ميلاد

«عندما أشاهد هذه الصور، يختلط الواقع بالخيال، وأتساءل في أي فيلم أنا» هذا الكلام من المصور الفرنسي الشهير ريمون دي باردون Raymond Depardon، نقرؤه في صحيفة «المراقب» L’obs الفرنسية، بينما يستعرض المصور وصاحب أفلام وثائقية عديدة مجموعة من الصور، التقطها زملاؤه عن أحداث هذه السنة.
بمناسبة قدوم عيد الميلاد في ظروف استثنائية غير معهودة، تستدعي مقاربة وسلوكا جديدين، حاولت سبر كلمة «ميلاد» باحثا عن دلالات يمكن تطبيقها على واقع أشمل، ولعله أجمل في المقبل من الأيام. فالميلاد، فضلا عن قدوم طفل جديد على وجه الأرض، يحمل دلالة الانطلاقة الجديدة، التي لا تعني التفافا على ما سبق، بل حثا على تحويل «زمن مضى وزمن حاضر، وزمن لم يأت بعد» (العبارة لسيبويه) إلى منابع ملهمة، على الرغم من الصعوبات، لفرص جديدة.
فاستخلاص دروس الماضي، للنظر في آفاق غير مطروقة ميلاد. كما هو ميلاد انتقالنا إلى أنماط وسلوك، نتجت عن وضع موضوعي، فرض تحولات قياسية اعتقدنا أنها فوق طاقاتنا، وها نحن نرى، على الرغم من المعضلات التي نواجهها، ورغم الأشواك المرزوعة في الطريق، التي لا نزال مقبلين على الترخص معها، لا التخبط فيها، أننا دخلنا، ولو مضطرين، عالما ينتظرنا فواعل وليس مفاعيل. حتى في أصعب اللحظات، الميلاد يعني التفاؤل، لكن التفاؤل الفاعل: بعبارة أخرى، الإيمان بأن المستقبل ليس عليه ختم يغلق منافذ الإبداع غلقا، بل العكس كل ميلاد يفضي إلى أبواب، قد تكون مواربة، صحيح، ولكنها أبواب تبحث عنا، وعلينا البحث عنها.

قد نجد أبوابا مغلقة، لكن دائما تطل أبواب أخرى، ودائما تأتي لحظة نستشعر فيها انفتاحا، لكن كثيرا ما نفوت الفرص

في المطلق، لا توجد مآزق، قد نجد أبوابا مغلقة، وقد تكون كثيرة، لكن دائما تطل أبواب أخرى، ودائما تأتي لحظة نستشعر فيها انفتاحا، لكن كثيرا ما نفوت الفرص. ثمة ظروف موضوعية لا نملك التأثير فيها، لكن في الوقت نفسه لدينا قدرة على خلق الفرص بدل تفويتها، وما أكثر الفرص صمودا وتحولا إلى مشاريع تحققت، رأت النور على خلفية لا تعد ولا تحصى من العقبات. دائما أتذكر الكاتب الفرنسي أندريه جيد حينما عرف الفن كوليد الإكراهات.
لمن يحتفل بعيد الميلاد دينيا، الميلاد نور، لكن الميلاد نور عضوي أيضا، الميلاد البيولوجي، الميلاد الديني، وبادءا ذي بدء في كل ميلاد، ميلادنا الشخصي كفرد وكبشر. ليس الميلاد مجرد مناسبة، وهو ما ننساه.. الميلاد نهج وسلوك، قدرة على التأقلم وعدم التسليم. يأتي الميلاد بعد المخاض، والمخاض بدوره متعدد الأبعاد. فالمخاض البيولوجي مجرد حلقة من سلسلة مخاضات متواصلة ومتوارثة، تلك التي تكون جهدا. الميلاد وليد المخاض. نجده مثلا عندما تنجح مفاوضات، مثل تلك التي أوصلت إلى بريكست باتفاق. الميلاد إطلالة جديدة على نجاح لم نتوقعه سريعا، مثل قدوم لقاح. الميلاد نور وأمل وجهد ومثابرة. فلنجعله شعار تفاؤل لا تخبو جذوته.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية