أثار ظهور المطربة نجاة الصغيرة في حفل غنائي في المملكة العربية السعودية كثيرا من اللغط على صفحات السوشيال ميديا، لسبب غريب جدا وهو كبر سنها وتقدمها في العمر ومن ثم حالتها الصحية. ظهور الفنانين المصريين في حفلات الترفيه في المملكة السعودية يثير كثيرا من اللغط دائما. منذ البداية لم أر معنى لهذا اللغط، وقد كتبت عن ظاهرة هذه الحفلات هنا من قبل، ورؤيتي الموضوعية لها كنشاط فني لا أكثر، ومن ثم سأبتعد عن هذا كله، وأتحدث عن نجاة الصغيرة المطربة ذات الصوت الشجي، التي أسعدت أجيالا من خلال ما رأيته ومررت به من أحداث.
لم تكن أغاني نجاة هي أغاني البهجة فقط، ففي صوتها شجن طبيعي، ومن ثم كانت أغانيها هي زاد المحبين في لحظات القلق أو الفراق. لا أنسى طفولتي في الخمسينيات وسهري أحيانا مع أختي الأكبر مني بين صديقاتها من الجيران يستمعون إلى برنامج ما يطلبه المستمعون، وحين تشدو نجاة أرى العيون قد أغلقت، والوجوه قد شردت، وعلامات الأسى وأحيانا الحزن تتفرق عليها، وأعرف من الكلمات القليلة والحوار المقتضب أن هناك أملا، فأدرك المقصود من عودة الحبيب الغائب. شغلت نجاة مع غيرها من المطربين مساحات من رواياتي، خاصة الجزئين الثاني والثالث من ثلاثية الإسكندرية، وأقصد بهما «طيورالعنبر» و»الإسكندرية في غيمة «. كانت أم كلثوم في مكان وحدها، وكذلك محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، لكن كان دائما الحديث عن عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وشادية وفايزة أحمد وصباح ونجاح سلام وهدى سلطان ثم وردة الجزائرية، لا تبتعد فيه أسماؤهم عن بعضها، حتى صار لكل منهم مكانا وحده. اجتمع أكثرهم معا في أغنية لا تُنسى هي أغنية وطني الأكبر، لكن أيضا غنت نجاة وعبد الوهاب وعبد الحليم أغنية واحدة مثل «لا تكذبي» التي كتب كلماتها كامل الشناوي ولحنها محمد عبد الوهاب. قيل الكثير عن سبب كتابة الأغنية والحقيقة غائبة، لكن الأغنية حين انطلقت بصوت نجاة عام 1962 شغلت الدنيا والناس، لا أنسى في صيف ذلك الوقت وكنت مريضا محتجزا في مستشفى الطلبة لإجراء جراحة لاستئصال الغدة النكفية، وكانت هناك حفلة مذاعة في التلفزيون وكيف جمعونا في صالة المستشفى الصغيرة، ووضعوا مقاعد لنا وجهاز تلفزيون لنشاهد الحفلة. كانت ليلة نسينا فيها أمراضنا. وبالمناسبة مستشفى الطلبة في منطقة سبورتنج في الإسكندرية كان اسمها الشائع المستشفى الإسرائيلي، وهو مستشفى صغير أقامه يهود الإسكندرية قبل 1952 وكان للجميع، ثم تغير اسمه وصار للطلبة فقط.
من أغاني ذلك الزمن التي مشت مع الأجيال الشابة بالبهجة تملأ الفضاء أغنية «بان عليْ حبه من أول ما بان» التي غنتها عام 1958 في فيلم «غريبة» الذي شاركها فيه أحمد رمزي. الأغنية من كلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل، الذي كان من أهم من أدرك إيقاع صوتها. من الصور الجميلة كما عودنا صلاح جاهين قولها:
«من خوفى عليه ما بنمشى وافرش له طريقه برمشى
هنانى وهواه ما رحمشى
شباك الأمل وفتحتة والدنيا جناين تحته»
أما أغنية «غريبة منسية» التي كتب كلماتها مرسي جميل عزيز ولحنها كمال الطويل عام 1958، فصارت كأنها دليل المقهورين في الحب والحياة.
«قريبه منسيه
بعيده منسيه
غريبه من يومى
فى وحدتى ديّا
من يومى مظلومة
من يومى محرومه من كل حنيه»
كذلك كانت «أسهر وانشغل أنا» كانها مونولوج يشمل الأحباء حين ينفردون بانفسهم ليلا، وكانت من كلمات كامل الشناوي وألحان كمال الطويل.
كانت أغنية «أيظن» لنزار قباني، ألحان عبد الوهاب فضاء سحريا جديدا لا يختفي منه اسمها، رغم أن عبد الوهاب نفسه غناها، لكن نادرا ما يذكر أحد غناء عبد الوهاب، رغم أنه الملحن والمطرب العظيم.. صارت الأغنية كأنها نجاة الصغيرة نفسها.
المشي مع أغاني نجاة الصغيرة لن ينتهي، لكني أقف عند أغنية ثم عند حادثة لم أكن اتصور أنها ستحدث لي. أما الأغنية فهي «ناداني الليل» عن حلم جميل بلقاء الحبيب ثم تصحو في الفجر فلا تجد أحدا. تقول كلماتها:
نادانى الليل ورحت معاه وفرجني على دنياه
جميل الليل.. ودنيا الليل
طوالي بخفته عيوني
وكحَّل بالخيال جفني
عرايس الناس زفوني
وتيار الهوا خدني
ولبسني ثياب غالية
نسجها الليل
وطفنا فوق سما عالية أنا والليل
حتى تقول:
وأنا فى عز النعيم كله لقيت الفجر صحاني
لا بدر كان ولا ظله ولا جيت له ولا جالي
صباحي في المحبة لاح
غواني الليل
وحلمي اللي رأيته طواه الليل
عجيب الليل
ودنيا الليل
وأنا والليل
وهي من تأليف ابن الإسكندرية محمد علي أحمد، ومن تلحين زكريا أحمد، وهي من الأغاني المبكرة لنجاة، لكن لا يعرفها الكثيرون. تسللت الأغنية إلى ثلاثيتي «الهروب من الذاكرة» حين سمعها المعتقلون لأول مرة وسط الليل من الراديو المُهرّب معهم، وكان من بينهم عاشق للأغاني فراح يحدثهم عن الأغنية وعن مؤلفها وعن المعاني وصارت محل سلوى لهم عن السهر في ليل لا يمر، لكنها غابت عنهم ولم تعد تذاع وإن ظلت معانيها في القلوب. هذا عن الأغنية التي لا أنساها والتي سمعتها صدفة وأنا أكتب الرواية منذ ثلاث سنوات، وكأن الله أرسلها لي لتتسلل إلى الرواية. أما الحادث الذي أعود إليه فهو عام 2000 وكنت قد فقدت زوجتي الأولى بالسرطان اللعين. كنت شبه ضائع بعد أكثر من عشرين سنة زواج وألفة ومحبة، وجاءتني دعوة من مدينة لاروشيل الفرنسية عن طريق صديقي الرائع الشاعر والروائي جبار ياسين الذي يعيش هناك، من جهة ثقافية لأمضي ثلاثة أشهر تفرغا للكتابة. قلت ستشغلني فرنسا وتساعدني على تجاوز الآلام، لكني أخذت معي شريطي تسجيل بأغاني لنجاة وأغاني لفيروز رفيقتا الليل أيام الشباب. صرت حين أذهب إلى المقهى الذي يطل على ميناء لاروشيل الذي يطل على المحيط الأطلنطي أخذ شريط أغانيها معي، وأطلب من الجارسون الذي كان مغريبا أن يضع الشريط في جهاز الكاسيت. تنطلق أغنيات نجاة بين الحاضرين الفرنسيين بصوت منخفض. يبدون دهشة جميلة سرعان ما تزول وأسمع بعضهم يسأله عنها فيحدثهم بالفرنسية أني أنا المصري الذي احضرها وأحب سماعها. يبتسمون لي ولا يعترض أحد. صرت أفعل ذلك كل يوم تقريبا، وأكتب في رواية وأنا جالس متحد مع ما أكتب وأسمع ولا يعترض أحد. صرت معروفا بصاحب أغاني نجاة الصغيرة. جعلت الليل لفيروز أسمعها في غرفتي، والنهار لنجاة في المقهى تشجياني وتنسياني الآلام.
لقد حدثت الضجة التي لا معنى لها بسبب ظهورها في هذا العمر المتأخر ووقوفها بصعوبة، واعتبروا أنها فعلت ذلك من أجل المال، ولم يسأل أحد نفسه، وماذا يضيركم أن تحصل على أي مال. إن مجرد ظهورها ولو لخمس دقائق فقط في أي برنامج جدير بكل تقدير، هي مشروع الجمال في كل زمن. يحضرني قول مأمون فندي أستاذ العلوم السياسية سابقا في جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة، ومدير معهد لندن للدراسات الاستراتيجية، «إن الضجة حول هذا التكريم فيها «كسر نفس» لفنانه لم تسعدنا نحن فقط، بل أسعدت آباءنا من قبلنا. اتركوا الناس تسعد ولو للحظة في عمرها».
لقد حصلت العظيمة نجاة على وسام الفنون من رؤساء وملوك مثل عبد الناصر وبورقيبة والملك حسين ملك الأردن، وعلى جائزة العويس، ويدعو الناقد السينمائي طارق الشناوي نقابة الموسيقيين لترشيحهالجائزة النيل أعلى الجوائز المصرية، وأنا اضم صوتي إليه فهذا أقل تكريم لها من الوطن.
كاتب مصري