في (غارتي) الأسبوعية على المكتبات الباريسية في الحي اللاتيني وسواه، كما في (أكشاك) الكتب المحتلة لأرصفة طويلة على شاطئ نهر السين.. هناك لفتتني موسوعة كثيراً ما سمعت عنها هي «موسوعة غينيس» للأرقام القياسية. ودفعني «السيد الفضول» لشرائها، وتقع في 256 صفحة من القطع الكبير جداً بتجليد فني فاخر، وصدرت الطبعة الفرنسية عن منشورات «هاشيت» الشهيرة بعنوان: (غينيس العالمية للأرقام القياسية)، ويقول الغلاف الأول إنها تضم أكثر من 4000 من الأرقام القياسية مع صور ملونة.
«موسوعة غينيس» لزوم ما لا يلزم؟
تضم الموسوعة معلومات قد لا تهم كثيرين مثلي، منها مثلاً الكلب الأطول لساناً في عالم الكلاب، إذ يبلغ طول اللسان عنده 19 سنتمتراً ويلتف الناس حوله في ولاية داكوتا حيث يعيش مع صاحبه لالتقاط الصور معه، لكن هل يهم ذلك الناس حقاً؟
ها هي أضخم لوحة رصيف مرسومة بالطباشير تدخل الموسوعة لأنها تتألف من 811 رسماً، أي ضعف الرقم السابق، لكن يكفي أن يهطل المطر بغزارة لإزالة «لزوم ما لا يلزم»، لكن عشاق الأرقام القياسية لا يبالون بتفاصيل كهذه.
كما سيؤسفهم موت أطول قط في العالم بسبب ذيله الذي يبلغ طوله 45 سم. ومن هذه الأرقام التي تمثل بجدارة لزوم ما لا يلزم، ارتداء العروس السيريلانكية لثوب عرس ذيله ثلاثة كيلومترات وحمله مئات من الطلاب الصغار، وسرني أن الرئيسة الوطنية لحماية الطفولة اعتبرت أن ذلك يشكل انتهاكاً لحقوق الطفل، لكن ما الذي لا يفعله البعض للدخول إلى موسوعة غينيس، مثل الأفضل الذي يقلد صوت الخنزير، أو الأسرع في كسر أكثر من 100 بيضة برأسه، أو التهام المئات من قطع (النقانق) دون استعمال يديه، في دقيقة. أو تلك التركية التي التهمت حوالي 5 كغ طماطم (بندورة) في مسابقة للترويج للطماطم التي تشتهر المنطقة بزراعتها، أو حياكة الصوف على (السنانير) لشال طوله 65 كم، أو بُطولة حلاقة شعر الخرفان في وقت قياسي.. كل ذلك يدخل في لزوم الإثارة لما لا يلزم لتحسين حياتنا اليومية أو لرفع (معنوياتنا)!
البوم والعناكب والأخطبوط
لا تتحدث الموسوعة فقط عن البشر، بل عن عالم الحيوان أيضاً.
وأعترف أنني سررت بصفحتين للأرقام القياسية مع الصور لدى البوم، وهو طائر أحبه دون أن أتفاءل به أو أتشاءم منه. إنني ببساطة أجده من مخلوقات الله الجميلة في كوكبنا بعينيه الاستثنائيتين وخصائص أخرى جاءت في موسوعة غينيس؛ فالبومة قادرة على تحريك رأسها إلى الخلف تماماً ومشاهدة ما وراءها، وهو ما يعجز عنه الإنسان، وللبوم أطول جناحين لطائر ليلي، وربما لذلك تطير دون أن تسمع الأذن البشرية صوتها، مما يجعله يراها فجأة وقد يشعر بالذعر.. وتنسب إليها تهم الشؤم وغير ذلك، فهي التي تخيف بعض الناس، ويتطيرون من (نعيقها)، والتطّير محرم في الدين الإسلامي.
تضم الموسوعة فصلاً خاصاً للأخطبوط والعناكب وسواها، والأرقام القياسية التي تضربها في عالم الحيوان.. كمتانة خيوط شبكة العنكبوت، والشبكة الأكثر اتساعاً التي عرفها البشر.
الأرقام القياسية لخدمة الإنسانية
هذا صبي تونسي اسمه أواب بن عمران (11 سنة) قطع 2000 كم على دراجة هوائية من تونس العاصمة إلى بجاية تضامناً مع ذوي الاحتياجات الخاصة، ودخوله إلى «موسوعة غينيس» يعطيها بعداً إنسانياً.
وهنالك الأرقام القياسية للذين تجاوزوا في العمر قرناً من الزمن وما زالوا يصرون على أن الشباب رعشة القلب وشهوة التجاوز. وهنالك ياباني (متيوري سايتو) وعمره 75 سنة، لكنه أبحر بمفرده حول العالم طوال 233 يوماً، ويقول ببساطة لكل من يتقاعد في الستين:
الحياة بدأت للتو!
المرأة حاملة أثقال دائماً!
وفي الموسوعة فصل خاص بالنساء حاملات الأثقال، كما «وي دن» التي حملت 149 كغ على كتفها، وسواها من حاملات الأثقال، لكن المرأة كانت على طول التاريخ حاملة (أثقال) وهموم، وأخص بذلك المرأة العربية التي لا تعرف الموسوعات شيئاً عن (الأثقال) والهموم التي تحملها دونما شكوى، كالزوجات والأمهات كلهن في مجتمعات تحاول تحجيم تأثيرها وليس قدرتها على الصبر، وبوسعها ضرب أرقام قياسية في حقل لا موازين له، كالوفاء والصبر والحرص على تماسك مؤسسة الأسرة وتحملها أحياناً (أثقال) الضرة!
صبي غزة تحرمه إسرائيل من السفر
ويظل من المؤثر القراءة عن ذلك الصبي الذي يقوم بجسده اللين المدرب بحركات يستطيع بها تسجيل أرقام قياسية في الموسوعة الشهيرة، ويرغب في ذلك، لكن إسرائيل لا تسمح له بمغادرة غزة، وهو أمر لا يدهشنا في غمرة حملتها لخنق الفلسطينيين أصحاب الأرض التي اغتصبتها.
يروى ان الخليفة المأمون كان يشجع المهارات المميزة و يكرّم اصحابها
جاءه يوما رجل ليستعرض مهاراته أمامه من خلال إدخال مائة ابرة كل آبرة في فتحة الإبرة الأخرى
وبعد أن أنجز المهمة، امر الخليفة بأن يكرموه بالف درهم و يعافبوه بالف جلدة
و قال له الالف درهم لمهارتك المتفردة و الالف جلدة على الوقت الذي اضعته للتدرب على هكذا مهارة لا فائدة من وراءها!
قد تكون مجرد رواية من باب الطرافة و لكن لو صحت و كان المأمون يحكم اليوم لجلد معظم أصحاب الأرقام القياسية في كتاب غينيس!! ??