يصلني من الخلف صوت نسائي ينادي باسمي فلا ألتفت إليه.. من يعرفني في هذا الشارع الطويل حتى يناديني؟ أسير في المدينة سعيدا بعدم معرفة الناس لي.. أن تمرّ كأنّك لا تُرى في الحياة شيء جميل.
أعاد الصوت النداء وشعرت بأنّه اقترب أكثر، فلم ألتفت، ولكنني شعرت بأنّ ساقيّ باتتا تهرولان.. اسمي الذي ينادى به الساعة قد يكون اسما لشخص آخر يمشي إلى جواري.. ترى من هذا الذي ما يزال يحمل اسما كاسمي؟ من المؤكّد أن يكون شخصا في سنّي، ومن المؤكّد أنّه ذكر مثلي لأنّ اسمي صار له زمن طويل وهو لا يسند إلا إلى الرجال.. كان يسند إلى النساء.. ولا مانع يمنع من ذلك، لكنّه عدول ثقافي لا غير.. لم أسمع بشاب يحمل اسمي ولا بطفل.. قريبا سيموت هذا الاسم الذي أحمل بموتي مثلما ماتت أسماء كثيرة بموت أصحابها.
اقترب الصوت واقترب النداء، وبدون أن ألتفت سمعت من قريب سلاما ولوما تقول له: كنت أناديك فلمَ لم تسمع؟ أجاب بصوت ليس كصوتي ولكن في سنّه: آسف ما كنت أعتقد أنّ صوتا جميلا مثل صوتك يناديني! يا للعجب: كنت سأجيب بالشيء نفسه.. ظلّ الصوتان قريبين يؤنساني، وسرت معهما بأذني، أمشي وأتحسّس الصوت يأتي من الخلف.. توقفت لحظة وتظاهرت بأنني أعالج خيوط حذائي حتى تجاوزني سميّي ومن كان يناديه.. لاحقتهما واقتربت في الزحام منهما لأسمع وأرى.
في بعض البلاد العربيّة وحين يسألك أحد عن اسمك أو اسم ولدك وتخبره به سيقول لك: عاشت الأسامي. يفهم من هذا الدعاء أنّ المقصود ليست الأسماء في ذاتها، بل من تسمّوا بها.. هو إذن مجاز مرسل علاقته المجاورة ولنقل الملابسة على طريقة القدامى. هناك تجاور أو ملابسة بين الأسماء وحامليها من البشر. وإذا رأينا في الأسماء دوالّ مدلولاتها الأشخاص، إذ هي كالعلامات التي تقع على غيرها، فإنّ العلاقة في هذا المجاز المرسل هي علاقة دالّيّة. وسواء أكانت العلاقة دالّيّة أم كانت العلاقة مجاوَرة أو ملابسة، فإنّ الوقوف عند هذا التوصيف لا يفيد العلم في شيء. ما يفيده هو لماذا يطلب الناس أن تعيش الأسماء، حتى إن كانوا يعنون أصحابها؟ هل تعيش الأسماء بأن يعيش أصحابها؟
أمشي معهما وعيناي مشتتان بين الرجل سميّي ومن تحاوره.. كانت مبعثرة الشعر تلبس حذاء ذا كعب، وتتحدث بصوت مسموع، كان يناديها باسم قديم ويتذكّران حكايات قديمة.. دخلا المقهى فدخلت، جلسا في ركن فجلست قريبا منهما، طلبا شراب فطلبت وجلست أفكر وأتسمّع ما يقولان.. كان الرجل في سنّي يضحك مثلي، ولا يطيل النظر في وجهها.. كان يرتدي بدلة ولا يلبس رباط عنق، يجلس مثلي تماما واضعا الساق على الساق، يسمع أكثر ممّا يتكلّم.. شعره زرعت فيه شرارة الشيب لكنّها لم تشتعل بعد، إن مات سيعيش اسمه قليلا ثمّ يموت.. سيقال لأسماء أخرى: عاشت الأسامي.. ربّما كان يقال لأسماء من نوع «حنش» و»طلحة» وحتى «زبيبة» عاشت الأسماء قبل أن تموت بما هي أعلام.. هي تموت باعتبارها أسماء أعلام، لكنّها تظلّ في محالّها من أسماء الأجناس، قد تبعث من جديد وليس من الضروريّ أن يسمّى بها البشر، قد تسمّى بها العلامات التجاريّة مثلا..
أنا رحلت من زمان بعيد فكيف أرجعني اسمي من الغياب؟ نسيت أن أقول لكم اسمي.. لنترك الاسم إلى الصفة أليست الصفة عند المناطقة توسعة للاسم؟ صفتي أنني روح تعشق الحضور ساعة الغياب، صفتي السابقة كنت حضورا يعشق الغياب.. فوأدت اسمي.
نختار أغلب أسمائنا من أسماء الأجناس، ولكن حين يصبح اسم الجنس اسما علما يفقد معناه، أو لنقل إنّه وهو يوضع اسما لشخص أو لمكان أو لعلامة تجاريّة، يصبح واسما لا دالاّ على معناه كما كان.
اسم الجنس يتضمّن معنى فله دلالة، لكنّ الاسم العلم لا يتضمّن معنى، هو يعيّن لا غير فكلمة حنش أو طلحة تعني، وهي جنس معانيها المعروفة، ولكنّها حين تقع على الأشخاص لا تعني، بل تعيّن أي أنّها تفرغ من معناها الذي كان لها في المعجم، لذلك يقول النّحاة العرب إنّ فيها استئنافا في الوضع: لكأنّك أعدت التواضع عليها من جديد، لكن بدلا أن تواضع غيرك على أنّها تعني دلالة ما تواضعه على أنّها تسم شخصا ما. حين تموت تلك الأسماء تموت قدرتها على الوسم، ولا تموت قدرتها على الدلالة، إلاّ إذا اندثرت من خانة الاسم الجنس. أسماء الأجناس تعمّر أكثر من الأسماء الأعلام، فهذه يمكن أن تموت بموت الذوات، وبالشعور بعدم الحاجة الثقافية إلى استخدامها، لكنّ الأعلام مرتبطة بالأفراد التي تسمّي الحقائق العامّة: حنش يسمّي فردا من حقيقة عامة تطلق هي ضرب من الزواحف يطلق على الحنش وغيره.
الأسماء الأعلام قد تعود منتصرة إلى خانة اسم الجنس حين تعود وقد صارت دالة على حقيقة عامة وذوات كثيرة: بعض من الماركات التجارية تسمّي كامل المنتج فهي تسم وفي الوقت نفسه تدلّ.. قال الكاتب الفرنسي فريديريك بيغبيدار: «كيف نعرف شخصيّة ناجحة؟ حين يصبح اسمها العلم اسم جنس».
لا يمكن أن تطلب من ثقافة أن تبقي على اسم، أو أن تطلب منها شطبه، الأسماء تعيش وتموت لأسباب ثقافية كثيرة مثل الأسباب العقديّة فاسم محمّد وعيسى وموسى أسماء استوعبتها الثقافة العربية الإسلامية، ودلّت على أنّها ثقافة تقبل المخالف الدّيني، لكنّ هذه الثقافة نفسها ربّما انغلقت ولأسباب مذهبية على أسماء أخرى يحسبها هذا المذهب على ذاك. يمكن أن نجد تأويلا لاسم ديني يتماشى ويسر نطق حروفه الأصول، وهذا التأويل يجعلنا نبحث عن تبيئة الاسم الأصلي فاسم عيسى هو في الأصل تبيئة اسلامية لاسم اليسوع، الذي يتسمّى في ثقافات مختلفة بأسماء تراعي النطق، ولكن أيضا العادة كان من الممكن أن يسمّى عيسى بتسميات أخرى، لكنّ طبع الاسم صوتيّا وبنيويّا بخصائص اللغة العربية، لم يكن إلا اختيارا جملة اختيارات..
أشرب من كأس القهوة رشفات وأشعر بيد تمسك بيدي وتقول لي كبرت يا فتى.. ثمّ تناديني باسمي.. أرفع رأسي لأرى فأفاجأ إنّها هي التي كانت تمشي مع سميّي منذ حين لكن أين رحل هو وكيف انتقلت من ذاك الكرسي إلى هنا؟ قالت لي: مالك؟ هل نسيت شيئا؟ قلت: ولكنّ الرجل الذي كان هنا أين هو؟ ابتسمت وربّتت على يدي وقالت: لم تتغيّر أما زلت تمزح كثيرا يا رفيقي؟ ثمّ أضافت: مضت ساعة ونحن نجلس ههنا ولم تنطق باسمي: أتراك نسيته؟ قلت لها أحضر السكر ثمّ أعود.. عدت خفيفا في الأعلى أراقب المرأة الجالسة كانت تجلس وحيدة ولا أحد يجلس معها.. لا أنا ولا سميّي.. ما كنّا اثنين وإنّما كنا واحدا.. أنا هنا خفيف في العالم المفارق.. رجعت أتفقد ظلها وظلي معها..
أنا رحلت من زمان بعيد فكيف أرجعني اسمي من الغياب؟ نسيت أن أقول لكم اسمي.. لنترك الاسم إلى الصفة أليست الصفة عند المناطقة توسعة للاسم؟ صفتي أنني روح تعشق الحضور ساعة الغياب، صفتي السابقة كنت حضورا يعشق الغياب.. فوأدت اسمي.
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
هذه، حقيقةً، من المشكلات المعرفية الخطيرة التي تقرن بـ«المثقف» العربي المتخصِّص، وعلى الأخص المتخصِّص في علمٍ إنسانيٍّ يتوخَّى الدقَّةَ المتناهيةَ في التعبيرِ المنطقيِّ كاللسانيات:
يقول أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية دون أن يأبهَ باحتقارهِ السافر لذكاءِ القارئ العادي حتى: «أسماء الأجناس تعمّر أكثر من الأسماء الأعلام، فهذه يمكن أن تموت بموت الذوات»، وهو قول عارٍ عن الصحة بأي وجه من وجوهه، لو كان يعلم.
فليته يفكر مليًّا بتلك المئات وتلك الآلاف وحتى أكثر منها من أسماء الأجناس في اللغة العربية التي انقرضت على مرِّ الزمان، من جهة، وليته يفكر مليًّا كذلك بالاسم العلم «آدم» الذي عيَّن أوَّلَ إنسانٍ على وجهِ الأرض (على الأقلِّ من منظور الكتب القديمة المعنية)، والذي ما زالَ حيًّا «يُرزقُ» حتى هذه اللحظة، من جهة أخرى!
الاستاذ حي يقودان ادم موجود لانه رمز والرموز أكثرها يعرف بالصورة.مثل غيفارا صورته هي أيقونة و رمز و أيضا اسم غيفارا موجود و معروف.واذا كنا نؤمن و نصدق العلم كما أثبتت الدراسات و الأبحاث في نظرية التطور ادم و حوا لا وجود لهم.
المعلق أحمد… جميل من المعلق أن يشارك في هذا الحوار الثقافي المعمق… ولكن أجمل بكثير منه أن يفهم جيدا ما يقرأ قبل أن يجازف بتعليقه كيفما اتفق وأن يكشف عن خلل معرفي ملحوظ فيما يقول… !!!
هل هو زمن موت المعاني المقولبة، أم هو زمن عنوان (موت الأسماء)، تعليقاً على ما نشره التونسي د توفيق قريرة، في جريدة القدس العربي، في توقيت وسياق الانتخابات الرئيسية التونسية عام 2019،
والأهم ما الفرق بين الموتين، في عصر الجيل الرابع، للثورة الصناعية للآلات، التي أصبحت تحاكي عقل الإنسان، بالإضافة إلى محاكات عضلاته، في دولة الحداثة،
فأصبحت الآلة تنافس الإنسان على وظيفة الإدارة والحوكمة في الحكومة الإليكترونية؟!
لأن على أرض الواقع، علم اللسانيات شيء، وعلم الكلام شيء آخر، وعلم التدوين اللغوي شيء ثالث،
خصوصاً في مفهوم التوطين/التعريب مختلف تماماً،
عدم التمييز، يؤدي إلى الضبابية اللغوية، وليس موت أي اسم أو معنى المعاني الموجود في قواميس أي لغة من اللغات الإنسانية،
على الأقل هذا ما تعلمته وفهمته من مهنة برمجة لغة الآلة.??
??????
المعلق الحداثي العربي SSAbdullah… يبدو أنك مطلع بشكل واسع على علم اللسانيات وعلم الكلام… !!!
نتمنى منك، في هذا المنبر، أن تفيد القراء وتنور عقول الأجيال الناشئة وأن تبين لهم الفرق بينما، كما تقول… !!!
شكرا للأستاذ ثائر المقدسي على ملاحظتك و نصيحتك لي و سأعمل بها و إلى اللقاء في يوم الثلاثاء المقبل