‘جماهير غفيرة ممن تتظاهر في جمهورية مصر العربية في تموز/يوليو 2013 شاركت ايضا في التظاهرات في كانون الثاني/يناير 2011 ضد حكم حسني مبارك’، هذا ما كتبه لي احد طلابي، من العرب القلائل الجامعيين الخريجين، الذي رجع الى وطنه مؤخراَ. واضاف ‘اتابع الاخبار واستوعب الكثير من المعلومات، لكني لا افهم صيرورة الاحداث في مصر، على سبيل المثال’. قلت له، لكي تفهم يجب ان تتوقف عن الاستغراب عاطفيا فتستوعب مجريات الامور بتبني تفكير ثاقب نقدي، لا تتفاجأ ان سمعت انه بعد فترة قصيرة سيتولى زمام الحكم في مصر جيل جديد من ‘الضباط الاحرار’ (السيسي ورفاقه مثلا) على طراز ثورة/انقلاب 1952، متبنيا القومية العربية – الاشتراكية على الطراز الناصري، ولا تستغرب في ما لو اصبح في مرحلة معينة (ولا حاجة لرد فعل استغرابي رافض هنا) جمال مبارك، نزولا عند طلب الشعب المصري، رئيسا، او ان ينهض الحكم الملكي من قعر الماضي المصري، مع ملك ‘فاروق’ عصري من صناعة احدى الدول المهتمة بمصر. فالكثير من هذه العمليات تتأثر شكليا وداخليا بما يحصل في الميادين وتنتهي (واحياناً تبدأ) في خلايا استراتيجية لرسم السياسات في وكالات مخابرات حكومية بعيدة عن عالمنا العربي او بمشاركة بعض الجيران.
قلت لطالبي القديم الجديد، ان حراك فضاء ميادين المدن هو محصلة انتقال الرأي والموقف للفرد- المواطن من القلب والعقل الخاص الجالس في البيت امام الشاسات المختلفة الاحجام، الى الفرد المتحرك الغاضب السائر الجماعي، والعام الواصل (القاطع للمسافات) الى ان يصل الى الميدان لمضاعفة الطاقة في اطار من التعاضد والتضامن. فاثناء تربع الملك لويس الخامس عشر (1715- 1774) على العرش الفرنسي، تم تشييد العديد من الميادين العامة، التي سميت بالميادين الملكية، حيث كانت قطاعات واسعة من المجتمع الفرنسي والاوروبي عموما، على استعداد لتقديم الكثير لنيل رضا الملك والعائلة الملكية الحاكمة. شيد لويس الخامس عشر، الذي حكم اكبر امبراطورية اوروبية، الميدان الملكي الشاسع في العام 1770.
وعندما كان لويس الخامس عشر ما زال على قيد الحياة تم الاحتفال في الميدان بمراسم اكليل زواج حفيده، لويس (الذي كان فقط في الخامسة عشرة من عمره) من الدوقة النمساوية التي كانت تصغره بعام واحد، ماري- انطوانيت لاحقا صاحبة المقولة، دعهم (الفقراء) يأكلون كعكاً إذا لم يكن هناك خبزٌ .
توفي لويس الخامس عشر في عام 1774، حيث خلفه حفيده الشاب، الذي اصبح يسمى لويس السادس عشر واصبحت زوجته ماري – انطوانيت ملكة ايضا، وام لويس السابع عشر لاحقا. اندلعت الانتفاضة الفرنسية الاولى في عهده وبالتحديد في عام 1789، تلك الهبة التي مهدت لبداية عملية طويلة استمرت عــــدة عقود (اول فترة منها استمرت عقدا من 1789- 1799، حيث تم تغيير اسم الميدان من ‘الميدان الملكي’ الى ‘ميدان الثورة’ عام 1792). كان قرار تغيير الاسم واحدا من جملة قرارات في اطار تأسسيس الجمهورية الفرنسية الاولى (1792-1804).
الفوارق الطبقية في مصر كبيرة ولن تتلاشى في تظاهرات مليونية بمجرد ان لمست اصابعنا الشاسة وتصفحنا ‘شاشاتياً’ الحراك الجماهيري في الميادين المختلفة. فلم تتلاش الصراعات ما بين الطبقات المختلفة في المجتمع الفرنسي لمدة عقود، لا بل عادت الملكية، حيث تم تتويج نابليون (الاول) بونابرت (1769-1821) في عام 1804 والغاء الجمهورية الاولى وعودة الملكية لتحكم لمدة 44 عاما. والعلاقة التاريخية ما بين مصر وفرنسا وثيقة، ورغم عدم التشابه في الكثير من النواحي، يبقى موضوع صراع القوى في كل المجتمعات البشرية، وفي مصر بالتحديد، هو الذي يحدد كم ستستمر العملية الجارية (بما فيها التيارات العاملة خلف الستار وتحت سطح التغطية الاعلامية)، وهل ستؤدي الى تحولات اضافية في المجتمع المصري، التي قد تؤدي (مثلا) الى اعادة الجمهورية ‘الناصرية الثانية’ حتى لو في عام 2028، او ان كانت ستنبثق الجمهورية الناصرية الثالثة، على سبيل المثال بعد حرب تحرير فلسطين عام 2048.
فقد يشهد ميدان التحرير في القاهرة نهاية او فشل حكم الاخوان المسلمين، كما شهد ميدان ‘كونكورد’ الشهير في باريس مهد ولحد الملكية الفرنسية بالفعل، فقد تم الاحتفال بعرس الملك لويس السادس عشر، كما تم شنقه في الميدان ذاته في 1792، وشنق زوجته ماري- انطوانيت من بعده في عام 1793 . فقط جزء من قطاعات الجماهير المتظاهرة في يناير2011 في ميدان التحرير ظن ان حركة الاخوان المسلمين ستحكم مصر ولو لفترة قصيرة، نتيجة مظاهرات كانون الاول/ديسمبر- شباط/فبراير 2011 الى ان تسلق الاخوان مشاركين في هذا الحراك، ونتيجة لتجاذبات وصراعات قادوا العربة. في منتصف 2013 شهدت مصر ما هو مماثل، ان لم يكن مطابقاَ لما حصل في فرنسا (التخلص من حكم ايديولوجي معين) وهو بداية التخلص من الاخوان المسلمين كحركة حاكمة (حتى لو للأمد المنظور). فعملية التبديل في النظام السياسي قد تؤدى الى ارتفاع سقف الحريات والحقوق في كل مرة يزداد الرفض الجماهيري، لعدم موافقة الحكم /الحكومة في الاخذ بعين الاعتبار حقوق قطاعات اكبر من الجمهور، الا ان هذا ليس بالضرورة ما سيحصل. فللحفاظ على السياق التاريخي، من المفيد النظر الى الحراك الاجتماعي- السياسي الذي يشمل احداثا صادمة نفسياً (تتخللها احداث قتل وسفك دماء) تسيطر احيانا على المشهد السياسي، بشكل متصل وسببي، وليس منفصلا ومتقطعا، فقد يكون حدث واحد صاخباً اعلامياً، الا ان اهميته قليلة التأثير في الاطار الواسع على مسيرة الدولة.
في الحراك الاجتماعي والسياسي الذي تشهده بعض الدول العربية منذ مطلع 2011، شهدنا اتفاقا بين بعض القطاعات على ضرورة التخلص من الحكم الذي هيمن في الحقبة الماضية. وظن من ظن ان هذه المجموعات التي تظاهرت في يناير 2011 كانت تتفق على مبادئ الحرية والمساواة. ولكن تغير الحكم فاختلف التياران الرئيسيان في مصر ايديولوجيا على ادارة البلاد والرؤية المستقبلية لشكل الحكم القادم.
في مصر كما هو الحال في العالم العربي الذي يشهد حراكا، لم يتم طرح اي ايديولوجية جديدة (من اطراف معارضة) وانما الترويج لايديولوجيات موجودة في المجتمعات العربية منذ عقود، هذا لا يقول ان هذه الايديولوجيات غير صالحة المفعول، لكن يعني ان هذه الايديولوجيات، بمختلف انواعها القومية والاسلامية والاشتراكية والليبرالية، ستستمر في التنازع في ما بينها حتى تنتصر ايديولوجية معينة وتهزم الاخرى، او على الاقل تسود في الفترة الاولى من الحراك العربي (او الاقتتال في بعض الحالات) الى ان تتعايش باحترام وحرية ومساواة، في مرحلة لاحقة وتقبل مبدأ التشاركية والتعددية.
فالتظاهر يوما بعد يوم في الميادين المصرية واستمرار وتكرار الحركة والطلب والاصرار، كلها تعبر عن رفض ايديولوجية الاخوان غالبية (غير مطلقة)، وعدم القبول بانصاف الحلول والعمل بشكل دؤوب لتحقيق اعلى سقف من الطلبات، بل ان صراع القوى في المجتمع ذاته، الذي ظهر للعيان في الميادين اخذ مناحي عدة، فعلى سبيل المثال مناهض الملكية (الفرنسية) الاكبر وزعيم المعارضة بالتحديد، المحامي ماكسيميليان روبسبير (1758-1794) اصبح اقوى شخصية خلال ما انجلى ليعرف بفترة بداية الثورة الفرنسية، حيث قاد حملة اعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته وآلاف آخرين من الطبقة الملكية وموظفيها، في الفترة التي عرفت بـ’عهد الارهاب’ ما بين 1793- 1794 وتم اعدامه هو ذاته في يوليو 1794 وذلك بعد ان كان قد روج بقساوة لفلسفة تأسيس الجمهورية الفرنسية الاولى او ما سماه بـ’الجمهورية الفاضلة’، وذلك عبر فرض الاعدامات على المقصلة في الميدان ذاته. للمقارنة، فمنذ الاطاحة بحكم مبارك والى الان لم تشهد مصر طرح ايديولوجية متراصة قدمت برنامجا سياسيا مبلورا وواضحا الى الجمهور بواسطة قائد جهبذ براغماتي، كان او كاريزماتيا. فمصر بحاجة ليس فقط الى خطابات نارية (مع ان هذا ليس الامر الاهم الا انه مهم لالهام الجماهير وقيادتها) بل الى رؤية ومؤسسة (كالجيش ولو لفترة انتقالية) تعمل للدفاع عن حقوق الناس وحرية التعبير عن الرأي وبشكل سلمي لا تجتث اية جهة او شريحة اخرى منه – اي الآخر السياسي والاجتماعي وليس فقط الطبقي، وكل من حكم قبله. بهذه الطريقة من المفترض ان يبدأ التحول الاجتماعي بالذهن والوعي والنسق الايديولوجي، الذي يستغرق وقتاً لاستيعابه وتبنيه (حيث لا يمكن اختزاله بحملة اعتقالات وبالسجن وبحركات مقصلية في الميدان) لكن وباستمرار يتواصل بها مع الجمهور المسحوق لصنع عملية مركبة وتسميتها ‘ثورة’. فبعض المتابعين لمجريات الامور يصفون الاحتجاج والتظاهر والتعبير عن الكبت والقمع بسبل مختلفة بـ’ثورة’، بينما من المستحسن لربما تسمية هذه الممارسات او التصرفات بالكثير من المسميات، ولكن ليس ‘ثورة’، لان الحراك ما زال مستمرا (او حتى في بدايته) ولا نعرف الى اين سيصل. وثانيا لم يثر هذا الحراك بعد على المعتقدات التي راجت لغاية الآن في المجتمعات العربية، والتي ساهمت بانعدام المساواة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وحرية التعبير عن الرأى، وبالاعتراف بحق الآخر بالوجود الجسدي والفكري، وبأن الحكم للاغلبية لكن اية غالبية لا يمكنها ان تبطل حقوق الاقلية (الاثنية او الدينية او المذهبية او الفكرية الفردية او العلمانية.. الخ). ولكي يتوصل المجتمع الى تلك الحالة يجب البدء بتطبيق برامج تؤدي في مرحلة معينة الى سيادة العدالة الاجتماعية والمساواة الاقتصادية بين شرائح المجتمع، لكي تصل الغالبية (لا نريد ان نقول الجميع) الى حالة تستطيع الحصول على المعلومة، ولربما مستوى ادنى من المعرفة والمقدرة على التفكير النقدي يليق بالمفاهيم الجديدة، كاحترام الآخر ورأيه واستيعاب مبدأ ضرورة التحاور باحترام وادب، رغم عدم الاتفاق. واهم من ذلك تقاسم الوطن تحت قبة واحدة. الامر الذي سيوصل المجتمع لربما الى تبني حلول وسط او عمليات تدريجية وتبني برامج تنموية في مجال التربية والتعليم، وهذه مسألة تستغرق عشرات السنين. فاما ان يتم الاتفاق بواسطة اجماع قومي ومصالحة وطنية (ولذلك فقد تم تغيير اسم الميدان الباريسي الى ‘كونكورد’ ويعني ذلك علاقات سلمية ووفاقية بانسجام) في مجتمع دولة معينة على وجوب السير في طريق ستأخذه الى ‘ثورة’ شاملة قد تسمى ‘حقيقية’ في المستقبل.
‘ اكاديمي فلسطيني مقيم في كامبريدج