ميّ زيادة وآل الأمير عبد القادر الجزائري

كتبت مي زيادة مرة في إحدى رسائلها إلى إميل زيدان (إن لمخطوطات الموتى ثمنا لا يقدر) وقد قامت سلمى الحفّار الكزبري منذ زمن بنشر وتحقيق رسائل مي إلى أعلام عصرها ورسائلهم إليها من 1912 إلى 1940، وهي رسائل مخطوطة لم تنشر من قبل كاملة، وقد تطلب منها ذلك جهد عشر سنوات والسفر إلى مصر ثلاث مرات للقاء من في حوزته هذه الرسائل، وإن كان بعض هذه الرسائل قد نشرها جزئيا بعض الكتاب أو الشعراء والمثقفين، كل في ما يخصه ويحوزه، لكن نشرها كاملة هو عمل لم تُسبق إليه سلمى الحفّار الكزبري، وهي بذلك قد أسدت خدمة جليلة إلى الأدب العربي الحديث، وإلى مي زيادة خاصة، لكشف أدوار حياتها وعلاقاتها بأعلام عصرها، وأزماتها النفسية والأسرية التي أودت بها في النهاية.
في الكتاب خمس رسائل تبادلتها مع الأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر الجزائري وزوجته زهرة، أو زهراء، كما تسميها مي، والأمير محمد سعيد الجزائري حفيد الأمير عبد القادر والأمير مختار الجزائري، وهي رسائل تكشف عمق الأواصر التي ربطتها بهذه الأسرة المجاهدة والمثقفة الجزائرية الأصل الشامية المسكن.
تثني سلمى الحفار الكزبري في المقدمة على الأميرة نجاة مختار الجزائري، فقد زودتها برسائل والدها وعمها الأمير خالد ووالدتها وخالتها الأميرة سامية وزهراء الجزائري (ولا يسعني إلا أن أخص بالشكر العميق الأميرة نجاة مختار الجزائري التي زودتني بصور عن رسائل مي إلى والدها وعمها الأمير خالد ووالدتها وخالتها الأميرتين سامية وزهراء الجزائري).
ومن بواكير مراسلاتها مع آل الأمير عبد القادر الجزائري، رسالة الأمير محمد سعيد الجزائري حفيد الأمير عبد القادر بتاريخ 23 تشرين الثاني/نوفمبر 1921 (أما وأن رسالتك الكريمة قد قرظت عبد القادر، كما ينبغي أن يقرظ المفادي لخير بلاده) وشكرها على إهدائها كتاب مي «ابتسامات ودموع». وأهداها عباءة شرقية وقد تضمنت الدعوة إلى زيارتهم، كلما حلت بدمشق (لا ريب أن بيتي الذي هو بيت عبد القادر الكبير نفسه، إذا حلت به ركاب نابغة الشرق والغرب التي عشقتها الأذن قبل العين).
ورسالة ثانية وجيزة بتاريخ 15 أيلول /سبتمبر1922 بعث بها الأمير محمد سعيد إلى مي يدعوها إلى عشاء وسهرة مع إرسال السيارة إليها. ويرجع إلى زمن إعجاب أسرة الأمير خالد بمي نابغة الشرق وأميرة البيان العربي، التي أضاءت في الشرق ككوكب يشع بأفانين البيان وهمسات الوجدان وسبحات الخاطر، مما لم يسبق لفتاة شرقية أن فعلته، وهي الأديبة المتقنة لخمس لغات (الفرنسية والإنكليزية والألمانية والإسبانية والإيطالية) وكان الأمراء والأميرات قد أعجبوا ببيانها الساحر وخيالها الخلاق وموهبتها الفطرية وقلبها للصورة النمطية عن الفتاة في الشرق، فهي الفتاة الطامحة المعتدة بأنوثتها الباحثة عن الندية والتناغم في العلاقة، لا علاقة الإلحاق والاستتباع والملكية، وهكذا توثقت الصلة بين مي وآل الأمير خالد الجزائري، لدرجة أن مي زيادة كانت تنزل عليهم ضيفة في لبنان وتلقى من صنوف الترحاب وآيات المودة والإكبار ما كان ينسيها ويخفف عنها وطأة الحياة، خاصة بعد رحيل والديها ودخولها في أزمة شديدة بسبب أقربائها، الذين نجحوا في دعوى الحجر والاستحواذ على أشيائها وممتلكاتها، متهمين إياها بالجنون، لولا أن نجح المحامي مصطفى مرعي في المرافعة عنها وإنهاء الحجر عام 1939. وبدورها كتبت مي رسالة إلى الأمير خالد الذي توفي عام 1936 وجاء فيها ما يؤكد علاقة المودة وأواصر التقارب الروحي والفكري والوجداني بين مي وأسرة الأمير خالد والتقدير المتبادل (مصر بعيدة عن بيروت بيد أن ذكراكم من القرب إليّ بحيث تحيا معي، وكم من مرة أغمض عيني ناسية أني هنا لأتخيل أني ما زلت مقيمة في بيتكم الرفيع العماد، بيت المجد الطريف والتالد، فوق كل ما نعمت به قبلا منذ أن كنت في المستشفى الذي كان للأسرة الجزائرية وأنسبائها اليد الطولى في نقلي منه إلى بيتي، كل ما نعمت به من مظاهر النخوة والإغاثة والأريحية مما يكمن في تعريفه أن ينعت بالجزائري لصدوره عن أحفاد بطل الشرق العظيم وحفيداته).
وكان لأسرة الأمير خالد وأسرة الأمير مختار موفور العناية والرعاية لمي، خاصة في محنتها في لبنان ودخولها المستشفى، فقد ساهمت الأسرة الجزائرية في إخراجها منه وإعادتها إلى بيتها في مصر، وقد رافقتها في رحلتها الأميرة زهرة حرم الأمير خالد والأميرة سامية حرم الأمير مختار حتى لا تشعر بالوحشة والوحدة في شقتها، خاصة بعد نكبتها العائلية برحيل والديها وتكالب الأقارب عليها وأزمتها النفسية والعصبية، وقد ذكرت مي في رسالتها أن شقتها المتواضعة أصبحت قصرا منيفا بتشريف الأميرتين، وهي تطلب من الأميرة زهرة أن تكتب إليها، وكذا الأميرة خديجة كما تطلب من الأبناء والأحفاد أن يكتبوا إليها ويحدثوها عن دراستهم، فهي تنتظر مراسلاتهم وتفرح جما بكلماتهم (هنا مهما ترامت بي الأبعاد أحسب نفسي دائما معكم وبينكم ومع ذلك أشتاق إليكم). وتستكتبها كما تستكتب الأميرة خديجة والأمراء عزيز، عبد القادر وعبد الرحمن ونزار وتطلب إليهم أن يحدثوها عن دراستهم.
وتخبرهم في هذه الرسالة أنها حصلت على عود وهو ليس كالعود القديم لكنه يطرب لتجديد ليالي السمر، وكذلك راديو يحتاج إلى أنامل الأمير خالد لضبط موجاته، كما كان يفعل مع الراديو الخاص بالعائلة في لبنان (يبدو أن أسرة الأمير خالد كانت تملك سكنا في لبنان، وتنزل فيه من حين لآخر لقضاء بعض الوقت للاستجمام). وهذا كله يعكس درجة المودة والعفوية والقرب بين مي وهذه العائلة المجاهدة الحسيبة، فقد وجدت فيها عوضا عن عائلة راحلة وقرابة ظالمة ونكبات تترى، قصمت ظهرها وأدنتها من نهايتها الفاجعة. ورسالة مي إلى الأمير مختار بتاريخ 16 آذار/مارس 1939 والأمير مختار الجزائري هو ابن الأمير عبد العزيز بن الأمير حسن الجزائري شقيق الأمير عبد القادر الجزائري، وقد قام الأمير مختار مع حرمه الأميرة سامية وشقيقه الأمير خالد وحرمه الأميرة زهراء بدور المنقذين لمي، إبان مأساتها في لبنان 1936/ 1939.
وبالمناسبة فالورق الذي كتبت فيه الرسالة هو هدية من الأمير مختار وهي تشكره على مرافقة حرمه الأميرة سامية وحرم أخيه خالد الأميرة زهرة، أو زهراء لها في عودتها إلى القاهرة وتفقدها في شقتها القديمة، وهي تشكو من تعبها في البحث عن سكن جديد، بعد أن صارت حرة كما تقول أمام البنوك ودوائر الأعمال بعد رفع الحجر عليها وصدور الأوراق بذلك (بخجل شديد أطوي خطابي هذا على ورقة صغيرة أرجو أن تمتنّ عليّ بقبولها ،أأفي هذا الدين النقدي والدين الأدبي لا يحد ولا يحصر؟ ألا بورك فيك يا سليل البطل العظيم وبورك في الدم الشريف الذي يجري في عروق الأسرة الجزائرية المبجلة) وترسل التحايا تترى إلى الأميرتين أمينة وحفيظة. كما تعلمه أنها متعبة مجهدة من البحث عن سكن لائق جديد، وواضح أن الأمير قدم سلفة لمي أعادتها إليه مع الرسالة شاكرة فضله. وللأسف فإن مي زيادة التي وصفها ولي الدين يكن بدولة الإلهام، وخليل مطران بفريدة العصر، ويعقوب صروف بالدرة اليتيمة، والرافعي بسيدة القلم العربي في التاريخ كله، وشكيب أرسلان بنادرة الدهر، وأنستانس ماري الكرملي بحلية الزمان، وشبلي الملاط بنابغة من بلادي، لم تسعفها هذه الألقاب التي تنم عن عظيم احتفاء وجليل تقدير لشخصها ولأدبها وقد كرست طريقا جديدا في الأدب النسائي الحديث يرى في تقليد أسلوب الرجل ومضامينه الفكرية قتلا للأنوثة ولهواجسها الخاصة وأفكارها الفريدة، بما هي امرأة وليست رجلا، فالذكورة تتناغم مع الأنوثة لكن لا تكون نسخة عنها. وهكذا عاودتها الأسقام وتناوشتها التباريح واستبد بها العجز والقهر والشعور بالاضطهاد، فماتت وحيدة في المستشفى عام 1941.
تكشف رسائل مي إلى آل الأمير خالد والأمير محمد سعيد والأمير مختار جانبا خفيا في علاقة الأسر الجزائرية النازحة إلى الشام وعلاقتها بالأوساط الأدبية والفكرية واشتغالها بالفكر والأدب، فضلا عن الإصلاح والسياسة في المحيط العربي عامة والمشرقي خاصة، وكان لدور الأمير عبد القادر فضل في توقيف مذبحة المسيحيين في الشام، وجلب له ذلك تقديرا عالميا وصيتا لا نظير له والشيخ طاهر الجزائري علاّمة الشام ودوره في الإصلاح، وسليم الجزائري وهذا غيض من فيض، فالهجرة الجزائرية إلى الشام بدأت مع الاستعمار الفرنسي، واشتدت أيام فشل المقاومات الشعبية، فانهارت بذلك البنيات الاجتماعية والزراعية والاقتصادية في الأرياف الجزائرية، فاضطرت الأسر الجزائرية إلى مغادرة بلدها في اتجاه الشام، وكثير منها استوطن في دمشق وريفها، وبعضهم في لبنان وبعضهم الآخر في فلسطين، وفي القدس حي يعرف بـ«حي المغاربة» وأشهر الهجرات الجزائرية إلى الشام الهجرة التلمسانية عام 1911.
ومن الأسر النازحة من اختارت مصر والشيخ محمد الخضر حسين خير مثال على ذلك، فقد نزحت أسرته من الجزائر إلى تونس ثم مصر وترقى الشيخ محمد الخضر حسين في المناصب حتى أصبح شيخ الازهر (1952/1954).

كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية