فضل على بلده.
رغم التشابه في الظروف الاجتماعية بين كل من مهدي السودان وقادياني الهند وولادة كليهما تحت الاحتلال، إلا أن مسار كل منهما كان مختلفاً عن الآخر، حيث اختار الأول طريق الجهاد، في حين اختار الثاني طريق المصالحة مع المحتل، بل وتحريم الجهاد. هذا هو سبب تحالف القوى الاستعمارية للقضاء على المهدي، في الوقت الذي سيتم فيه التعامل مع قادياني الهند بشكل فيه الكثير من التشجيع والرعاية التي ستؤدي إلى انتشار دعوته، لاسيما وأنه ظهر في وقت مفصلي من تاريخ الاحتلال، اشتهر بالثورات المتصلة وحركات مقاومة كادت أن تؤدي لخروج بريطانيا من الهند. مثّل المسلمون جزءاً كبيراً من ذلك الحراك متكئين على الروح الثورية الدينية، والامتزاج بين العقيدة وقيم الجهاد ومكافحة المحتلين، وهو ما لعب عليه القادياني مقدماً خدمة كبيرة للبريطانيين، الذين كان يعلن محبتهم ويبالغ في إظهار ولائه لهم.
بعد سقوط الخرطوم وإعلان دولة المهدي تحولت تلك الدروشة الجمعية إلى «دروشة سياسية». المصطلح سيطلق لاحقاً على عدد من التجارب الإسلامية في النطاق السياسي، وهي التجارب التي ستفاجأ بأن التنظير لبناء الدولة بموازناتها الداخلية المعقدة وبعلاقاتها الخارجية الأكثر تعقيداً هو شيء مختلف تماماً وتجربة منفصلة عما خبروه من مجرد حشد الأتباع أو إلقاء الخطب الحماسية أو المسجدية لجمع الأنصار والمتعاطفين. كانت الحالة المهدوية مثالاً مبكراً على ذلك، فقد عاشت الدولة في عمرها القصير الذي لم يتجاوز الخمسة عشر عاماً حالات مختلفة من الصراعات والفشل الاقتصادي والسياسي، الذي كان من مظاهره المسارعة لمعاداة الجوار، بما فيه الأقاليم والشخصيات التي كانت تتشارك مع المهدويين الرؤية ذاتها المتعلقة بمحاربة الاستعمار وإقامة دولة على ضوء الشريعة.
لا يفهم من ذلك أن الدروشة السياسية محصورة في الحركات ذات الخلفية الإسلامية، فقد أظهرت حركات يسارية وشيوعية في مراحل مختلفة، سلوكاً لا يخلو من دروشة، كما لا يفهم من هذا السرد أن العامل الاجتماعي محصور فقط في مسألة التدين الشعبي، ولكن المقصود هو أن هذا كان العامل الأقوى أثراً والأكثر حسماً في مرحلتي صعود وأفول المهدية على حد سواء.
كاتب سوداني
القديانية جماعة إسلامية لا فرق بينها وبين عامة المسلمين الا في الإيمان بالمهدي المنتظر وهو في نفس الوقت يماثل مسيح الأمة الإسلامية المسيح الناصري كان رسولا لبني إسرائيل جاء لبيان التوراة التي أساء اليهود فهمها وانحرفوا عن مبادئها الأصلية.
لا علاقة بين القديانية (الجماعة الإسلامية الاحمدية) والأديان الهندية الأخرى إطلاقا، وهناك من الآيات والأحاديث النبوية ما يدل على صدق المهدي وعلامات ظهوره وزمنها وعن هوية المهدي الذي قال الرسول ص انه يكون من أصول فارسية.
الإنتقال من الثورة إلى الدولة هو بمثابة الإنتقال من البداوة إلى الحضارة أو بشكل عام من البسيط إلى المركب على ما فيه من تعقيد وتنظيم. قد يصل المرء إلى السلطة لكن يفتقر لمهارات الإدارة والتسير والحفاظ على المكتسبات فينقلب الوضع نحو الدروشة والسير على غير هدى إلى أن يصل المشروح أو الطموح لنقطة الفشل والسقوط وما يعقبه من تشهير بالتجربة خاصة إن كانت ذات خلفية إسلامية ليتعدى ذلك الطعن والتشهير بالإسلام نفسه