ترجمة وتقديم عبد المنعم الشنتوف
في التاسع والعشرين من أغسطس/آب عام 1987 لفظ رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي أنفاسه الأخيرة، بعد غيبوبة استمرت سبعة وعشرين يوما، متأثرا بالطلق الناري الذي أصيب به تحت عينه اليسرى. كان العلي حينها في الخمسين من عمره، وقد أصبح أحد الرموز الإبداعية القوية والأكثر إثارة للجدل، ليس فقط للشعب الفلسطيني وقضيته، وإنما لشرائح واسعة من المقهورين والمهمشين وضحايا الاستبداد داخل العالم العربي. وفِي هذه المقالة التي نقدم ترجمتها عن الأصل الإسباني، يقترح بيدرو روخو مدير مؤسسة الفنار، التي تعنى بترجمة الأدب العربي إلى لغة ثيرفانتيس والمشرف على مجلة «أفكار» الناطقة باسمها، قراءة استكشافية لسيرة وتجربة وأثر ناجي العلي، منذ ميلاده في الجليل قبل الاجتياح الصهيوني مرورا باستقراره صحبة أسرته في مخيم عين الحلوة في بيروت، وانتهاء باستشهاده في العاصمة البريطانية لندن.
النص
تعتبر الرسومات ذات الحمولة السياسية الساخرة سلاحا رئيسا لجأت إليه المجتمعات في النصف الثاني من القرن العشرين، بهدف عكس بعض الأفكار أو الأطروحات والوضعيات المثالية، أو انتقاد وفضح أشكال ومظاهر الظلم والجور، والسخرية والحط من شأن الطغيان والاستبداد ورموزه. وبهذا الصنيع ينصب رسامو الكاريكاتير ذواتهم ناطقين باسم المضطهدين، وضمائر للأوطان التي ينتمون إليها، خصوصا في الحالات القصوى، مثلما هو الشأن بالنسبة للشعب الفلسطيني.
شكّل إبداع الشخصيات موضوعا رئيسا بالنسبة للعديد من فناني الكاريكاتير الفلسطينيين. ليس فقط في ما يتعلق بجانب الخصم لهم، بوصفهم أهدافا لسهام نقدهم، وإنما لغاية تجسيد قيم ووضعيات ذات سمات خاصة. وتتميز الرسومات الفلسطينية في هذا السياق بفرادتها، باعتبار الحضور الدال للطفل الفلسطيني الذي يحمل اسم حنظلة، الذي أبدعه ناجي العلي، والذي تجاوز ببعيد مجال الفكاهة المصورة، كي يصبح رمزا لصراع الشعب الفلسطيني من أجل الحرية واستعادة حقوقه.
يؤكد بعض محللي الخطاب الفكاهي السياسي من أمثال فيكتور راسكان وشارل بريس أهمية الرسومات الكاريكاتيرية السياسية، باعتبارها حلقة وصل بين المجتمع المجهول والمغيب وقادته السياسيين الأكثر انتشارا وشهرة. يقوم راسكين بتقسيم موضوعات الهجاء السياسي إلى ذوات مشخصة، وذوات تهاجم جماعة أو نظاما سياسيا باعتباره وحدة كلية. ويدافع رسام الكاريكاتير باتريك أوليفان الحائز جائزة بوليتزر على الفكرة التي مؤداها أن الرسومات الكاريكاتيرية الساخرة في حاجة إلى «أشرار». لكن وعلى الرغم من قدرة الفلسطينيين على أن يقدموا بوفرة أكثر من نموذج لهذا «الشر» فإن تاريخ الفكاهة السياسية الفلسطينية اكتسب قوته بالاستناد إلى التصور الثاني لراسكين. كنّا أميل في البداية صوب الموضوع الجماعي، لكي نتطور عقب ذلك، وإلى حدود أيامنا هاته صوب التصور الأول لباتريك أوليفان، حيث لا مندوحة لرسومات الكاريكاتير عن أشرار فعليين. ولَم يصل هذا التطور إلى الشخصيات العربية موضوع السخرية السياسية، التي ظلت في غالبيتها مجردة أو ذات طابع جمعي بتأثير الخوف من الرقابة. كان ناجي العلي يرسم إسرائيل في شكل جندي تعلو خوذته نجمة داود، والأنظمة العربية في صورة رجل بدين أو قنينة كحول تزينها الحروف الأولى للولايات المتحدة الأمريكية. ولَم يكن يوظف إلا في القليل النادر رسومات كاريكاتيرية لإسحاق شامير، أو رونالد ريغان، أو الرئيس المصري المغتال أنور السادات، وهو في قبره وعلى الشاهدة: مات دفاعا عن إسرائيل، فيما عدد من الزعماء العرب يتطلعون إليه وهم يرددون: هم السابقون ونحن اللاحقون. ومع استمرار الصراع العربي الإسرائيلي واطراد تعقيده، شرع رسامو الكاريكاتير الفلسطينيون في إقامة حدود فاصلة بين الجيش الإسرائيلي ورجال السياسة والشخصيات الفعلية الواقعية، من قبيل أرييل شارون، أو جورج بوش، الذي يعتبر أكثر الشخصيات عرضة للهجاء السياسي الساخر من لدن فناني الكاريكاتير الفلسطينيين.
ولد ناجي العلي عام 1936 في الجليل استقر صحبة عائلته في مخيم اللاجئين الفلسطينيين في عين الحلوة في لبنان هربا من قوات الجيش الإسرائيلي. وقد شرع منذ نعومة أظفاره وبطريقة مهووسة في رسم بعض الشخصيات التي كانت تتمحور جميعها حول اللاجئين المقتلعين من جذورهم. وخلال إحدى زياراته للمخيم أعجب غسان كنفاني بعمله وقرر أن يستقدمه إلى الكويت للعمل معه في مجلة «الحرية». ومنذ ذلك التاريخ وإلى حدود اغتياله في لندن عام 1987 لم تتوقف شعبيته عن النمو. وقد أسهمت انتقاداته اللاذعة لإسرائيل وأجهزة منظمة التحرير في تكثيف اللبس والغموض في ما يهم منفذي عملية الاغتيال. كان حنظلة رمز هويته الإبداعية وهو يجسد طفلا فلسطينيا بائساً وفقيرا بقدمين حافيتين وثياب بالية، ولا يواجه القارئ بذراعين غير معقودتين خلف ظهره إلا في رسومات نادرة. يتعلق الأمر فقط برسمين غير منشورين يعود تاريخهما إلى عام 1986 وصدرا عام 2007 في الكتاب الذي يحمل عنوان «كاريكاتير ناجي العلي 1985-1987» وفي هذين الرسم بدا حنظلة وهو يواجه لأول مرة القارئ، منهيا بذلك الأسطورة التي كانت سائدة في أنحاء العالم العربي والتي مؤداها أن حنظلة لن يواجه جمهور القراء الا بعد تحرير فلسطين. كان ناجي العلي واضحا في ما يهم تفسير وتبرير اختيار مواضيعه في كتاب «الهدية لم تصل بعد» حيث يقول: أفضل ان أتكلم عن ظروف ومواقف اجتماعية أكثر من الزعماء والقادة. لم يترك التزامه بالقضية الفلسطينية أي مجال للابتسامة، وحيث تكتسي الفكاهة بدورها في رسوماته طابعا مدمرا. يتأسس أسلوبه الخاص بشكل حصري على توظيف اللونين الأبيض والأسود كي يكثف المعنى الدرامي والمأساوي، وبطريقة تجعل قوة هذه الرسومات الكاريكاتيرية متأسسة على الكتلة السوداء، التي ما تفتأ تتقوى وتدعم بالبياض وليس بالخط، وهو ما يذهب إليه الرسام الإسباني خافيير كارباخو .
تنوعت طريقة الاقتراب من الموضوعات بدورها وتطورت مع الزمن. فبعيدا عن استخدام وتوظيف إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية بوصفهما رمزين للشر، فإن الرسامين الفلسطينيين لم يتوقفوا البتة عن انتقاد القادة العرب والفلسطينيين.
يبدو من الصعب أن تكون على يقين في ما يهم الأعمال التي خلفها ناجي العلي والتي يقدرها نجله خالد باثني عشر ألف رسم. بيد أنه في ما يهم الجانب المنشور والمتاح للعموم، فليس ثمة هدنة للمشاهد التي يراقبها ويلاحظها حنظلة: أطفال ذوو سحن وهيئات غريبة مفارقة للواقع، وما يميزها أفواه مفغورة من فرط الجوع ومحاطة بالخراب والأطلال، ونساء جريحات يحاولن النهوض بالاستناد إلى عصي ويحملن باليد الأخرى حنظلة. مؤامرات ومكائد القادة العرب ضد الفلسطينيين. خريطة فلسطين التاريخية وهي تتقلص مع مرور السنين. ووحدها المشاهد التي تظهر حنظلة صحبة أطفال آخرين وهم يرشقون إسرائيل بالحجارة، تتيح ظهور هالة ضوء على وجوه المقاومين الفلسطينيين وتسمح بتسلل بعض النور إلى رسوماته الغامقة.
تستشرف الرمزية التي تكتسي أهمية بالغة عند فناني الكاريكاتير حدودها القصوى عند الرسامين الفلسطينيين. وقد ترك ناجي العلي أثرا عميقا سوف يحافظ على استمراره عند كثير من الفنانين الذين أعقبوه. تفصح الكوفية الفلسطينية التي تغطي رؤوس الرجال عن حضورها، خصوصا عند الفنان أبو محجوب، الذي ينشر رسوماته في جريدة «القدس العربي» والثياب البدوية التقليدية التي ترتديها فاطمة الشخصية النسائية الرئيسة لناجي العلي هي ذاتها التي ترتديها أم العبد التي ترمز إلى حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، تشكل جزءا من توقيع وبصمة أمية جحا. ولا ننسى أيضا العلم الفلسطيني والخريطة التاريخية لفلسطين التي تشكل من بين رموز أخرى جزءا لا يتجزأ من سيرورة تجريد المشاعر وعلامات الهوية والأفكار والمبادئ التي تمثل الوعي الجمعي للشعب الفلسطيني. ومع اطراد ظهورها في رسوماتهم فقد اضطلع فنانو الكاريكاتير الفلسطينيون بمسؤولية تدعيم وتقوية حضورها.
تنوعت طريقة الاقتراب من الموضوعات بدورها وتطورت مع الزمن. فبعيدا عن استخدام وتوظيف إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية بوصفهما رمزين للشر، فإن الرسامين الفلسطينيين لم يتوقفوا البتة عن انتقاد القادة العرب والفلسطينيين. وبصرف النظر عن شخصية حنظلة لناجي العلي، وشخصية أبو عرب للفنان البخاري، الذي يجري استخدامه لتوجيه النقد اللاذع للزعماء العرب، أو أبو فايد، والوجوه العربية التي ترشح بالبهيمية والبلادة لأمية جحا، فإن النقد ظل في الغالب مدمرا، وإن اكتسى طابع التجريد. وترغم وطأة الرقابة الفنانين الفلسطينيين على الرسم بموازاة افتقاد القدرة على التشخيص.
يمارس هذا الضغط في آن من لدن الحكومات العربية ووسائل الإعلام التي تشتمل بدورها على خطوط حمر، يدركها كل رسامي الكاريكاتير، بل إن العديد منهم يحتفظ بحيز مخصص للرسومات المحظورة. من ناحية أخرى كان للفصل الفلسطيني بين قطاع غزة والضفة الغربية بدوره تأثير على الفكاهة السياسية المصورة. فتوقفت رسومات أمية جحا التي كانت تواكب تلك التي أبدعها محمد شبانة في جريدة «الحياة» الجديدة الصادرة في رام الله عن الصدور بعد اتهامها، بموالاة لحركة حماس وفِي إحدى رسومات بهاء البخاري، التي تم حظرها نشاهد شخصية أبو العبد، وهي تنظر إلى البعيد من خلال زوج من النظارات المكبرة فيما زوجته تتابع في التلفزيون مؤتمرا دوليا عن غزة.
أدى تطور الأوضاع الدولية بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول إلى ظهور نوع آخر من الرقابة، أشد خطورة بتأثير هويته المجهولة. كان للتوتر بين الغرب والإسلام والحرب ضد الاٍرهاب، التي جرى فهمها بشكل سيئ وتطبيقها بشكل أسوأ، قد تم إدراكه من لدن العديد من المسلمين بوصفه حربا ضد الإسلام. وهو ما عمق الارتياب الديني للعالم العربي حيال الغرب. غير أن هذا الارتياب لم يخص فقط العالم الغربي، وإنما مارس تأثيرا وضغطا مجهول الهوية، ومن ثم عصيا على التقدير والمواجهة، وهو يتجسد في شكل رسائل إلكترونية وخطابات تهديد موجهة لهيئات التحرير. ويمكننا أن نمثل لذلك بالمسيحيين الذين يشعرون بالصدمة بسبب الركون إلى استعمال رمز الصليب للتعبير عن المعاناة، وهو ما حدث مرات عديدة منذ مرحلة ناجي العلي، أو الضغط الذي يروي لنا عماد حجاج تمثيلاته وتحديدا توصله بدعوة لتغيير رفيق أبو محجوب، الذي اشتهر طوال سنوات عدة باسم أبو محمد. ذلك أن توظيف اسم النبي محمد في رسم ساخر مخل بالاحترام اللازم حيال المقدسات الإسلامية.
ربما بتأثير كل ذلك، وكما يذهب الى ذلك جون سزابو، يعتبر الكاريكاتير المنافس الوحيد للتلفزيون، على الأقل في ما يتعلق بالفاعلية التواصلية والقدرة على التحريض الثقافي للعقل. وفي ما يهم الحالة الفلسطينية خصوصا والعربية عموما، يمكننا القول بأننا نلفي ذواتنا حيال ما يشبه سياسة قص أجنحة، ولجم ألسنة الفنانين الفلسطينيين المجبرين على الالتزام بالحدود الذي تفرضها الرقابة الحكومية، والتابوات الاجتماعية وما يسمى بالصواب الديني.
٭ كاتب من اسبانيا
رحمك الله يا ناجي العلي ومن قتلك قتل الابداع وقتل أنامل النضال الصادق لكنك تبقى رمزا للنضال الفلسطيني بفنك
كانت رسوماته ناطقة ومعبرة عن وجدان المواطن العربي وليس الفلسطيني بحسب. ، في زمن استبداد وقهر للمواطن العربي ، من اغتاله اغتال امال المواطن العربي ، اغتياله كانت خيانة كبرى ،،، له الرحمة