دراسة معاني الكلمات وعلاقتها بما تعيّنه من أشياء أو مواضيع اشتغل به المناطقة قبل أن يوجد علماء الدلالة الذين اهتموا بهذا المبحث في اللسانيّات. لكنّ المناطقة واصلوا دراستهم وكأنّ شيئا لم يكن وواصل علماء الدلالة الاستفادة منهم وكأنّهم أعوان لهم. ما يعجبني من أمثلة علماء الدلالة أنّهم ربما بسّطوا علينا العسير من قضايا علماء الدلالة مثلما يفعل المناطقة حين يعمدون إلى أمثلة بسيطة يشقّقون بها ما استعظم من المسائل، ونحن سنعمد في هذا المقال إلى طرقهم في بيان ركن مهمّ اشتغل عليه الطرفان هو العلاقة بين الكلم وما تحيل عليه في الخارج، خارج اللغة.
عادة ما يستعمل علماء الدلالة مثالا يميزون فيه بين معنى الكلمة ومرجعها، وهو مثال الكلب، يقولون إنّ الكلب كلبان: كلب ينبح ويعضّ وآخر لا ينبح ولا يعضّ الأوّل هو الكلب المرجعيّ أي الذي نجده في الحياة يوميّا أمامنا، والثاني هو الكلب اللغوي الذي أتحدّث عنه هنا وأكتب عنه هذه الكلمات. هنا سيتوقف من يخلطون بين الكلبين طويلا لاعتقادهم مثلا أنّ الكلب المرجعيّ هو الكلب اللغويّ وأيضا سيتوقف هنا من يعتقدون أنّ المسألة بديهيّة فلماذا تثار؟ أكتفي بأن أقول هنا إنّ مسألة الإحالة باب عظيم في التفكير المنطقيّ وبنيت عليها كثير من القضايا المهمّة ليست هذا مجال الخوض فيها.
لنشرع على طريقة الدلاليين المختلطة بطريقة المناطقة في الحديث عن الكلب، الكلب بما هو جنسٌ من الموجودات لا تصبح له قيمة إلاّ إذا أحال المتكلّم عليه في كلامه: فالموجودات الخارجية لا تعنينا في اللغة بما هي كذلك، إلاّ إذا أحلنا عليها في كلامنا. والإحالة على الكيانات يمكن أن تكون باعتبارها مقولاتٍ عامّة كأن نحيل على الكلب على أنّه حيوان ثدييّ من فصيلة الكلبيّات؛ ويمكن أن تكون الإحالة عليها باعتبارها أنواعا من نوع (السلوقي، كلب جارنا، الكلب بيل صديق سيباستيان). عادة ما يميز المناطقة بين الإحالة والتعيين أو الإشارة وتعني الإحالة أنْ ينتقي المتكلم أثناء الحديث عناصر من الكون يحيل عليها دون غيرها ويسمّى الكيان الخارجي عند الإحالة محالا عليه، بينما يعني التعيين علاقة ثابتة بين العبارة اللغويّة وما تعيّنه بقطع النظر عن استعمالاتها فهي لا تتغير بمرور الوقت على النقيض من المحال عليه. ففي تسميتي الكلب بيل صديق سيباستيان، أحلت على كيان فريد يسمّى إحالة مفردة وهي عبارة عن علاقة بين كلمة وكيان معين في الكون، وهذا الكون ليس الواقع، بل السينما أو الخيال. لكنّ الإحالة على جنس تكون إحالة عامة. الإحالة الفريدة يمكن أن تلحظ في الأسماء الأعلام مثل (كُليب اسم علم) والعامة في أسماء الجنس (من نوع كلب) لكنّ هذه القسمة الثنائية تبدو مشكلة في بعض الأحيان، لأنّ الإحالة في أسماء الأجناس على مفرد مربكة ففي قوله تعالى في سورة الأعراف (176): (فَمَثَلُه كمثل الكلب إن تحمِلْ عليه يلهثْ أو تتركه يلهث) فإنّ عبارة (كلب) قد عيّنت اسم الحيوان المعروف، وهي من جهة الإحالة بدت وكأنّها من الإحالات العامّة بحكم أنّها تعين نوعا عامّا من الحيوان لكنّ عبارة (إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) عدّلت في أذهاننا هذا الشيوع في الإحالة، لأنّها لم تحل على كلّ متصوّر الكلاب، بل على خصيصة في نوعه العامّ وهو كثرة اللهاث وإخراج لسانه من التعب والعطش، سواء أطرد أم لم يطرد. ما فعلته هذه العبارة أنّها عدلت بالإحالة، من إحالة عامة يمكن إدراكها بالمعرفة العامة للكلب، إلى ضرب من الوصف المخصوص بهذا النوع وهو اللهاث.
لنشرع على طريقة الدلاليين المختلطة بطريقة المناطقة في الحديث عن الكلب، الكلب بما هو جنسٌ من الموجودات لا تصبح له قيمة إلاّ إذا أحال المتكلّم عليه في كلامه: فالموجودات الخارجية لا تعنينا في اللغة بما هي كذلك، إلاّ إذا أحلنا عليها في كلامنا.
وأمر آخر في هذا المثال هو أنّنا لم نعد نحيل على معرفة بالحيوان عامّة ومشتركة ومتقاسمة بين جميع الناس، كما هو شأن النباح والعضّ إلى سمة ليس لها التقاسم العامّ الذي للسمتين وهو اللهاث. من الناحية الإدراكية فإنّ النباح والعضّ هما سمتان محال عليهما مباشرة لكنّ اللهاث هو سمة لا يحال عليها، إلّا إذا ذكر ذلك السياق. هي ليست سمة مثل السمات الثقافيّة التي تسندها الثقافة إلى حيوان رمزيّا مثل الوفاء، لكنّها سمة حسيّة مباشرة لا تحضر عند عملية الإحالة، وليست هي جزء من التسمية مباشرة، أو لنقل بلغة المناطقة ليست من شروط الكلب الضروريّة والكافية. الفرق بين الإحالة على مفرد والإحالة على جمع، أنّ الإحالة على مفرد يمكن أن تتعيّن بواسطة عبارة دالة على التعريف أو الكمية كقولنا: (بعض الكلاب) أو قولي حين أعني كلبا معيّنا (الكلبُ)؛ أمّا الإحالة العامة ليس فيها هذا التعيين الكمّي، بل هي تعيّن جنسا بأكمله، لكنّ الآية أعلاه عينت شيئا لا هو جنس عامّ ولا هو بعض من ذلك الجنس، بل عيّنت بعضا من خصائص ذلك الجنس هي التي أفرد الحديث عنها في القرآن للحطّ من قيمة ما سيق لأجله المثل، وهو التسوية بين أن يعبد المنافق أو لا يعبد فهو ضالّ، وليس كلامه إلا عادة ونفاق كما اللهاث عادة في الكلب وجبلّة وطبع. الحقيقة أنّ للإحالة معنى عامّا في اللغة، وهو أن تقدر باللغة أن تحيل على خارجها وهو الكون بما فيه من أحداث وأشخاص وعلاقات وأفكار وغيرها. وهنا يمكن أن نربط بين الكلمات أو التعابير المحيلة في اللغة من ناحية، والأشياء والكيانات التي تحيل عليها في الكون بواسطة ما لدينا من تصوّرات عن الكون وكياناته. في هذا السياق فـإنّ التمثيلات التي صنعتها الآية السابقة هي غير التمثيلات التي لدينا جميعا عن الكلب. فإن يربط الكلب ولو رمزيّا باللهاث فإنّه يجعل هذه السمة حاضرة في ثقافة دون أخرى مثلما تحيل عبارة حمار في الثقافة الدينية على «حمل الأسفار» دون المعرفة بها. إنّنا بذلك نقول إنّ الإحالات المرجعية الثابتة لا تكفي لكي تزوّدنا بالسمات الدلالية التي لكلمة كلب، بل عليها أن تعضد بالإحالات الثقافية التي نجدها في النصوص المقدّسة والأشعار والأمثال وغيرها. ففي بعض الأمثال الفرنسية القديمة مثل يقول، إنّ الكلاب التي تنبح لا تعضّ، هذا المثل لا يحيل على تجربة معينة نقول بمقتضاها مثلا إنّ الكلب الفرنسي إن نبح لم يعضّ لكنها تنقل لنا رؤية ثقافة مخصوصة، بناء على تجربة عاينتها، بينما لم تجد ثقافة أخرى معاينتها أمرا مفيدا. وهذا التمثيل الإحالي على سلوك الكلاب مفيد في فهم طابع القول الرمزي الذي يعني أنّك لن تتوقع خطرا من مكثر حديث، وأنّه يمكنك أن تعبر نهرا هدارا ولا تعبر نهرا صامتا كما نقول في المثل التونسي.
إنّ الإحالات محكومة بما يسمّى نقطة الإحالة، التي تجعلنا حين نتذكر الكلب نحيل على سمة طرازية فيه وهي كونه ينبح مثلا، فالنباح هو نقطة الإحالة المركزية، أو الطرازية للكلب في ثقافة يسود فيها التركيز على نباحه، فإن ركزت على لهاثه كان اللهاث النقطة المرجعية المركزية، وتظلّ البقيّة نقاطا ثانويّة أو هامشية. إنّنا لكي نمقول حيوانا مثل الكلب لا نحتاج أن نخزّن عنه كلّ سماته، بل ربّما اخترنا من تلك السمات الأساسيّ أو المرجعيّ، وبعد ذلك نترك للثقافة وللسياق أن يحدّثنا عن بقية تلك السمات. فالمثل العربي «سمّن كلبك يأكلك» التي تحيل على عضّ يد من أطعمتنا ؛ يصبح فيها العضّ النقطة المرجعيّة الأساسيّة لتمحو سمة رمزية في الكلب هي الوفاء. وقس على هذا المثل العربيّ الذي يركّز على نقطة إحالة ويسقط غيرها قول بعض الأمثال: الكلب يظلّ كلبا ولو ربّته الأسود، أو قول بعض المتأدّبين: من يعامل كلبه معاملة البشر يعامله معاملة الكلاب. نصل هنا إلى أمر آخر لا علاقة له بالمرجع بل بالمنظار الذي تنظر فيه إلى غيرك: نحن ومعانينا في النهاية زاوية نظر. عندها لا معنى لأن يعضّ الكلب أو ينبح أو يلهث، سيكون المشكل في البحث عن المرجع الذي يحيل بصدق على المعنى وسيكون السؤال: من الكلب ومن مالكه؟
أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسيّة