موسوعية المغربي عز الدين الجنيدي تقوده إلى مفاهيم فنية جديدة

تبرز التقنيات العالية للفنان عز الدين الجنيدي في مختلف أعماله الفنية، التي تتقاطع فيها الحروفية والتشكيل والموسيقى والشعر، ليشكل منجزا متكامل المعالم الجمالية، فتتبدى أعماله الرائدة والغنية في مجال الحروفيات وفن الخط العربي والتشكيل، قوية تنساب منها المعاني والدلالات المتنوعة، وهو بذلك يطبع المجال الفني بإيقاع جمالي، تمتزج فيه أساليب التشكيل المعاصر بمواد فنية أخرى متنوعة، إذ يرتكز على علامات حروفية وأشكال لونية متداخلة، تبدأ من عملية البناء الفضائي وتفضي إلى مسلك إبداعي متجانس، يكشف عنه المنحى الدلالي.
إن أعمال المبدع عز الدين الجنيدي في مجملها تحكمها التقنيات العالية والمؤهلات الكبيرة، ويحكمها الالتزام بالضوابط الجمالية للشكل واللون والخط وللحروفية العربية، يفصح عن ذلك التركيب الحروفي المنصهر في اللون، والمدجج بالأشكال المتنوعة المقيدة باللوازم الفنية المعاصرة، وهو ما يؤشر إلى أن المبدع يتجاوز المألوف ويرتقي بالتشكيل والخط والحروفية إلى أبعد الغايات الفنية، ليفي بالمعنى الجمالي، وبالارتقاء الإبداعي وبالضوابط القيمية والتكوين البنائي، ما ينم عن وعي الفنان عز الدين الجنيدي بمختلف الوضعيات الحروفية والتركيب اللوني، وما يتطلبه الشكل العام من الجماليات، لذلك فهو يشتغل على نهج متنوع بما تطرحه تشكيلاته الفنية الرائقة، من إشكاليات فلسفية وشعرية مختلفة، تصب في القيم الفنية والجمالية، وقيم الحرف واللون والشكل والموسيقى، وفق مسالك مختلفة، تتجه إلى مناحي دقيقة من حيث الصياغة التشكيلية، سواء ما تعلق منها بتجريدية الحروف، أو بروزها، أو تشكيل الألوان وتداخلها مع الحروف.
فالشكل الفني العام ومفرداته التشكيلية حاضرة في أعماله. ويمكن القول إنه يمتح مقومات أعماله من أسلوب يتأسس على الحيادية والدقة العالية والتقنية الكبيرة، في معالجة مختلف المضامين، فهو يُشكل أعماله الفنية وفق المؤثرات الحرفية والوعي بمستويات اللون المطلوبة، التي تتناسب ورُؤاه المعرفية، وحسه الإبداعي وذوقه الرفيع. إذ ينطلق من اللون لينوع الأساس التشكيلي بأسلوب فني يخدم رؤية مشدودة بعبَق المعالم الثقافية والفنية والجمالية، فيغوص في المادة التشكيلية، حيث لا يكتفي باستدعاء اللون وحسب؛ وإنما يمتد إلى الاشتغال على الحرف، وعلى النوطة الموسيقية؛ بل يتجاوز ذلك إلى كل ما هو رمزي وعلاماتي وتعبيري وإيحائي ودلالي، ليس من حيث القيمة البنائية؛ وإنما من حيث الخلفية السنادية، التي تُدللُ على وعيه بأهمية الحروف وتداخلها مع الألوان، وما تشكله عناصرها ومفرداتها الفنية من أهمية كبرى داخل الفضاء، سواء من حيث التدبير الجمالي الذي يرصد السمات الجمالية المتنوعة، التي تتوفر عليها أعماله التشكيلية، أو الحروفية، أو من حيث صنع الإيحائية وإنتاج الدلالات المتنوعة، خاصة أن معظم أعماله تنبني على التوازن، وعلى عدة مقومات فنية يروم بها التوظيف الدقيق لمختلف العناصر التكوينية داخل الفضاء، ويروم كذلك الكشف عما تضمره أعماله من محمولات جمالية تزخر بالتأويل ذي الدلالات المفتوحة.

وهذا يعد ملمسا جديدا في أسلوب المبدع، الذي يترصد في أدائه الفني العلاقة القويمة بين المادة التشكيلية والمادة الحروفية والشعر والموسيقى والمضامين وفق المرجعيات المنبثقة من المادة الفنية، ليشحن أعماله بطابع رمزي ودلالي، يمكّنه من صنع مفردات توليفية، ترتبط أساسا بالمكونات الثقافية والمعرفية والفكرية والفلسفية والفنية، التي تؤطر أعماله في جوهرها، وتنم عن أفكار متجددة، ومخيلة منفتحة على عوالم متنوعة. وهو ما يضع القارئ أمام أعمال حمالة لأوجه فنية، ولمعاني ودلالات متعددة، غنية بالإيحاءات والتدهيشات، في سياق وشائج قائمة بين ما تحمله المضامين والمادة الجمالية، في علاقة ترسخ جانبا من التداخل بين العناصر المنفصلة كافة، بكل ما تحمله المادة التشكيلية من مرام دلالية وتأويلات تميز في عمقها الخطاب الفني لدى المبدع، ما يحيل إلى مجال جديد لوضع تمظهرات الحروف في سياقات جمالية ودلالية، وخصوصيات اللون والشعر والموسيقى، بعمق وفرادة في نطاق من الانسجام، ووحدة الدال وتعدد المدلول. وبذلك يطرح أعماله ضمن سياقات تعبيرية متجددة، تتجاوز المعتاد إلى مجال حروفي معاصر أكثر حرية. ولعل التوظيف الحروفي المرتكز على المنطق الفني، وتكثيف الألوان الممزوجة بالأشكال التعبيرية والرمزية والعلاماتية ذات المعالم الإيحائية؛ تمنح أعماله مقاربة مفاهيمية تؤطرها السيولة الثقافية والفكرية والفلسفية، وتؤطرها كذلك الموسوعية الفنية، وهو ما يجعل الأشكال المتنوعة، واعتماد الدوائر وأنصاف الدوائر والتموجات و الاستقامات وغيرها، على مستوى أشكال الحروف وعلى مستوى اللون، تقتنص فرصا في الفضاء، لتبرز دلالاتها ومعانيها وتنوعها، وتركيباتها الفنية والجمالية، لتفي بكل مقومات العمل الحروفي والتشكيلي المعاصر، وهي توحي بالحركة، وتبعث صدى موسيقاها في أشكال جديدة، لتظهر بعمق الرؤية الفنية الشاملة المعاصرة للمبدع.
وهي تتبدى في صيغ من النظم المنسجم مع كل المكونات الأساسية لأعماله، تبث مجموعة من القيم المؤطرة على نحو من التروي والدقة والموازنة، ما يفتح مجالا أوسع للإبداع، وفق الوظائف البنائية والمسوغات الفنية ذات الجماليات المتعددة.
وبذلك ففي المنظور النقدي، يبدو أن القاعدة التشكيلية والحروفية لدى المبدع تتأسس على مسلك فني موسوعي منظم، يخترق الشكل، ويسمو بالمفاهيم الجمالية، ويحقق الوصل الفني، من خلال التوليف الجمالي، عبر مقاربات تحكمها سياقات المادة الفنية المحملة بخصائص الحروفية والتشكيل، والمعضدة بالخطاب الفني المعاصر المبني على التأويلات المتنوعة، المفتوحة على مختلف القراءات. ما يكشف عن بلاغة متعددة المعالم الفنية، وعن موسوعية ثقافية ومعرفية وفكرية، وعن قدرة إبداعية، بقدر ما أنتجته هذه التجربة من جديد فني، ومن قيم تعبيرية، ومن حمولة جمالية ذات خصائص متفردة تُظهر أن للمبدع عز الدين الجنيدي إمكانات كبيرة، وقدرات فنية هائلة وتصورات ورؤى مركزية، تجعله يبرهن بها على قوة هذا المسلك الفني، والأسلوب التشكيلي المتفرد في التشكيل العالمي المعاصر.

تشكيلي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Mzaraامزارى مصطفى:

    مقال متكامل في التعامل مع المبدع المتعدد عز الدين جنيدي
    تحياتي

إشترك في قائمتنا البريدية