إذا ما استخدمنا منظور رومان ياكوبسون بشأن نموذج الاتصال والتواصل، يمكننا النظر لمهرجان الشارقة للشعر العربي باعتباره «ظاهرةً ثقافية» من بين مهامها، تحقيقُ الاتصال والتواصل، بين جماهير الشعر العربي، ومبدعي الشعر، نحن هنا أمام حالة تواصل كبرى، مخططٍ لها، ومدروسة، يتم فيها توفير الإمكانيات كافة وتهيئتها لتوفير حالة خاصة من التواصل، وهذا هو المهم.
مهرجان الشارقة للشعر العربي ليس مجرد مهرجان يقوم على إتاحة الفرصة للمبدعين ليتواصلوا مع مجموعةٍ منتخبةٍ ومنتقاةٍ نوعياً من الجمهور، بل هو مهرجان يكاد يكون من أهم المهرجانات العربية، التي تُبقِي على تقاليدَ خاصةٍ من حيث الجودة والكفاءة والشاعرية الهادفة إلى استمرار حيوية الشعر العربي، ورفده بما هو قيم ومعاصرٌ من تطور فن العربية الأول.
وهذه الحالة الخاصة من حالات التواصل تدفعنا للنظر لهُ نظرةً أكبرَ في هدفه وغاياته التي يمكنُ اختصارُها بتحققِ عنصر «الشعرية» ذلك المصطلح الذي يلقى رواجاً كبيراً في الأوساط العالمية، مع تأكيد تزيفتان تودوروف على معاني الشعرية وإجراءاتها الوظيفية، والتراث العربي يزخر باهتمام خاص بالشعر والشعرية، أي من منظورٍ آخر، فكرة وجود أدوات لتحقيق الشعرية في الخطاب، ربما سبقت إليها الثقافة العربية النظريات الغربية الحديثة حول مفهوم التواصل والخطاب الشعري.
أقول إن مهرجان الشارقة للشعر العربي، هو مهرجان مهم يضرب في جذور الثقافة العربية، وكلما كان الحدث الذي يتم تنظيمه على درجة كبيرة من الأهمية، وله جذوره التراثية الأصيلة، كانت المهمة الملقاة على عاتق القائمين على تنظيمه كبيرة.
إن الفكرة التي قدمها الشيخ سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة، وعلى مدى ما يزيد على ربع قرن، تستحق منا أن نمعن النظر حول بعض الإجراءات التي أرى أن رفدها وصقلها بأفكارٍ داعمة قد يزيد من نجاح المهرجان، ومن ثم فالدافع الأساسي لكتابة هذه السطور هو الإيجابية لا الانتقاد، من أجل التقليل من شأن المنجز، واستشعار أهمية المهرجان من ناحية، وكونه يتسم بخصوصيته وتفرده في زمن قل فيه الاهتمام بفن الشعر، وإيماني بضرورة أن يكون المثقف فاعلاً وعضوياً -بتعبير غرامشي- في مجتمعه، فإن ملاحظات أولية على مهرجان الشارقة للشعر العربي طرحت نفسها عليّ، وأجدني راغباً في عرض هذه الملاحظات.
التجارب الشعرية
أتصور أن آلية مشاركة الشعراء في المهرجان بحاجة إلى إعادة نظر، حتى تصبح أكثر رحابةً لتمثيل التجارب الشعرية الصادقة والمُجيدَة، فلا أعتقد أن مهرجاناً بهذا الحجم، يكون سبيل المشاركة الوحيد فيه، عن طريق مجلة «القوافي» التي يصدرها بيت الشعر في الشارقة، بأن تدعو الشعراء الذين ينشرون فيها حسب، أو بدعوة الشعراء المشاركين في مسابقة «أمير الشعراء» فقط! أو الشعراء «الذين يحضرون» أمسيات بيت الشعر في الشارقة، فـ»الحضور» ليس عنصراً منهجياً وفنياً من عناصر «الشعرية» وتحققها، أو فعل ذا معنى في مفهوم الإبداع! فبهذه الكيفية يفقد المهرجان كثيراً من الفرص التي يمكن أن توسع من رحابة واتساع إمكانيات المشاركة، وبديهي أنه لا يمكن لمجلة واحدة مهما بلغ جهد القائمين فيها، أن تتسع لتجارب الشعراء العرب (شعراء الأقاليم، والشعراء الأكثر موهبةً من كثير من شعراء ذائعين، لكنهم لا يعرفون سبيل المشاركة والتواصل مع القائمين على المهرجان، وشعراء لهم منجز وتحقق وحضور بالفعل لكنهم لم ينشروا من قبل في مجلة «القوافي» ولم يشاركوا في مسابقة أمير الشعراء!) ولا يمكن لمسابقة واحدة أن تفعل ذلك، فكلمة «مهرجان» تعني الاحتفال الواسع والكبير، الذي يكون عادة في الشهر الأول، ولا يعقل أن يكون الاحتفال الواسع والكبير بالشعر والشعرية العربية، وفي إمارة ثقافية بحجم الشارقة، رافديه الوحيدين مقتصرين على مصدرين قد يضيقان بتجارب الإبداع والشعرية، رغم وفرة المنابع العربية وثراء مصادرها.
نعلم الارتباط الوثيق بين جائزة الشارقة لنقد الشعر العربي، والمهرجان، الذي تعلن فيه جائزة البحث النقدي، وكانت هذا العام حول «تحولات القصيدة العربية المعاصرة في ميزان النقد» ونقرأ كل عام أسماء الأعمال الفائزة، دون أن يتاح للجمهور والمتخصصين الاطلاع على تقرير واحد من تقارير اللجنة المحكّمة عن الأبحاث الفائزة في المسابقة.
بينما أشير إلى هذين الرافدين الأساسيين اللذين يعتبرهما المهرجان ركيزةً لاستقطاب مشاركيه، أود توضيح نقطة بالغة الأهمية: أنني لا أعني أن الشعراء المشاركين ضعفاء من الناحية الإبداعية، أو غير جديرين بالمشاركة، لا يختلف أحد على شاعرية علاء جانب وأحمد عنتر مصطفى وطلال الجنيبي ومحمد عريج، وهم شعراء مُجيدون وحقيقيون، ككثير من الشعراء المشاركين، وإنما أتساءل إن كانوا – مع الشعراء المدعوين للمهرجان – يمثلون كل أطياف الشعر العربي ومشهده المعاصر من خلال آلية الاختيار التي أشرت إليها؟
الأمر الثاني الملاحظ في المهرجان أن نسبةً كبيرةً من المشاركين فيه، من يمكن أن نطلق عليهم، «شعراء المؤسسة الرسميين» الذين عادة يعملون في المؤسسات الثقافية الرسمية في الدول العربية، أو في وزارات الثقافة في بلدان عربية مختلفة، أو حتى، يديرون بيوت الشعر العربية في انتشارها الواسع، (بكفاءةٍ واقتدارٍ مشهودٍ لهم بهما) لكن السؤال هو السؤال: هل كان من الأفضل لهؤلاء «الشعراء» أن يشاركوا في المهرجان بتجاربهم الشعرية؟ أم أن يكونوا مشاركين كمنظمين، وداعمين لعملية الاكتشاف الواسعة للشعر والشعراء في العالم العربي؟ فهم بحكم مواقعهم الرسمية ذاتها، أتيح لتجربتهم بالفعل الانتشار والذيوع، أما الهدف الأكثر أولويةً والمفترض أن يسعوا إليه فيجدر أن يكون البحث عن عمق الشعرية العربية، والشعرية بطبيعتها تأبى «القولبة» وتبحث عن التجديد، واستمرارية الشعر في تجديده، وهو رهين هذا التجديد، وهذا ما أعتقد أن المهرجان يبحث عنه في الأساس، التجديد الرصين، واستمرار طرح التجارب ذاتها، وتكرارها، هو نوع من أنواع إقصاء الشعرية، ولا أتصور أنه يخدم أهداف المهرجان.
الأمر الثالث، نعلم الارتباط الوثيق بين جائزة الشارقة لنقد الشعر العربي، والمهرجان، الذي تعلن فيه جائزة البحث النقدي، وكانت هذا العام حول «تحولات القصيدة العربية المعاصرة في ميزان النقد» ونقرأ كل عام أسماء الأعمال الفائزة، دون أن يتاح للجمهور والمتخصصين الاطلاع على تقرير واحد من تقارير اللجنة المحكّمة عن الأبحاث الفائزة في المسابقة، حتى لو من باب التعريف بتفرد هذه الأعمال التي تستحق الفوز بجائزة بقيمة جائزة الشارقة لنقد الشعر العربي، والتعلم منها، والوقوف على مواضع تفردها النقدي، فنحن لا نطالع إلا عنوان البحث الفائز فقط، ولا نعرف شيئاً عن مضمونه، ما قيمته إذن للشعر العربي، ما الذي قدّمه؟ ما لم يكن هناك تعريف بهذا البحث، وبالفعل هذا التعريف، وذاك الحكم قد تم وأودعَ في تقرير لجنة التحكيم، (التي لا نشكك في نزاهتها) فلماذا إذن لا تخصص فقرة واحدة من فقرات مهرجان الشارقة، لقراءة هذه التقارير، والتعريف بالأبحاث الفائزة، التي لا شك ستضيف الكثير للثقافة العربية، وللشعرية العربية، متى خرج التحكيم عنها إلى دائرة الضوء؟
كما أن خروج هذه التقارير للجان التحكيم سيضفي مزيداً من الثقة في المسابقة التي تنحو إلى أن تكون مسابقةً دوليةً، ويجدر أن يكون لها دورٌ كبيرٌ في تطوير ودعم آليات نقد الشعر العربي، ومن ثم آليات تذوق الشعر العربي، وإعلان مثل هذه التقارير عن الأعمال التي تم الاعتراف لها بالفوز، ونالت تكريماً كبيراً لها ولأصحابها، سيمثل خطوةً كبيرة في مجال تحقيق تواصل وتنمية الذائقة الجمالية لدى جمهور الشعر العربي.
تكرار الأسماء
الأسماء التي تدعى إلى المهرجان تكررت في مواسم كثيرة، دون أن ينتبه القائمون على تنظيم المهرجان إلى أن ذلك التكرار يؤدي إلى تكريس فكرة واحدة، وقالب واحد، ونموذج شعري واحد، وإذا كان الغرض هو الاستماع لنوعية واحدة من الشعر، وقالب شعري موحد، هنا يتحول هذا التجمع الإبداعي من «مهرجان» إلى «بيان» أو «ملتقى» وفق التصنيف النوعي الموضوعي المرتكز على أسس فعاليات النشاط، فلا احتفال هنا، أو تجمع أو جمعية لنشر فكرة ما، وهو ما شاهدناه في تاريخ التراث العربي أو تاريخ الشعرية القريب، فعندما ترغب جماعة ما في أن تكرس لفكرة ما، كجماعة «الديوان» أو «أبوللو» أو مجلة «شعر» فإنهم يؤسسون لنفسهم ملتقى، يكون لسان حالهم وتعبيراً عن رؤيتهم.
لكن ما أفهمه، وما يقدم مهرجان الشارقة للشعر العربي نفسه للمتلقي العربي، أنه مهرجان للشعرية العربية بأكملها، ومهرجان لكل المتلقين العرب، وهو يهدف إلى تقديم رصانة الشعرية العربية واستعراض أطيافها المختلفة، وليس للتكريس لمجموعة بعينها من الشعراء دون غيرهم، وإلا فإن الأمر يتحول لحالة من التكرار، ولحالة من الحضور السنوي للأسماء والرؤى ذاتها، وهي التي كنا قد قرأنا قصائدها في مجلة «القوافي» أو استمعنا لمشاركاتهم في مسابقة «أمير الشعراء». فعندما يكون المهرجان تكراراً لأسماء بعينها، ربما يدفع ذلك بعض الشعراء الشباب -المُجيدين وعميقي الموهبة- إلى النفور من الشعرية، ويظلم التجارب المغايرة، ويسقط احتمالية التعرف على الجاد من المواهب، فالموهبة متى وجدت البيئة المناسبة وما يدعمها ترعرعت ونمت، فجادت بالعطاء، أما إذا ما شاهدت من الأمور ما يحبطها، ويكبتها، فإنها تنزوي، ونأمل في مهرجان الشارقة للشعر العربي، أن يكون واحةً موضوعيةً للعطاء الإبداعي، ولتبني المواهب والتجارب الصادقة الحقيقية واكتشافها لتقديمها إلى المشهد العربي المتفاعل.
ترى؛ هل جانبت الصواب عندما فكرت من الأساس أو حاولت تحليل الظاهرة؟ فبينما أكتب هذا المقال أفكر في نهايته: كم شاعراً سيتحفز للهجوم عليه والرد الحاد مشخصناً المقال بأكمله ومتخذاً منه ذريعةً للعداء، دون أن يفكر: ما الفارق بين الظاهرة المتناولة والكاتب الذي يحللها؟ وما الفارق بين الإبستمولوجي والسوسيولوجي في تناول القصيدة وتناول المهرجان؟ وهل كل نقدٍ يُكتب لظاهرةٍ ثقافيةٍ يحمل سوء النية في تحليل عناصرها؟ أم أنه يكتب بدافع الإيجابية بغرض تحسينها وتطويرها والوقوف على نقاط ضعفها لتلافيها؟
أتساءل أيضاً: هل هناك جدوى من التفكير؟ هل هناك جدوى من شيء أساساً؟
شاعر وناقد مصري