من حسن حظي أن تعطلت عربتي غير بعيد عن ورشة ميكانيكي.. حملق الميكانيكي فيّ جيدا، وهو يسير معي إلى حيث السيارة وسألني كم عمر السيارة؟ أجبته بالتقريب لأني لا أعرف عمرها الدقيق.. سألني هل تعطبت قبل هذا: أجبته طبعا طبعا.. عاد ينظر إليّ والحيرة على وجهه من أجوبتي فسألني: ماذا تشتغل يا أخانا؟ سيارتي لا توحي بمهنتي ومهنتي لا تطابقها سيارتي وتلك قضية أخرى.. قلت له مدرس.. حدجني بنظرة تشبه مفتاح الفولاذ الذي في يده، ثم قال: ميكانيكي كلام يعني.. وقهقه ضاحكا.. لم أبتسم لكن استعارته لاقت في نفسي هوى.
الميكانيكا أو «علم الحيل» مثلما يحلو للعرب تسميته تعود قصته عهودا أبعد من عهد الإخوة بن موسى (أحمد ومحمد وحسن) الذين كانوا يشتغلون بالحيل في أقدم بيت للحكمة في بغداد، برعاية الخليفة المأمون العباسي. وضعوا مصنفا في الهندسة سموه «كتاب الحيل» وصفوا فيه كثيرا من الأجهزة وكيفية تشغيلها وكانت هذه الآلات متنوعة، تستجيب لحاجات عصرها في الإنارة والري والصيد والموسيقى وغيرها من الأدوات والآلات.
علم الحيل تسمية معيارية تترجم لفظ الميكانيكا المعروف لدى الإغريق، والتي استعملت عندهم في معنى «فن صناعة الآلات». ومن المعلوم أن هذا الفن كان فرعا من الفيزياء موضوعه دراسة الحركات والتوازنات والانحرافات التي تطرأ على الأنظمة الفيزيائية. وما من شك في أن الحيلة تعني ههنا الحذق، وجودة النظر، والقدرة على تدبر الأمور لكن، باستعمال الآلة. وترتبط الحيلة أيضا بالبراعة التي تصل إلى حد التعجب، أو الإعجاب. وهذه المعاني إذا ما استعرناها لحيل الكلام كانت ممكنة، ذلك أن في الكلام من البراعة وإثارة الإعجاب وحسن التوسل والقدرة على إخراج القول المخارج الحسنة ما يشبه الحيل.
الميكانيكي في استعمالنا الآن، وهنا هو الشخص الذي يصلح السيارات وما شابهها مما ركبه الناس، وهذا المعنى الذي للعبارة هو جزء مما اكتسبته في تاريخها وفي الحضارات الأخرى، إذ هو هناك العارف بهندسة الآلات وصناعتها وقيادة ما يقاد منها. لكن معنى الميكانيكي في الحضارة التي لا تنتج، بل تكتفي بأن تصلح ما ينتج سيكون معنى منحصرا في الإصلاح والعلاج، دون الصناعة.
كان لا بد من هذه البسطة كي نضع هذه الاستعارة المرتجلة المبتدعة ميكانيكي الكلام في سياقها الحضاري الصحيح، سياق من يكتفي بمعالجة ما أبدعه غيره. ربما كان المدرس في هذه الاستعارة المبتدعة والبديعة، ميكانيكي كلام، لأنه يصلح أخطاء المتعلمين اللغوية والمعرفية جميعا.. لكنه ليس الوحيد الذي يمكن أن تصدق عليه هذه الاستعارة.
«ميكانيكيو الكلام» استعارة باعتبار ما يكون، وليس باعتبار ما هو كائن: يعني أن هذه الاستعارة يمكن تخليقها فهي لا تجول كما هو معلوم على ألسنة الناس، وإنما ابتدعها هذا الميكانيكي ابتداعا، وخلقها تخليقا عجيبا. معلوم أن توليد الاستعارات أو ابتداعها لا يحتاج أن يكون من أنتجها أول مرة شاعرا أو بارعا في الصور مثلما قد نتصور. يمكن أن تأتي سهوا ورهوا، كما يقال دون كد للخاطر. ويمكن أن نستعملها لفهم فكرة أو شرحها مثلما سنفعله في ما يأتي من كلام.
الناقد الميكانيكي الحقيقي هو كل أكاديمي يستعمل هذه المفاهيم في السياق الصحيح السليم في التدريس والتأليف، وفي التطبيق، والناقد الميكانيكي المزيف هو الذي يستعمل تلك المفاهيم نفسها في السياقات نفسها بشيء كبير من التحريف غير المقصود غالبا.
النقد هو مجال من المجالات التي يمكن أن تستخدم فيها هذه الاستعارة بأن، نعتبر الناقد ميكانيكي كلام، وعندئذ يمكن أن نخلق ضربا مما يسميه «فوكونياي وترنر» مزجا Blending نتعامل فيه مع هذا الضرب من النقاد لا على أنه ناقد ولا على أنه ميكانيكي، بل على أنه كيان تصوري يمتزج فيه الناقد بالميكانيكي لتخلق لنا هيئة جديدة. في هذا المزج سنرى الناقد لا على أنه خالق للكلام، بل على أنه معالج له، وهذا يفترض أن يكون الكلام الذي هو مجال لنوع من المعالجة المخصوصة قابلا للإصلاح بأدوات معالجة ميكانيكية. الناقد من هذه الناحية يمكن أن يكون خبيرا بالكتابة الشعرية، أو النثرية، أو بالإبداع الفني المسرحي أو السينمائي، فنتحدث عندئذ عن ميكانيكي ناقد خبير. غير أنه ولأسباب ما يمكن أن نجد الناقد الميكانيكي، متمرنا أو دخيلا على ميدان الكلام الميكانيكا، فيكون الناقد الميكانيكي مزيفا أو دجالا. يمكن أن يكون هذا الميكانيكي للكلام أو الفن متخفيا في لباس الميكانيكيين حاملا مفاتيحهم وآلاتهم، ملوثًا الثوب بزيوتهم، لكنه لا يمكن أن يفلح في تشخيص العطب الذي في عربة الكلام التي يعالجها. نحن نجد الناقد الميكانيكي المزيف والناقد الميكانيكي الحقيقي مع فارق معقد يتمثل في أن عطب السيارة الحقيقي وإصلاحه، هو كاشف فوري لزيف الميكانيكي، أو لحقيقيته، لكن المسألة في النقد أكثر صعوبة من هذا : فلا يوجد قادح آني كاشف لزيف الناقد الميكانيكي لأن المكان الذي ينتصب فيه، ولنقل إنها وسيلة إعلام يمكن أن يغطي الزيف. في هذه الحالة يمكن أن تظل النصوص المعطبة معطبة، ومثلما هو الشأن في الميكانيكا فإن العطب في قطعة ما من السيارة، يمكن أن يمتد إلى غيرها، إن لم يصلح العطب في وقته. وفي النقد أمر أكثر خطورة: إن التعامل مع الأعطاب الكلامية على أنها صحيحة يمكن أن يروجها، باعتبارها مناويل ينسج عليها وهذا يشبه في الميكانيكا مثلا، أن يعتبر الدخان المنبعث بكثافة من قناة التصريف حالة عادية فتنسج السيارات على منواله ليصير التلوث الأصل ويصبح الصفاء عطبا. واليوم تنفث كثير من النصوص الشعرية المكتوبة هنا وهناك، والتي يعلي من قيمتها الناقد الميكانيكي المزيف دخانا ملوثا لبيئة الكلام السليم لا يشعر بسمه إلا من عاش الصفاء أيام الصفاء.
سنقدم مثالا أكثر دقة على (الناقد الميكانيكي الحقيقي/ المزيف) هو مثال مستخلص من درس المفاهيم الأكاديمية التي عادة ما تستخدم في النقد. الناقد الميكانيكي الحقيقي هو كل أكاديمي يستعمل هذه المفاهيم في السياق الصحيح السليم في التدريس والتأليف، وفي التطبيق، والناقد الميكانيكي المزيف هو الذي يستعمل تلك المفاهيم نفسها في السياقات نفسها بشيء كبير من التحريف غير المقصود غالبا. هو غير مقصود لأن كثيرا من جوانب المفاهيم تظل خفية يفشل في الوصول إلى حقيقتها، وهو إن عبّر عنها عبّر بشكل ضبابي موهم بالفهم ولا فهم. وحتى لا نعقد على القارئ البسيط نورد مثال مفهوم رائج هو التناص.
جرّب أن تكتب شيئا في موضوع ما حتى يهب الذي يدعي معرفة بهذا المفهوم ليقول لك، إن في كلامك تناصا مع فلان الشاعر أو الأديب. وهو يرى أن كلمة واحدة، أو بعض كلمات وجدها في نصك تكفي للحكم بالتناص، الذي ربما سماه أحيانا تحاورية باستعمال عبارة باختين الشهيرة. هو يستعمل التناص ليعين شيئا في ذهنه يشبه «التلاص» أي أنه يرميك بالسرقة واللصوصية، ويرميك وهو يستعمل هذا المفهوم بالتقصير والسرقة من غيرك. يفهم الناقد الميكانيكي المزيف خطأ ما قالته جوليا كريستيفا مثلا من أن «كل نص يُبنى، هو مثل قوس قزح من الشواهد، وكل نص هو تشرب لنص آخر وتحويل له «كريستيفا ميكانيكية مبدعة لسيارتها المفهومية، وتتعامل مع الكلام (النصوص) على أساس أنه من المستحيل أن تجد سيارة ليس فيها قطع غيار متماثلة، توجد في هذه السيارة أو تلك بأحجام مختلفة أو بأبعاد مختلفة، وأنه لا توجد سيارة يمكن أن تكون فريدة في قطع غيارها فلا توجد لها أمثلة في السيارات الأخرى، هذا هو رأيها في التناص. لكن الميكانيكي الذي تعلم عنها الصناعة، تعلمها بشكل مختلف وانتصب مزيفا لحقائق الميكانيكا المتناصة.
عالج الميكانيكي عطب سيارتي. كان خفيفا.. صاح وصوته يلاحقني والسيارة تعود إليها حياتها وتغادر المكان: إلى اللقاء يا ميكانيكي الكلام.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
معبرة جدا. راق لي عنصر التشويق.