لعل أول ما يتبادر إلى الأذهان عند ذكر عبارة «الأخطاء الشائعة» هي الأخطاء اللغوية، التي من الممكن أن يقع فيها الكثير من الأشخاص أثناء كتابتهم. بيد أن «الأخطاء الشائعة» لا تقتصر على المفردات والتراكيب اللغوية حسب، وإنما قد تشيع في الفروع المعرفية الأخرى كافة أيضاً، بما فيها العلوم الاجتماعية والإنسانية. ومما يؤسف له أن هنالك معلومات تاريخية يتداولها المؤرخون والباحثون والدارسون، ولكنها بعيدة عن الحقيقة كل البعد.
وفي دراستي للمصادر والمراجع التي تُعنى بتاريخ مدينة دمشق، ولاسيما المتعلقة بالحقبة العثمانية المتأخرة التي تقع ضمن دائرة اهتمامي، وقفت على العديد من الأخطاء الفادحة، وكان من أبرزها تلك المتصلة بمدة حكم الوالي العثماني الإصلاحي التنظيماتي حسين ناظم باشا لـ«ولاية سوريا»، التي كان مركزها -عاصمتها الإقليمية – دمشق، وتضم وفقاً للتقسيم الإداري العثماني المُعتمد في الفترة الممتدة بين الشطر الأخير من القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين أجزاء وحسب من «بلاد الشام» أو «سوريا الطبيعية»، وهي ألوية الشام الشريف، وحماة، وحوران، والكرك. ولعلي أشير ضمن هذا السياق إلى أن الخطأ في الوقائع التاريخية لا يقف عند هذا الحدّ، وإنما يتسع نطاقه ليشمل أيضاً بعض الأوهام المتعلقة بإنجازات مزعومة يُنسب إلى هذا الوالي تحقيقها إبان سنوات حكمه لهذه الولاية. وليست الغاية من هذا المقال التقليل من أهمية إنجازات الوالي ناظم باشا، الذي لو لم يكن له من مأثرة سوى تنفيذ مشروع جر ماء عين الفيجة إلى دمشق لكفاه، بقدر ما يرمي إلى تصحيح جملة من الأخطاء والأوهام التاريخية بشأن هذا الوالي، التي وقع فيها الكثير من المؤرخين الذين اهتموا بخطط دمشق وتاريخها.
من هو ناظم باشا؟
ينتمي حسين ناظم باشا إلى الجيل الثاني من رجال «التنظيمات» العثمانية، التي تعد أهم حركة إصلاحية تحضيرية وتمدينية شهدتها الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر. ولد في إسطنبول عام 1854، ونشأ في أسرة عريقة كرجية الأرومة، تعود أصولها إلى مدينة باتومي في جورجيا، وكان والده تحسين أفندي يشغل منصب رئيس ديوان قائد الجيش العثماني (سرعسكر). وبعدما تلقى تعليمه في كل من إسطنبول وقبرص، سافر في بعثة إلى فرنسا لدراسة القانون، وأجاد إلى جانب التركية، الفارسية والفرنسية، ثم دخل بعدئذ ميدان الوظائف الحكومية، فشغل العديد من المناصب الإدارية والسياسية العالية، منها تعيينه متصرفاً لـ«بك أوغلو» التي تقع على الجزء الأوروبي من العاصمة إسطنبول، وناظراً للضبطية (وزير الأمن العام)، ووالياً على بيروت مرتين، ووالياً على سوريا ثلاث مرات، ووالياً على جزائر بحر سفيد (إيجة)، ووالياً على أيدين (إزمير). وقد بلغ رتبة الـ«وزير»، التي هي الرتبة الشرفية الأسمى في الهرمية العثمانية، ويُلقب حاملها بأعلى مراتب «الباشوية»، ونال أرفع الأوسمة والميداليات؛ تقديراً لحسن خدمته للدولة العثمانية. كما اشتهر بكونه كاتباً صحافياً، ومسرحياً، وشاعراً. وقد توفي في إسطنبول عام 1927.
ولاية ناظم باشا على سوريا بين التدوينات التاريخية والأرشيف العثماني
يعد حسين ناظم باشا أحد خيرة ولاة سوريا العثمانيين، بل لعله أوفرهم حظاً من الشهرة وذيوع الصيت في الحقبة العثمانية المتأخرة. وقد تميزت سنوات حكمه الطويلة، خاصةً ولايته الأولى إبان العهد الحميدي، بالإصلاح والتنظيم والعمران على صعيدي البنية التحتية والتنمية الحضرية. وتشير التدوينات التاريخية، التي تُعنى بعمارة دمشق وعمرانها وتاريخها، إلى أنه قد تولى سوريا ثلاث مرات بلغ مجموعها نيفاً وثلاثة عشر عاماً؛ فامتدت ولايته الأولى اثنتي عشرة سنة بين عامي 1895 و1907، وأما ولايته الثانية فدامت قرابة السنة في عام 1909، بينما استمرت ولايته الثالثة بضعة أشهر في عام 1911.
غير أني وجدت من خلال تتبعي لسيرة حسين ناظم باشا في الأرشيف العثماني ما يخالف المعطيات تلك. فعلى الرغم من أنه قد تولى سوري ثلاث مرات بالفعل إلا أن مجموعها بلغ عشرة أعوام وبضعة أشهر وحسب؛ فاستمرت ولايته الأولى أقل من تسع سنوات وامتدت من تموز/ يوليو 1897 ولغاية آذار/ مارس 1906، بينما امتدت ولايته الثانية قرابة السنة في عام 1909، في حين دامت ولايته الثالثة نحو ستة أشهر في عام 1912. واستطعت بعد البحث والاستقصاء اقتفاء مصدر هذا الخطأ الفادح في تحديد مدة ولاية ناظم باشا، فوجدت أنه المؤرّخ الدمشقي محمد أديب تقي الدين الحصني (1874-1940) في كتابه «منتخبات التواريخ لمدينة دمشق» (1927)، ونقل عنه جمهرة من المؤرخين الذين يصعب حصرهم في هذه العجالة، ونذكر منهم على سبيل المثال صلاح الدين المنجد في كتابه «ولاة دمشق في العهد العثماني» (1949)، وعبدالعزيز محمد عوض في كتابه «الإدارة العثمانية في ولاية 1864-1914» (1969)، وقتيبة الشهابي في كتابه «دمشق: تاريخ وصور» (1986)؛ فوقعوا جميعهم في ما وقع فيه من الخطأ، دون مراعاتهم لأصول البحث العلمي التي تقتضي منهم نقد المرويات التاريخية وإخضاعها للتحقيق والتدقيق والتمحيص. ولعل دافعهم إلى ذلك هو ثقتهم بأن الحصني إنما كان يتحرى الدقة ويتوخى الصدق في ما دونه من وقائع وأحداث عاصرها أو عايشها أو خبرها. والواقع أن هذا الخطأ قد ترتبت عليه أخطاء فادحة أخرى تمثلت في نسبة بعض الإنجازات العمرانية إلى الوالي ناظم باشا، وهي ليست له، وفي عدادها «دار بلدية دمشق» في ساحة المرجة (الشهداء) التي شيدت عام 1896 في عهد سلفه الوالي حسن رفيق باشا الممتدة بين عامي 1896و1897 ولكنها أُزيلت للأسف في الخمسينيات من القرن المنصرم وارتفع مكانها بناء طابقي ضخم يُعرف باسم برج الشرباتي، والنصب التذكاري للاتصالات البرقية بين إسطنبول والمدينة المنوّرة عبر دمشق، الذي يتوسط ساحة المرجة والمُقام عام 1907 في عهد خلفه الوالي إبراهيم شكري باشا التي امتدت بين عامي 1906 و1908.
كما عرفت مدينة دمشق في ولايته الأولى توسعاً عمرانياً باتجاه الجنوب على طول سكة حديد الحجاز، وظهور حي المهاجرين في الجهة الشمالية الغربية من المدينة، الذي يعلو سفح جبل قاسيون في أعقاب وصول المهجرين من الرومللي وكريت في نهايات القرن التاسع عشر.
إنجازات ناظم باشا الفعلية في دمشق
عهد السلطان عبدالحميد إلى الوزير حسين ناظم باشا والي سوريا بمهمة الإشراف على الشروع في تمديد خط دمشق – معان الحديدي، بالإضافة إلى جمعه التبرعات من المناطق الواقعة ضمن حدود ولايته لإنشاء سكة حديد الحجاز، وكذلك تمديد خط الاتصالات البرقية بين العاصمة إسطنبول والمدينة المنوّرة عبر دمشق مصاحباً للمواقع المرسومة لخط السكة.
ومن جانبه، ارتأى ناظم باشا بثاقب نظره أن يقتصد في تكاليف مشروع سكة حديد الحجاز بتوفير أجور العمال، فاستدعى المواطنين المكلفين بالخدمة الإلزامية لإنجازه، واستفاد مما اقتصده بإنشاء عمائر فخمة زادت من أهمية مدينة دمشق، ووسعت خدماتها، مستفيداً في ذلك من خبرات المهندسين الألمان الذين وفدوا للإشراف على مشروع الخط الحجازي. وقد أسفر هذا التعاون العثماني – الألماني عن إنجاز العديد من مشروعات البنى التحتية، ومن بينها إحداث كلية للطب التي تعد النواة الأولى للجامعة ال عام 1903، وجر مياه عين الفيجة إلى دمشق قبيل انتهاء مدة ولايته مطلع عام 1906. وكذلك تشييد أبنية مهمة، ما زال أكثرها قائماً، ومن بينها الثكنة أو القشلة الحميدية (كلية الحقوق حالياً)، والسرايا الجديدة التي كانت تُعرف أيضاً باسم دار الحكومة السنية (مقر وزارة الداخلية حالياً)، ودائرة الأملاك السلطانية (دائرة الشرطة والأمن العام)، ومشفى الغرباء الحميدي (مركز رضا سعيد للمؤتمرات حالياً) الذي كان أول المشافي الحكومية الحديثة التي عرفتها دمشق في العصر الحديث، ومما ألحقه به دار للمجانين، ثم أضاف له داراً للتلقيح وداراً للتبخير (التعقيم) وأخرى للتحليل واستحضر من أوروبا ما يلزم لهذه الدور من الأدوات الجراحية، وصيدلية المركز في ساحة المرجة، التي كانت تقدم الأدوية للفقراء مجاناً وتبيعها للأغنياء بأسعار متهاودة (مما يؤسف له أنها أُزيلت ومبنى دار البلدية المجاور لها في الخمسينيات، وارتفع مكانهما برج الشرباتي)، ودار الوالي ناظم باشا (القصر الجمهوري سابقاً) وغيرها.
وشهد عهده ترميم العديد من الأوابد التاريخية، ومنها إشرافه على إتمام ترميم الجامع الأموي الكبير، وإصلاحه بعد الحريق الضخم الذي أصابه في عام 1893. فضلاً عن تغطيته سوق الحميدية الشهير بالتوتياء والحديد بدلاً من سقفه الخشبي القديم لحمايته من الحريق.
كما عرفت مدينة دمشق في ولايته الأولى توسعاً عمرانياً باتجاه الجنوب على طول سكة حديد الحجاز، وظهور حي المهاجرين في الجهة الشمالية الغربية من المدينة، الذي يعلو سفح جبل قاسيون في أعقاب وصول المهجرين من الرومللي وكريت في نهايات القرن التاسع عشر.
كلمة أخيرة!
مما لا ريب فيه أن التدوينات التاريخية قديمها وحديثها هي عرضة للخطأ والتصحيف والتحريف، لسبب ما أو لآخر. ولهذا السبب ينطوي نقد المؤرخين والإخباريين ومروياتهم على أهمية خاصة، على اعتبار أنه يساهم في الحيلولة دون أن تتحول هذه الأخطاء والمغالطات والأوهام التاريخية مع مرور الأيام وتعاقب السنوات إلى حقائق ثابتة لا تقبل الجدل. وتلكم هي عملية أشد صعوبة من النقل التاريخي، وتقتضي من الباحث المتمكن من المناهج والأدوات والأساليب البحثية الرجوع إلى «المصادر الأولية»، التي تشتمل على الوثائق والسجلات والتقارير الرسمية والدبلوماسية إلخ، و«المصادر الثانوية»، وفي عدادها الصحف والمجلات من جملة مصادر مرجعية أخرى.
ومن هذا المنطلق يجدر التأكيد على ما تتميز به وثائق الأرشيف العثماني من الدقة وكثافة المعلومات وتنوعها وشموليتها، وهو ما لا نجده في الكثير من التواريخ المحلية، التي تعتمد إلى حد بعيد على الذاكرة في نقل الأحداث التاريخية وروايتها، وبالتالي، يمثل الرجوع إلى وثائق الأرشيف العثماني مساهمة معرفية حقيقية ونوعية في المسعى العلمي الرامي إلى تصحيح العديد من الأخطاء والأوهام التاريخية التي شاعت في بعض المصادر.
كاتب سوري
شكراُ للكاتب على المعلومات التأريخية
ولا حول ولا قوة الا بالله