صدر للعراقي عبد الله إبراهيم كتابه الجديد «موسوعة السرد العربي: سيرة كتاب» عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت ـ 2021، والكتاب بعنوانه الرئيس والموازي سيرة جديدة دخلت مجال القراءة والتلقي لكنها ليست سيرة ذاتيّة، ولا غيريّة، إنّما هي نمط ثالث أستطيع أن أسميه بالسيرة الخاصة، التي تنفتح على موجودات الحياة، التي تقترن بوجود مدينة أو جبل، أو نهر، أو كتاب، أو فيلم، أو غير ذلك، فهي سيرة من داخل موسوعة السرد العربي وخارجها، اعتمدت الاسترجاع الذي تداخلت فيه المواقف والأحداث والوثائق، خلال أكثر من أربعين عاما، هو عمر تأليف الكتاب وإصداره بأكثر من طبعة، من هذه النقطة أستطيع القول إنّ هذا الكتب سيرة فكرية موازية لسيرة عبد الله إبراهيم «أمواج» تتبّعت وجودا حيويّا سابقا أعيد إنتاج توصيفه على الورق، فهي كتاب على كتاب حاول المؤلف من خلاله أن يضع موسوعة (السرد العربي) في سياقها الثقافي، ضمن العصر الذي بذرت فيه وأينعت، والكتاب بفصوله الأربعة ومقدمته الشاملة، شكل من السرد المقصود الذي لاحق تأليف «موسوعة السرد العربي» مذ كانت فكرة صغيرة في ذهن المؤلّف، إلى أن صارت متنا بتسعة أجزاء، وقد صدرت بطبعتها الأخيرة عن دار مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم 2016.
يكاد كتاب «موسوعة السرد العربي: سيرة كتاب» أن يكون الأول في بابه حسب علمي المتواضع، فلم أقف في حدود قراءاتي على كتاب قام متنه على متابعة كتاب آخر للمؤلّف نفسه، ليعطي فكرة عن تأليفه، والظروف التي أحاطت به، وكان متنه مبنيّا على الانفتاح على الأحداث والوثائق والمستندات، التي ملأت الفراغات التي كان سرد السيرة يتركها، بهدف الوصول إلى شاطئ الحقيقة، بل الحقيقة القاطعة حسب تعبير المؤلّف، من دون أن يستهين بالذاكرة التي أدّت أثرا فاعلا في تدوين سرد السيرة، والمؤلّف يرى أن «موسوعة السرد العربي» كانت شاهدة على وجود تجربة في الكتابة والحوار، والقراءة، ومقارعة الليل بالنهار، والمؤلّف فيها منكبّ على محاورة متون قديمة، رُبطت بمصطلح السرد، في ظلّ وضع استثنائي حرج جعل العراق يعيش ثلاث حروب متتالية، كان المؤلف مشاركا في واحدة منها، وشاهدا على الأخيرتين.
التمهيد للسيرة
انفتح الكتاب على مدخل مهمّ عنوانه (في أتون التأليف الموسوعي) كان بمنزلة التمهيد للسيرة، وقد أفاض فيه المؤلف وهو يعرض لفكرة تأليف الموسوعة مذ زرعت بذرة في ثمانينيّات القرن العشرين، إلى أن استقامت شجرتها قبيل نهاية العقد الثاني من القرن الجديد، وكان الفصل الأول بعنوان (كتاب ينمو عبر الزمن) وقد أوقف المؤلف الحديث فيه على موسوعة السرد العربي، التي نمت وترعرعت في ظل محبّة مسكونة بالبحث، والاستقراء، ومقابلة النصوص بالنصوص، حتى قدّر له أن يعيش معه في ثلاثة أمكنة: العراق، ليبيا وقطر، وفيها جميعا كان شديد الالتصاق بمشروعه الذي ظهر أولا بصيغة (السرديّة العربيّة) في بداية عام 1992 ثمّ نمت تلك السرديّة لتتخذ لها حجما ازداد بمرور الزمن، تبعا لزيادة القراءة والتتبع النقدي والانغمار بروح التأليف، فسيرة الموسوعة في أصولها الأولى مشروع خطط له المؤلف مذ أدرك أن الدراسات العليا طريقه إلى أن يكون، فظلّ متعلقا بما يريد، وهدفه تصنيف كتاب موسوعي عن ظاهرة السرد العربي، قديمه وحديثه.
وقف الكاتب عند إشكاليّة نشأة السرد العربي الحديث، فرد الاعتبار إلى جهود الشاميين مصحّحا ما شاع في كتابات كثيرة عن ريادة مصر في نشأة الرواية العربية، من دون أن ينسى الاحتفاء بالسرود النسوية، وإشكالية الانثوية لينطلق إلى سرد الاعتراف والهوية، والمنفى، ثم وقف عند مصطلح (التخيّل التأريخي) الذي اقترحه بديلا عن الرواية التأريخية.
وكان الفصل الثاني (الإعداد المنهجي) يدور في حلقات المناهج النقديّة الحديثة التي عاشرها المؤلف، وهو يعدّ رسالة الماجستير عن بناء رواية الحرب في العراق، وقد قسّمها إلى قسمين، درس في الأول العناصر الفنيّة للرواية: الحدث، والشخصيّة، والزمان، والمكان، ودرس في القسم الآخر النسيج السردي أي البنية السرديّة، وهو ما قاده في ما بعد إلى دراسة السرديّة العربيّة في إطارها القديم والحديث، ليتواصل مع ما يريد بانسيابية عالية، عزّز من وجودها أنّه أستاذ جامعي ربط عقله بالمناهج الحديثة وسؤال السرد.
وكان الفصل الثالث (المتن النقدي) خاصا بالحديث عن متن موسوعة السرد العربي وتطوّر وجهة نظره في تأليفها، ورغبته في الإلمام بالظاهرة السرديّة، فضلا عن حرصه الشديد، وهو يقترب من موضوعات جديدة مثل السرد والهويّة، والمنفى والنسويّة والتخيّل التأريخي، وغيرها من ثيمات السرد المعاصر، ومصطلحاته التي أدخلها عنوة في موسوعته، وهي في طبعتها الأخيرة التي وقفت عند السياق الحامل للسرد العربي. لقد حرص المؤلف على توضح فكرة مؤداها أن العناية بالسرد العربي لا تحيل المؤلف على رؤية عرقية؛ لأنّ لفظ العربي هنا إشارة إلى المرويات العربية القديمة فحسب، وهي مرويات ارتبطت بوجود إنساني لا يمكن إنكاره، فكان المؤلّف حريصا على الإبحار في تلك المرويات، وتبيان أثر الثقافة، والدين فيها، من دون أن يقف عاجزا عن تفسير ظواهرها، والوقوف عند مهيمناتها، وهو ما دعاه لأن يقف مليّا عند المقامات، والحكايات الخرافية، والسير الشعبية، وآداب الارتحال، وله الحق في ذلك، فتلك الأنواع السردية القديمة كانت بحاجة إلى إضاءات نقدية موسعة، كان المؤلف مؤهّلا للقيام بها، من هنا وجد ضرورة الربط بين تلك الأنواع، والدراسات الثقافية المعاصرة، أو السرد الثقافي، حسب عبارته بعد أن وجد أن تلك الدراسات تمتلك رؤية في تحليل مجموعة من النصوص القديمة والمعاصرة، بهدف الكشف عن التمثلات الثقافية، التي لها صلة بتصوّرات الإنسان، ومواقفه من الحياة، وحركيّة المجتمع، وما أنتج من إجراءات وتقاليد وأعراف، باتت في حساب الثقافة اليوم عرضة للمساءلة، والقراءة، والوضع تحت مجهر التكبير الثقافي، فهو يرى أن تلك الدراسات تطوي في تضاعيفها ضروبا متنوعة من التمثيلات: التأريخيّة، والجغرافية، والدينية والاجتماعية.
وكان المؤلّف في هذا الفصل قد وقف عند إشكاليّة نشأة السرد العربي الحديث، فرد الاعتبار إلى جهود الشاميين مصحّحا ما شاع في كتابات كثيرة عن ريادة مصر في نشأة الرواية العربية، من دون أن ينسى الاحتفاء بالسرود النسوية، وإشكالية الانثوية لينطلق إلى سرد الاعتراف والهوية، والمنفى، ثم وقف عند مصطلح (التخيّل التأريخي) الذي اقترحه بديلا عن الرواية التأريخية.
سلطة الزمن اليومي
أمّا الفصل الرابع الأخير من السيرة فقد كان توثيقيّا بامتياز، فقد خصّصه المؤلف لعرض نماذج من الوثائق التي تدعم مضمون الكتاب، وترفع من درجة مصداقيته منها: نماذج مصوّرة من يوميّات المؤلف الشخصية التي كان يدونها وهو يعيش تجربة كتابة الموسوعة في أدوارها المختلفة، واليوميات سردٌ سيريٌّ يخضع خضوعا كاملا لسلطة الزمن اليومي، يتقيّد كتابيّا بالظروف المكانية، والنفسية، والاجتماعية التي تحيط بكاتبها، فضلا عن نشرة جزءا من تقرير الخبرة الذي كتبه الشاعر سامي مهدي إلى دار الشؤون الثقافية، حين كلّفته الأخيرة بقراءة أصل الكتاب، وتضمن الفصل أيضا صورة لتقرير هاشم جميل عبد الله الخبير الآخر، الذي انتدبته دار الشؤون الثقافيّة لتقرير حال مدونة (السردية العربية) وقد أوصى بضرورة أن يجري المؤلّف تغييرا جذريّا لمحتوى صفحات السرديّة من ص21 إلى ص89 شرطا لنشرها في بغداد، فكان التقريران رسالة فهم من خلالها المؤلف استحالة أن ينشر كتابه في بغداد، فاتجه نحو بيروت التي نشرته الدار البيضاء عن المركز الثقافي العربي وهو في بغداد، ليحقق انتشارا عربيا وصل من خلاله الكتاب مطبوعا إلى أيادي كانت بأمس الحاجة إليه، وليكن في مرحلة مقبلة نواة موسوعة السرد العربي التي تولى كتاب «موسوعة السرد العربي: سيرة كتاب» سرد سيرتها.
ناقد وأكاديمي من العراق