تهاطلت تقارير إعلامية، في الأيام الأخيرة، تفيد بأن عشرات من القوارب وصلت السواحل الإسبانية، مقبلة إليها من الجزائر، محملة بجزائريين، فروا من بلدهم صوب الشمال، طلباً لعيش أفضل أو انحيازاً إلى حلم سمعوا عنه بأن الجنة لا توجد سوى في الشمال.
مئات من الشباب يدفعون ما يكفي لإطعام عائلات بأكملها إلى تجار الهجرة غير الشرعية، يركبون قوارب ـ تتحمل أكثر من طاقتها ـ وهم يعلمون سلفاً أن احتمالات الوصول إلى أوروبا تساوي احتمالات الغرق في الطريق، مع ذلك يبتغون المغامرة ويبتذلون الموت، من بينهم أطفال وكهول ونساء، غالبيتهم يحركهم حافز مشترك: أنهم شاهدوا بعضاً من المقربين منهم أو أصدقاء لهم قد وصلوا ونجوا، وفي حال بلغت رحلة هؤلاء المهاجرين السريين وجهتها، فإن حياة بعضهم ستنطلق، ليس من السعي إلى الحصول على وثيقة إقامة، أو عمل، أو سكن، بل إن أول شيء بات يصر عليه المهاجر غير الشرعي هو توثيق الرحلة، هو التصوير، هو الفيديو، هو الفيلم، هكذا ظهرت في السنتين الأخيرتين أعداد لا تحصى من أعمال مصورة، بادر إليها هؤلاء الراغبون في «الفردوس» بل إن بعضاً منهم باتوا من المؤثرين في وسائط التواصل الاجتماعي، لا يكتفون ببث مباشر أو فيديو قصير، بل يصنعون أفلاماً، تصور وتخضع إلى مونتاج، ونكاد نجد أنفسنا اليوم إزاء سينما عفوية، أو سينما ساذجة، إن صح التعبير، المخرجون فيها والممثلون والكومبارس كلهم من فئة واحدة، كلهم مهاجرون غير شرعيين.
مهرجان وأنصاف أبطال
يكفي تصفح اليوتيوب، كي نعثر على هذه الغابة الجديدة، التي نبتت بشكل عشوائي، التي يشرف عليها ويسقيها مهاجرون غير شرعيين، من مدن الجزائر كلها، يعرضون مهرجاناً من الأفلام المتفاوت في ما بينها في الحجم وفي الموضوعات، لا بد أن لا أحد منهم كان يعرف الآخر قبل سفرهم، بل كانوا أشخاصاً مجهولين، أسماء وأرقاماً في سجلات الحالة المدنية، فالمهاجر غير الشرعي لا صفة له، إلى أن يقطع البحر، لكنهم سوف يعرفون بعضهم بعضاً بعد سفرهم، وقد صار الناس في الداخل يعرفونهم أيضاً، والمثير أن عدد متابعيهم من شباب الداخل في تزايد، وتعليقاتهم تشي بدعم لهم، بل صاروا أنصاف أبطال في أذهانهم، وتتملكهم رغبة في تقفي أثرهم.
لا يحمل هؤلاء المهاجرون من المتاع سوى قليله، فقوارب العبور لا تحتمل الوزن الثقيل، يكفيهم من الزاد بعض الأكل، لكنهم مجهزون بأحدث الموبايلات، التصوير والتركيب والتحميل على النت لا يتم سوى بالموبايلات، الموبايل وسيطهم مع العالم الذي خلّفوه والعالم الجديد الذي سوف يدخلونه، بمجرد وصولهم إلى أول ضفة شمالية، يشرعون في الرحلة الثانية، الرحلة الأطول والأقل خطراً، يزورون مدناً ويصورنها ويعرضونها على جمهورهم في الداخل، نشعر كما لو أنهم نووا على الهجرة، مدركين ما سوف يفعلونه بعدها، كما لو أنهم درسوا خرائط أوروبا، يتحدثون عن المدن ومواقعها وما يُجاورها، كما لو أنهم يقيمون فيها من زمن، وكأنهم يعرفون أهلها، مع أن غالبيتهم لا يُتقنون لغات أجنبية، يتعكزون على ما تيسر لهم من فرنسية، والجزء الأعظم من أفلامهم يدور بعامية جزائرية تفضح كل مرة الجهة التي جاؤوا منها، لا تهمهم اللغة أكثر مما تهمهم الصورة، يصورون حياتهم اليومية، لقاءاتهم مع بعض، يقومون باستطلاعات تحسدهم عليهم القنوات التلفزيونية، يتسللون إلى أمكنة لم نكن نعرفها، يتلبسون ثوب البطولة، يستوقفون أوروبيين في حوارات، يقارنون بين بلدهم وأوروبا، لا يتوانون عن البوح بحنين إلى بلد فعلوا كل شيء قصد هجره، يسردون حكايات من ماتوا في الطريق، أو من رحلتهم الشرطة، يحكون مرات عن أيام قضوها في ملجأ أو في السجن، عن مهاجرين من دول أخرى، عما تعلموه من محنتهم، يصنعون سينما توثيقية جديدة عن غير قصد منهم.
المهاجر غير الشرعي يحبذ السيناريوهات الدرامية في أفلامه، لا يُفارقه شعور بأنه شخص غير مرغوب فيه، يشعر بأن سبب هجرته ينبع من كونه لم يجد مكانا له في بلده الأصلي، ويحس حال وصوله إلى الشمال، أن الأوروبي لا يستلطفه، يأتي محملاً بحقيبة من الأفكار المسبقة، ويحرص على تطبيقها في الواقع، لذلك نشاهد أفلاماً تشترك كلها في ثيمة واحدة: العنصرية.
الهوية والدين
المهاجر غير الشرعي يحبذ السيناريوهات الدرامية في أفلامه، لا يُفارقه شعور بأنه شخص غير مرغوب فيه، يشعر بأن سبب هجرته ينبع من كونه لم يجد مكانا له في بلده الأصلي، ويحس حال وصوله إلى الشمال، أن الأوروبي لا يستلطفه، يأتي محملاً بحقيبة من الأفكار المسبقة، ويحرص على تطبيقها في الواقع، لذلك نشاهد أفلاماً تشترك كلها في ثيمة واحدة: العنصرية. يعتقد أن الرجل الأبيض يكرهه لمجرد كونه عربيا، وأنه غير متحمس أن يراه إلى جانبه، يصر المهاجر وهو يطوف بكاميرته، بين الشوارع أو في الطرقات، على لعب دور الضحية، يحكي قصصاً يختلط فيها الواقع بالمتخيل عن مطاردات الشرطة له، عن عجزه عن الحصول على عمل ليس لسبب سوى أنه أجنبي، هذا المهاجر الذي خرج من مدرسة جزائرية تشجع على الانغلاق لا الانفتاح، مدرسة مفعمة بنصوص في تضخيم الذات والتنكر للآخر، تجعل من الجزائري ينظر إلى نفسه ـ بالخطأ ـ على أنه أنقى مخلوق، وأن الشر إنما يتأتى من الآخرين لا منه. وما إن يثبت قدميه في أرض المهجر حتى تنتقل ثيمات أفلامه إلى شيء آخر، يكفي أن يقضي بضعة أشهر كي يصير واعظاً وناصحاً يسدي في أفلامه نصائح للعازمين على الهجرة مثله، يسرد عليهم كيف يتحضرون وكيف يجهزون وثائقهم، يقترح عليهم طرقاً في الحصول على التأشيرة التي عجز هو نفسه عن الحصول عليها، يرشدهم إلى الطريق الذي يجب عليهم سلكه، وكيف يتفادون الشرطة أو نقاط المراقبة.
يتحول إلى مرشد، ويمنح نفسه صفة المُعلم للمقبلين على المغامرة كما فعل، والثابت في كل حيوات المهاجرين غير الشرعيين وأفلامهم، هو علاقتهم بالدين، يصرون في كل مرة على التأكيد على أنهم لم يتخلوا عن دينهم، لم يتنازلوا عما ورثوه عن آبائهم، لا يرى الجزائري في تغيير جنسيته عيباً، بل قد يُجاهر بذلك، لكنه يستشعر عاراً أن يدير ظهره إلى دين أجداده، لذلك نشاهد في بعض الفيديوهات قصصاً تدور حول الحلال والحرام في أوروبا، عما يجب أكله وعما يجب هجره، عما يجب قبوله من وظائف، وعما وجب رفضه، هكذا يقضي المهاجر غير الشرعي وقته في إنتاج وبث أفلامه وعرضها، يحكي عن المهجر وعن نفسه، وعلى الرغم من كل التناقضات التي نلمحها بين فيلم وآخر، فبإمكاننا القول، إن سينما جديدة قد خرجت أخيراً للنور، سينما المهاجرين غير الشرعيين، الذين باتوا يتيحون لنا مادة مصورة تغنينا عن مئات من الروايات الشفوية أو المكتوبة.
روائي جزائري