بيروت-“القدس العربي”: كانوا 19 صوتاً من كل لبنان، يمثلون قطاعات فنية متعددة، جميعهم شكلوا كورال نشيد الثورة. نشيد ولد في لحظات عابقة بالحرية الإنسانية، وبالمسؤولية الوطنية، ولابد ستكون مصيرية في تاريخ لبنان الحديث.
في حفظ الحقوق الأدبية للنشيد فهو من كلمات مهدي منصور، فكرة وتوزيع زياد الأحمدية، تسجيل استوديو “ريد” تصوير سعد القادري، وحفظت حقوق الكورال جميعهم بذكر اسمائهم.
مهدي منصور شاعر من الجيل الجديد. في نصه روح زمنه. سبق وتسلم راية الشعر من قبل غسان مطر وسعيد عقل. يحمل دكتوراه في الفيزياء، ويؤمن بأن القصيدة هي كيمياء فيزيائية.
معه هذا الحوار:
*نعرف أنك وزياد الأحمدية تسببتما في ولادة نشيد الثورة. كيف زرعت النطفة الأولى؟
**ولد النشيد كما الثورة بعفوية. تواجدت منذ اليوم الأول للثورة في ساحة رياض الصلح إلى جانب مجموعة كبيرة من الفنانين، قد نلتقي أو لا، فالساحة لجميع الناس. كان النقاش بيننا بإيجاد كلمة شبيهة بالثورة وناسها. نعرف مطالب الناس وأهدافهم، ولم يكن مستحباً ترك الساحة لشعارات تميل إلى السوقية. بداية وجدنا أن لحناً بعظمة حركة الناس غير متاح في وقت قصير. فكان خيار السيمفونية التاسعة لبتهوفن. وبما أن الموسيقى تدعو للسلام علينا قول ما يناسبها. بالعودة إلى ولادة النشيد فقد تواصل معي زياد الأحمدية سائلاً عن مكاني واستعجلني، وكنت في الطريق إلى ساحة الشهداء. وصلت، وكان زياد برفقة أيلي حبيب وآخرين. طُرح الموضوع وقدم حبيب الأستوديو لمباشرة العمل. في الواقع كانت لدى الموجودين من الفنانين مجموعة أفكار رغبوا بالتعبير عنها. منها “هاي ثورتنا… وهاي وحدتنا” وغير ذلك. وكانت جلسة عمل سريعة في الأستوديو، سمعت اللحن تكراراً حتى بات ملازماً لإحساسي ومخيلتي. كنا نحتاج لأصوات محترفة للغناء إلى جانب الفنانين الآخرين من ممثلين وراقصين. ونحتاج لصوت يحدد الإيقاعات كأن يغني زياد الأحمدية، ويتبعه الكورال بإيقاع صحيح.
*وكيف توصلتم لبناء هيكل النشيد؟
**جميعنا يدرك وجع الناس، والسؤال كيف نعبّر عنه؟ ولد النشيد، وأنا سعيد لأنه وصف بأنه يمثل وجه لبنان الحقيقي. سألنا “مين نحنا؟ من كل بيوت المنسية… من هالعتمة جينا”. وهكذا كان المقطع الأول. فيما عبّر المقطع الثاني عن وجع الناس “الدمعة بتوقع ببلادي نهر بيوقع فيها”. وفي هذا المقطع تشخيص لأسباب الثورة. وشكر المقطع الثالث الزعماء لأنهم دفعوا الناس للوحدة. فرغم سوداوية الظلم بقي ثقب صغير دخل منه النور، وكانت الوحدة “كل الناس التعبانين…دمع الفقرا… وراق الشعرا… وبحة صوت المساكين”.
*تحتاج الكتابة للحظات صفاء هل كانت لك أم كتبت بضغط المجموعة المتأهبة للتنفيذ؟
**في ولادة النشيد سارت الأمور على ثلاثة خطوط متوازية. زياد الأحمدية بمساعدة أيلي حبيب أنجزا التوزيع الموسيقى. اتصالات مع مجموعة الفنانين لتحديد مواعيد تسجيل الأصوات. وكنت في ورشة الكتابة. في الواقع كان زياد يوزع الموسيقى لكلام لا يعرفه. والفنانون يضربون مواعيد تسجيل في الأستوديو لكلام لا يعرفونه. نعم كنا حيال هم الإنجاز بأسرع الممكن. اكتمل النشيد في السابع ولم يبلغ التاسع، ولم يحتج لحاضنة. بين الثامنة مساء والثانية من فجر اليوم التالي كانت أرضية النشيد قد أصبحت حاضرة. وبات بالإمكان تسجيل الصوت. وحينها داهمني التعب فرحت إلى النوم. وفي الثامنة صباحاً كان زياد الأحمدية في الأستوديو، وبدأ الفنانون يأتون تبعاً لمواعيد التسجيل. بعضهم لم يتمكن من الوصول فالطرقات مقطوعة كما هشام حداد ووسام حنا الذي غنى النشيد معنا على المسرح.
*كنتم حيال كومونة نشيد الثورة إن صحّ التعبير فبماذا تصفه؟
**نشيد ولد في لحظة عفوية وأخوية، ولم يدخله تعبير أنا أو أنت، الشخصانية لم تكن موجودة. ومن خلال “القدس العربي” أدعو لكتابة أناشيد أجمل وأغنيات أحلى وكلام أعمق عن الحرية، وسأكون أول من يغني وينشد ويتعاون.
*هل بثت الإذاعات اللبنانية النشيد؟
**سمعته على أكثر من إذاعة منها “صوت لبنان الحر”. والناس يطلبونه على الدوام. أنشد النشيد في باريس، وفي لندن، وأرسلت لنا البروفا التي اجريت قبل يوم من المظاهرة. وكذلك في ساحات نيويورك وواشنطن وغيرها في الولايات المتحدة، وارسلت لنا الفيديوهات.
*عندما يتاح للثورة تحقيق مطالبها هل سيكون للنشيد نصيب أكبر بالانتشار؟
**بكل صراحة أظنه من أحد الأعمال الفنية التي ولدت على أبواب الثورة وفي ساحاتها. لقد أطلقنا عليه تعريف “ريح الثورة” فيما رغب آخرون بتعبير “نشيد الفرح” كوننا لسنا حيال ثورة تكسير وتحطيم.
*وأيهما تفضل؟
**العناوين ليست مهمة طالما الكلام موجود ولم يبدل. ومن الكلمات التي تعنيني في هذا النشيد “وراق الشعرا”.
*لماذا؟
**شعرت في الأيام التي مرّت من عمر الثورة بأصوات المثقفين مختفية تماماً من الساحات ومن صفحات التواصل الإجتماعي.
*ربما يتريث المثقف كي لا يُخذل؟
**يكتب المثقف عن الثورة إلى أن تأتي. ومن ثم يتنبه لها من بعيد سائلاً كيف ستسير. منذ أسبوع كتبت “لا يقلقني ظلم الفقراء وقهر الفقراء وتعب الفقراء بقدر ما يقلقني صمت الشعراء”. هو مؤشر خطير يؤدي لإكتشاف أن الجماليات التي قدمها لنا الشعراء قبل لحظة الحقيقة ربما كانت مزيفة. عندها نشك بكل جمال، وهذا ينسحب على كافة القوالب التي آمنّا بها سابقاً. لنفترض شاعراً يكتب عن المقاومة والمقاومين وعندما تحين لحظة الحرية يستهاب الشمس. عندها سنخاف من كل ما صدقناه سابقاً ونعيد النظر فيه. وهذا مؤلم.
*هل تصوب على أسماء بعينها؟
**طبعاً. هي أسماء ومسميات. أنا من الذين دفعوا ثمن مواقفهم. كنت أشغل مواقع إدارية في مؤسسات وطلبت مني الإستقالة. وربما يكون السبب المباشر مواقفي. أتحدر من عائلة متدينة تقول “أحمل أخاك على 70 محملاً”. فقد يكون لديهم الحق في محمل واحد. موقفي واضح من المظاهرات، وهو حاد. قد أغفر للضحية حين ترأف بالجلاد. قد ارأف بأجمل الأصوات حين تتوقف عن الإنشاد. لكنني لا أستطيع الغفران لأولئك الذين يرون الحق ويقفون على الحياد.
*وهل انكفأ هؤلاء ربما لصلاتهم مع السلطة القائمة؟
** من دون شك. كذلك حال المؤسسات الثقافية التي روجت لنفسها بأنها ليست حزب السلطان، ولا شاعر البلاط، ولا كاتب الوالي، لكن صمتها مشبوه. ففي الأيام الأولى للحراك كتبت مواقف ثلاثة. قلت بأن: موقف الرفاق في الممانعة غريب. ومن ثمّ: موقف الرفاق في الممانعة مريب. ومؤخراً كتبت: موقف الرفاق في الممانعة عجيب. وهنا طبعاً لا أقصد الممانعة بالمطلق. لم أعد أفهم صمت رفيقي في النضال والذي ما إنفكّ منتقداً ناقل البندقية من كتف لآخر، وإذ به ينقل شارعاً بأمه وأبيه من ساحة لأخرى.
*لنعود إلى النشيد وزيارتكم للمناطق اللبنانية؟
**بدعم من حسابنا الخاص زرنا مناطق عدة في جنوب لبنان وغنينا النشيد وحفظه المتظاهرون معنا. بدأنا من صيدا وصورنا حضورنا مع الناس، ومن ثم إلى كفرمان. ووجدنا بين المعتصمين من صبابا وشباب أصواتاً جميلة، فأدوا معنا النشيد أوبرالياً. ومن هناك وصلنا إلى ساحة النبطية، ومن ظلام هذه البقعة من المدينة علمنا أن القرار لا يزال بابقائها في جاهلية الظلام، ليوحى بأن النور خارج مربعها. وفي صور وفي اللحظة الأولى التي بثّ فيها النشيد في ساحة الشهداء بات الجميع يردده.
*في رأيك هل لبت موسيقى بتهوفن متطلبات ساحات لبنان الحماسية؟
**اكتشفنا أن أكثر المنادين بالحرية يعتمدون السيمفونية التاسعة لبتهوفن في أناشيدهم. ومن خلال “القدس العربي” نوضح بأن كاتب هذه الموسيقى لم يسمعها فقد رحل قبل أن تُعزف. ولا شك بأن المئات إن لم يكن الآلاف لم يسمعوا تلك الموسيقى، ولن نلومهم. لكن للمنتقدين والمعلقين نسألهم منح النشيد فرصة اضافية.
*نلت الكثير من الجوائز والشهادات في منبر الشعر. فأين يقع شعر الأغنية في حياتك؟
**عبر التاريخ وفي لحظاته الأولى الشعر هو رديف الإنشاد. تستطيع القصيدة بموسيقاها الداخلية والخارجية أن تذهب بعيداً. سابقاً كان الشاعر ينشد ما يكتبه، ومع تنوع الفنون أخذ المسرح جزءاً، والكاميرا جزءاً آخر، وكذلك الفيلم والموسيقى، وبات الشعر وكأنه وحيداً. وكانت للشعر حاجة إلى رافعات أخرى تساعده في الذهاب أبعد للوصول إلى شريحة غير القراء والمثقفين. أكتب الشعر العمودي والمقفى بلغة عصرية، وما زلت مؤمناً بأن الإيقاعات ما زالت تختزل بداخلها كماً هائلاً من التأثير. ومع محبتي لكافة أنواع الشعر الأخرى التي تحررت من تلك الإيقاعات، لا ينفي أن تلك الإيقاعات تحمل امكانية الإبداع، أو ذلك ما أظن والله العالم. جميل أن يكون آداء وغناء لهذا النوع من الشعر، وهي خدمة للموسيقى والآداء ونوع الأغنية التي نسمعها اليوم.
*وهذه القناعة إلى أين حملتك على صعيد الأغنية؟
**تتواجد تجربتي في أماكن ثلاثة. في المجال الصوفي مع أحمد حويلي، رشا ناجح ومحمد الشيخ وآخرين. أرتبط بمجموعة من المؤثرين في المجال الصوفي الذين أدوا قصائد مهمة لم أكن أتخيل إمكانية أن تُغنى، ووجدت الترحيب والإنتشار. وفي جانب آخر أكتب قصيدة الفصحى السهلة والتي غنتها فايا يونان، وتجربتي معها كبيرة، عبر أغنيات تعالج قضايا. وهنا أهمية أن لا أغفل كتابة الأغنية. فمع فايا يونان وصل شعري وانتشر من تونس إلى الأردن. على سبيل المثال سجلت أغنية “أحب يديك” أكثر من 15 مليون مشاهدة على يوتيوب. نجحت لأنها تشبه أرضنا وناسنا. ومنها: أحب يديك وأكثر أحب بلادي… يداك تلوح للعائدين وتحمل خبزاً إلى الجائعين… أحب يديك وأكثر أحب بلادي… ستكون لي لو تعشق الأوطان مثلي… مِن مَن ستطلبني إذا ما عاد للأوطان أهلها… أنا أحبك كي ندوس على المدافع وتضيق بالأطفال ساحات الشوارع… ومتى يعود الصبح من بين الرماد سأموت فيك… وقد أخونك مع بلادي.
*هل يمكن أن تكتب شعراً للأصوات التي تغني النوع التجاري؟
**إن ألزمني بذلك تأمين العيش، وحتى اللحظة لم يحصل، لكنني قد أفعل لغاية في “جيب” يعقوب. افتخر بالأصوات التي أتعاون معها، وأحياناً بدون بدل.
*تحمل دكتوراه بالفيزياء كيف التقت قساوتها مع ليونة الشعر؟
**يقال عن الفيزياء بأنها يباس، فيما هي خضراء جداً من الداخل. الفيزياء هي الظواهر الطبيعية، هي الصوت والصورة. هي اللون والموجة والأثر، وإنكسار الضوء، واتساع الموجات. الفيزياء هي اللحظة الكهربائية وقوس القزح. الفيزياء هي لحظة “وجدتها وجدتها” أو “يوريكا يوريكا” باليونانية كما قال أرخميدس. وعن لحظة الشعر والقصيدة نقول “وجدتها وجدتها”. أستطيع الجزم بأن الشعر هو فيزياء ملونة، أما الفيزياء فهي قصائد غالباً غير مرئية. يقال إن الفيزياء هي ملاحظة الظواهر الطبيعية، ثم مرحلة تحليلها، وتالياً مرحلة قوننتها رياضياً. وأقول أيضاً أن الشعر ملاحظة للظواهر الطبيعية. فكيف يكتب شاعر لم ير جمالاً، أو طللاً أو صحراء، أو نهراً أو امرأة جميلة؟ إذاً هي ملاحظة للظواهر الطبيعية وبالتالي تحليل وانغماس في تلك الظواهر، وبدل القول قليل من القوننة نقول القوصدة، وبالتالي الإختلاف في التعبير لا يفسد للمضمون قضية. بذلت السنوات في دراسة الدكتوراه في الفيزياء، ولم تأت الفكرة من هاو، أو من شخص انحرف عن الفيزياء فيما بعد. بل ناضلت حتى اللحظات الأخيرة وما زلت في هذا المجال، واؤمن أن القصيدة هي كيمياء فيزيائية.
ريح الثورة…
فنّانون من الشعب
من هالعتمة جينا… من كلّ بيوت المنسيّة
صوب الحلم مشينا من صرخة بليل البريّة
ونطلع من ماضينا نضوّي بإيدينا الحريّة
تالمجد يلاقينا… لاقيني بقلبك يا خيّي
الحقّ الساكن فينا نحنا الأمل الجاي ونحن
والله رح يحمينا… ثورتنا صارت وحدتنا
***
نهر بيكبر فيها… كل دمعة بتوقع ببلادي
ومش رح فرّط فيها هيدي بلادي ملك ولادي
هالراية نعلّيها وطني باقي.. بإيد رفاقي
يرجع تـ يبنيها… والي تعذّب والي تغرّب
الحق الساكن فينا نحنا الأمل الجاي ونحن
والله رح يحمينا… ثورتنا صارت وحدتنا
***
كل الناس التعبانين… يا زعما شكراً وحّدتوا
وبحّة صوت المساكين دمع الفقرا، وراق الشُعرا
مين بدّو يرحمكن مين؟ سرقتوا حرقتوا كيف قدرتوا؟
من صرخات المحرومين ريح الثورة بتخلق فكرة
الحق الساكن فينا نحنا الأمل الجاي ونحن
والله رح يحمينا… ثورتنا صارت وحدتنا