موروثات وطنية وإنسانية نادرة: قصبة نابلس منارة فلسطينية عراقتها بطعم زيت الزيتون

وديع عواودة
حجم الخط
0

نابلس-“القدس العربي”: حينما يتلمس الزائر لمدينة نابلس ما يميزها عن بقية شقيقاتها الفلسطينيات يجد مزايا كثيرة، أبرزها العراقة المتجلية في كل ناحية وزقاق وسوق داخل بلدتها القديمة الأشبه بمتحف تراثي كبير. في قلب المدينة المعروفة بقصبة نابلس تمتد شبكات متصلة من القناطر والمباني المبنية بطريقة العمارة الفلسطينية التراثية المعروفة بـ “العقد” و “الأنبوب” وهي مبان حجرية ضخمة الجدران مقوسة الشكل تشمل مئات المحال التجارية الصغيرة. البلدة النابلسية القديمة تبدو كمحمية طبيعية بحد ذاتها، وهي موروث حضاري وطني وإنساني متعدد الحضارات يحفظ العمارة الفلسطينية العتيقة مقابل اتساع العمارة الحديثة والمكعبات الإسمنتية الصماء في بقية أنحاء المدينة كما هو الحال في أرجاء البلاد والعالم. علاوة على دماثة وتاريخ نضال أهالي “جبل النار” تمتاز المدينة بتاريخها وعمارتها الموغلة في القدم وفي هذا التقرير نتوقف عند بلدتها القديمة المعروفة بـ “القصبة”.

يوضح زير الدبعي من نابلس أن البلدة القديمة قائمة قريبا من بلدة “شكيم” العربية التي تعني الموقع المرتفع أو المنكب، المبنية في القرن الميلادي الأول حتى هدمها الرومان وبنوا مدينة جديدة من حجارتها، غربها تعرف بنيوبوليس (المدينة الجديدة، كما هو الحال مع نابولي الإيطالية) وهي اليوم البلدة القديمة التي بنيت فيها طبقات عمارة وحارات في فترات تاريخية متعددة منها العثمانية. لافتا لكثرة البناء بسبب توالي الزلازل التي هدمت أجزاء من بلدة نابلس القديمة آخرها زلزال 1927 وبعد كل هدم تمت عملية بناء داخل القصبة وهي ثمرة مجهود أجيال متعاقبة وفيها أنماط معمارية متنوعة.

مطعم – متحف

يقول المثل الشعبي “بيت الضيق بوسع 100 صديق” وهذا ما يستشعره من يزور مطعم أحمد العكر، المكوّن من غرفة واحدة يتقاسمها الطباخ والزبائن. هناك كانت محطتنا الأولى في زيارة البلدة القديمة في نابلس وفيه تتاح الفرصة لتذوق طعم العراقة النابلسية. تخال عند زيارتك المطعم لتناول فطورك وكأنك في بيتك بفضل حميمية الاستقبال والأطعمة الطبيعية المقدمة خاصة العجة الخفيفة التي يكسوها أخضر النعناع إلى جانب الحمص والفول والخبز البلدي المصنوع من دقيق القمح الصافي. في فلسطين ومع ارتفاع درجة الحرارة يعتادون على إعداد وجبة اللبن بالخيار لكنهم في نابلس يضيفون شرائح البندورة عليها لتتسم بمذاق خاص. لكن أحمد لا يكتفي بتقديم غذاء الجسد فقد حول مطعمه الطريف إلى متحف تراثي حقيقي حيث تزدان جنباته بأجهزة الراديو الخشبية وساعات الحائط الضخمة وهي أيضا تحف فنية نادرة، وأجهزة هاتف قديمة صاحبة دائرة الأرقام التي تحرك بالأصبع. وخلف زاوية الطباخ تزدحم مفاتيح العودة المعدنية بأحجام كبيرة تشي بأنها كانت معدة للبوابات الكبيرة بحجم حلم العودة ولجوارها جرار فخارية. وهناك تشكيلة واسعة من الفوانيس التراثية من “ضي أبو فتيلة” إلى “ضو الكاز” وأدوات منزلية انقرضت من البيوت كـ “المهباج” الخاص بطحن القهوة و “الهاون” الحجري والهاون النحاسي الخاص بهرس اللحمة تمهيدا لإعداد طعام الكبة.

أخت الشام

 صاحب مطعم العكر المقابل لدكان بيع العصائر الموسمية من الرمان إلى البرتقال “مرطبات الشام” يشمل زاوية خاصة لأوراق النقد الفلسطينية التي طبعت في فترة الاستعمار البريطاني ومعها يحتفظ بشيك من 1927 يتبع البنك العثماني بقيمة 27 جنيها فلسطينيا لم يصرف بعد!

“هذه أخت الشام” وبوسعها أن تكون قطعة من الجنة لو أنها تحظى باهتمام البلدية وبقية الجهات الفلسطينية المعنية، يقول عكر وهو يشير لقصور البلدة القديمة المبنية على الطراز المعماري الفلسطيني من الفترة العثمانية. ويوضح أنه مسكون بهواية جمع القديم بعدما ورثها من والده. والوراثة هنا في نابلس القديمة هي كلمة السر، فالكثير من المهن والحرف تتناقل أبا عن جد مما يفسر جودة منتوجات محلية بفضل تراكم خبرة ومعرفة طويلتين. حتى بائع أقراص الفلافل المجاور للمطعم أبو خالد سارع للتوضيح أنه ورث المهنة من والده لكنه ابتكر من لدنه طريقة حشو أقراص الفلافل الكبيرة بالبصل.

اليانسون والكمون

وتعتبر الجولة داخل الأسواق التراثية في البلدة القديمة رحلة استثنائية بل نادرة، كيفما تلفت الزائر يتمتع بمشاهدة واستنشاق عبق الطيب والمسك والعنبر وروائح الأعشاب والزيوت والحبوب والبقوليات من البابونج إلى الحلبة والمحلب وبذور الكتان وعشرات أنواع البهارات الملونة من الكمون إلى اليانسون والزعفران، المرتبة كاللوحة الفنية داخل محال العطارة وتبعث للأجواء روائح وعطور. بالإضافة لمحال العطارة تجد في كل دكاكين البقالة الزعتر الفلسطيني الأخضر المخلوط بالسمسم والسماق وهو الآخر يغذي الجو برائحة فلسطين الجميلة، والزعتر بالمناسبة واحد من ثماني نبتات تعتبر خواصها الطبية الأكثر منفعة بالعالم وفق ما يؤكده الإخوان الدكتوران إبراهيم ومحمد حاج يحيى مديرا مركز العلوم “الزهراوي العلمي”. وهكذا تلفت عناية الزائر دكاكين وحسب الخضرة بكثرة أصنافها ووفرة خضرواتها وثمارها وفواكهها وطريقة ترتيبها بعناية وذوق فني رفيع وربما تجد ذلك في مدن أخرى في العالم حتى في السوق القديمة داخل مدينة برشلونة الأوروبية على سبيل المثال، لكن ما يميز سوق الخضرة كثرة النباتات المحلية ذات النكهة الاستثنائية من النعناع حتى المرمرية والرشاد والجرجير والعلت والخبيزة وغيرها من البقوليات الفلسطينية والتي يصعب أن تجدها في  مواقع أخرى وهي تبدو طازجة أكثر في البسطات ولدى السيدات والجدات الفلسطينيات في زوايا وأركان البلدة القديمة.

الحاجة حلوة

 

 من هؤلاء الحاجة حلوة التي اختارت موقعها قبالة صيدلية لتبيع تشكيلة أعشاب ونباتات عطرية محلية تمنح الجسم مناعة وتغني الطفل عن الغذاء المصنع المروج له في لافتة دعائية من فوقها. “أحضر في الصباح لمدة ساعتين لأبيع ما لدي واسترزق لسد حاجاتي الحياتية بكرامة وأعدو لبيتي” تقول الحاجة حلوة بلهجة الأم الدافئة الحانية. وردا على سؤال عن استمرار قدرتها وزميلاتها على منافسة دكاكين الخضار المجاورة تقول واثقة مطمئنة “الرزق على الله يا بني”. وفي سيرة الغذاء لا يسع الزائر أن يعود من البلدة القديمة في نابلس من دون أن يتزود بمأكولات “الحلاوة” العريقة محلية الصنع. تجد داخل البلدة القديمة وحدها عشرات المحال التجارية التاريخية التي تعد الطحينة و “الحلاوة” من القزحة والسمسم الفلسطيني والسوداني بطريقة العصير التقليدية التي تحتفظ بمذاق السمسم وبالاكتفاء بقدر قليل جدا من السكر.

 مطعم الجورة

ونحن في سيرة المذاقات النابلسية، يفضل كثيرون من الزائرين للمدينة تناول طعام الغذاء في واحد من مطاعمها التقليدية خاصة تلك التي تقدم وجبات من لحم الضأن المشوي مع البصل والبندورة رغم توفر عدد كبير من المطاعم الحديثة. من هذه المطاعم النابلسية في البلدة القديمة مطعم الجورة لوجوده في موقع منخفض منها لكن بالنسبة لرواده هو في القمة كما يؤكد عبد الله مقاري وزوجته سوسن من قانا الجليل اللذين اعتادا تناول طعامهما عنده في كل زيارة. ويوضح مقاري وهو باحث أثري، أن هناك عدة تفسيرات للتسمية نابلس، ومنها ما يعود للفترة الإغريقية عندما أطلق اليونانيون القدماء اسم “نيوبوليس” على بعض مدنهم. ويتابع “جاءت تسمية هذه المدينة العريقة المتربعة على عرش جبل جرزيم من تحريف نيوبوليس مثلها مثل تسمية مدينة نابولي الإيطالية”.

خبير الكباب

وبخلاف مطاعم مختصة بأطعمة الفطور الصباحية، فإن مطعم الجورة مختص في شواء اللحوم وبوجبات الغذاء فقط وهو معروف بمطعم أبو علاء عوكل. ورث محمود عوكل أبو علاء مهنته من والده الذي أسس المطعم التراثي في 1958 وهو في السادسة والعشرين من عمره. بعد تناول وجبة الغذاء أوضح أبو علاء باعتزاز أنه ما زال يعمل وشقيقه بذات نمط والده باختلاف طريقة إعداد لحمة الكباب من الطريقة اليدوية للماكنات الكهربائية. ويشير إلى أن الوجبة الرئيسية كانت وما تزال في مطعم الجورة هي طبق غني من لحوم الخاروف المشوي مع حبات البندورة والبصل والخبز المسخن على الجمر. ويقدم الطبق بما يكفي ويزيد للزبائن وبأسعار معقولة لأن “الأكل نفس” يقول أبو علاء بلهجة شامية. وردا على سؤال عن سر شعبيته يضيف “لدينا طريقتنا الخاصة بالبهارات وكذلك اختيار اللحوم الطازجة النظيفة وإعداد لحوم الكباب بمعالجتها بالتدليك اليدوي”. كما يضيف للطبق مخللات من صنع بيتي والأهم تقديم الطعام بسخاء و “من نفس، ولذا يصل إلينا ضيوف من ترشيحا آخر قرية فلسطينية في الجليل وكذلك يأتوننا من الجولان السوري المحتل”. وتزدان جدران المطعم ببعض الصور والرسومات التاريخية وبقصاصات ورقية من صحف فلسطينية وعربية كتبت بالماضي عن المكان.

ويشير خبير الكباب النابلسي إلى أن المطعم قدم طيلة عقود اللبن البارد مع اللحم المشوي لأنه يطري المعدة لافتا لتقديم طبق من سلطة الخضار أيضا في السنوات الأخيرة. منوها إلى أن أغلبية الزبائن يطلبون لحم الخاروف لكن المطعم يقدم أيضا لحوما أخرى كـ”فتايل العجل”. أما هو شخصيا فيقول أبو علاء إنه واظب على تناول لحم الخاروف يوميا لكنه صار نتيجة “احتياطاته الصحية ومخاوفه من الدهون” يتناولها ثلاث مرات فقط في الأسبوع.

التحلاية

وقريبا من المطعم يكاد لا يتراجع طابور الرواد الراغبين في تناول الكنافة النابلسية من صنع أيدي الطباخين الذين يتوارثون المهنة هم أيضا أبا عن جد، ومن أبرزها كنافة العكر وكنافة الأقصى وهو أقدم محل للحلويات في المدينة. كبقية محال الحلويات في نابلس يتم هنا في كنافة الأقصى طحن “شعيرية الكنافة” بعكس كنافة الناصرة والجليل حيث يتم إعدادها بطريقة مختلفة وبدون طحن الشعيرية، بيد أن الزوار القادمين من النصف الآخر من البرتقالة الفلسطينية يفضلون تناولها بحثا عن مذاق مختلف وجديد. لكن بالنسبة للفتاة هروينا السائحة من ألبانيا المقيمة في ألمانيا، لا يختلف حال الشعيرية فالمهم أنها حققت الأمنية بتناول كنافة نابلسية كما نصحتها بعض زميلاتها.  قالت هروينا وقد اتسعت ابتسامتها مع اقتراب دورها في طابور المنتظرين للحصول على وجبتهم فهنا ما أن يوضع طبق الكنافة الجديد حتى يتلاشى بدقائق وكأنه لم يكن.

صابونة نابلس

 

كما تشتهر نابلس بصابونها التاريخي كما يتجلى في القول الشعبي “ما بتغسلك حتى صابونة نابلس” في إشارة لجودتها وقد انتشرت في ربوع المدينة 37 مصبنة حتى 1967 لم يبق منها سوى مصبنتين (طوقان والشكعة) بسبب تضييقات وضغوط الاحتلال على الاقتصاد الفلسطيني علاوة على اقتلاع كروم الزيتون واستيراد صابون حديث. ويفسّر كثرة المصابن في نابلس بالإشارة لفائض زيت الزيتون ولجودته العالية فهو يخلو من الإضافات والملونات والروائح العطرية وذلك محافظة على نظافتها ونقائها. ويشير العاملون في مصبنة طوقان إلى إن الصابون الحديث ينتج من زيوت نباتية رديئة أو دهون حيوانية تضاف لها روائح وألوان لتغطية مظهرها الخارجي. ومصبنة طوقان هي شركة للأخوين الراحلين حافظ وعبد الفتاح طوقان أسسها والد الشاعر الوطني الراحل إبراهيم طوقان عبد الفتاح طوقان وهي تنتقل منذ خمسة أجيال منذ تأسست في 1872. وكان الراحل إبراهيم طوقان وشقيقته الراحلة الشاعرة فدوى طوقان من المساهمين والمؤسسين. ويقول مدير هذه المصبنة التاريخية، إن منتوجاتها تصنع من زيت الزيتون النقي، وتتسم بفعاليتها وكونها آمنة على الجسم والبيئة وتخضع لمراقبة مؤسسة المواصفات الفلسطينية والجمعية العلمية الملكية الأردنية. وتنتج مصبنة طوقان خمسة مليون قطعة صابون في السنة ما يعادل 600 طن. من ناحية طريقة الإعداد، فصابون نابلس يدوي الصنع حيث يتم أولا خلط الزيت بالماء والصودا ووضعها في وعاء كبير (حلة) وتسخينها حتى الغليان وتحريكها طيلة 4-5 أيام وفي اليوم الأخير يصبح المزيج “متصبّنا” بدرجة كافية يحددها أحد فنييّ المصبنة. وبعدها يتم سكبها على الأرض ريثما تبرد لمدة يوم يومين ثم يتم تقطيعها وإيداعها على شكل أهرامات كي تجف طيلة 45-50 يوما في الصيف و70 يوما في الشتاء. وعندئذ يصبح الصابون جاهزا لـ اللف والتسويق، ويستقبل الأردن ثلثي المنتوج ويصدر منها لبعض دول الخليج ويصدر الثلث الثالث لألمانيا، بريطانيا، فرنسا، سويسرا وإيطاليا. ويلفت القائمون على المصبنة أن هناك إقبالا متزايدا في أوروبا على صابون نابلس ضمن العودة العامة للطبيعة اليوم.

برج الساعة أثر عثماني

ومن ضمن المعالم الأثرية البارزة في نابلس، برج الساعة الذي بني احتفاء بيوبيل حكم السلطان عبد الحميد الثاني، حيث بنيت أبراج مماثلة في يافا، عكا، الناصرة وحيفا وغيرها. داخل البلدة القديمة يقف البرج شامخا بجوار مسجد النصر التاريخي المبني مجددا منذ 1937 وحوله ساحة تعرف بساحة النصر وقد تم ترميمها وتأهيلها في المرحلة الأولى بدعم سخي من حكومة السويد من خلال اليونسكو عام 2013 وفي المرحلة الثانية استكمل تأهيلها بدعم مؤسسة التعاون الفلسطينية كما هو مثبت في لافتة في المكان. أما في البرج نفسه (الذي يعرف بالمنارة وفق تسمية أهالي نابلس وقد اتخذتها بلديتها شعارا لها) فقد تم توثيق مناسبة بنائها بلوحة رخامية من مطلع القرن العشرين كتب فيها قصيدة مطلعها:

مآثر الخير بعيد الجلوس… أشرقت الدنيا بهاك الشموس

وكان من جملتها ذا البنا… لساعة قد جليت كالعروس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية