نبتسم للشاشات ونعبس للزوجات

حجم الخط
0

في عالم تكنولوجي متسارع لا يعرف حدّ الشبع تتراكم فيه التطبيقات الذكيّة كلّ يوم، تزداد حياتنا سهولة ويسرا؛ ندفع الفواتير، ونحجز الطيران، ونتسوق أونلاين، ونجتمع من خلال السكايب.. إلى آخر القائمة التي تطول وتطول، وكلها أمور عملية لا أرى فيها أيّ ضرر أو تأثير سلبي على الجانب الاجتماعي مدار اهتمام هذه المقالة السريعة التي قد يُفهم من عنوانها أنّها تميل للهزل، وكتقديم مباشر للموضوع أقول: هذا انطباع غير دقيق.

لا شك في أن هناك عاملا ترفيهيا مهما في كل هذا الضجيج البصري والسمعي، وعاملا آخر ذا بعد معرفي وثقافي، فهذه التطبيقات تفتح آفاقنا على ثقافات بعيدة عن جغرافيتنا لم نكن نعرف عنها سوى قدر يسير من معلومات مشوّشة وضبابيّة، لكن الحكاية لا تنتهي هنا للأسف، فالمثل الشعبي يقول: (ما في شي ببلاش غير العمى والطراش). المثل واضح حتى لو كان باللهجة المحكيّة فالمقصود منه؛ كل شيء بثمن، وليس هناك ما هو مجّاني سوى العمى والطرش. ربّما أفضل من يتصدّى لهذا الأمر هم علماء الاجتماع لكن لا ضير لو تحدث من هم قريبون من الحدث وبعيدون عن التخصص من وجهة نظر انطباعية دون مصطلحات علميّة جامدة وتحليل منهجي صارم.

أقول، قريبون من الحدث، لأن زوجتي نبّهتني لهذا الأمر من قبل، إذ يتكررّ الموقف بالسيناريو نفسه كلّ مرّة: أبتسم للشاشة كرد فعل تلقائي للفيديو الذي أتابعه، وعندما تخاطبني ألتفتُ إليها وأمسح هذا الابتسامة المنعشة، وأرسم بدلا منها عبوسا خفيفا قد تزداد شدّته، حسب مقدار الاستمتاع بالفيديو الأخير.

لن أتحدّث هنا عن الاكتئاب الذي تسبّبه الشاشات الذكيّة ووسائل التواصل الاجتماعي مع أنّه أمر واقع بالنسبة لي، وليس بحاجة لعالم اجتماع لتشخيصه، ولن أتحدّث أيضا عن الإدمان الذي يتسلّل إلينا ولأبنائنا بخفة، ثم يتمكّن منّا ويخنقنا، ولن أتحدّث عن صناعة المحتوى التي يعتوره مقاصد كثيرة منها الخبيث ومنها العفيف. ما أبتغيه من هذا المقال هو أن أعود إلى العنوان، لكن بصيغة سؤال مباشر: لماذا نبتسم للشاشات ونعبس للزوجات، حسب الموقف الذي ورد سابقا؟

قد يقول قائل: هذه حالة فرديّة والتعميم غير دقيق ولا يعبّر عن ظاهرة جمعيّة تستحق الالتفات. في هذه الحالة يكون النقاش قد انتهى وغير مستحق هذا الوقت وهذه المساحة. لكن يبقى لديّ ما أضيفه هنا وهو أنّ الحالة التي وردت للنقاش لها صور مختلفة وليس بالضرورة أن تحدث في السياق المذكور تماما؛ كأن يجلس الزوج في السرير قبل النوم إلى جوار زوجته واضعا السمّاعتين في أذنيه، وعندما تلكزه زوجته لتحدّثه بأمر تذكرته للتو، ينظر إليها ويستفسر بصوت عال عن سبب هذه المقاطعة. أقصد أنّ عبوس تعابير الوجه قد تأخذ أشكالا مختلفة بين الصوت والصورة. المفارقة هنا أنّهما ينامان وكل واحد منهما يحتضن جهازه الخلوي. هذه إشارة غير مقصودة لكنّها تعني الكثير.

وقد يقول آخر: ربّما مرد هذا العبوس من العقل الباطن الذي يوحي لنا بسخف الموقف المتمثّل بالابتسام أو الضحك المتكرّر مع الشاشة فيعمد إلى استثارة خط دفاع غريزي وهو العبوس، في محاولة يائسة لطرد هذه الصورة من مخيلته ومخيّلة محدّثه. هي حالة من الشعور بالخجل والحرج بعد الاسترسال كليّة في متابعة فيديوهات فيها تهريج ومبالغات مقصودة بعيدة عن الرّزانة والوقار.

وقد يقول آخر: ليس للخجل علاقة بكل هذا، فتراه يشير إلى أنّ العبوس علامة من علامات الانسحاب من عالم افتراضي فيه خيالات جميلة وحالمة إلى عالم واقعي ليس فيه سوى الحقيقة المؤلمة وهي أنك جزء من هذا العالم وليس ذاك.

تتعدّد الاجتهادات وتتفاوت وجهات النظر في هذا الأمر، وليس قصدنا هنا الإحاطة بكل الاحتمالات الممكنة على قدر الإشارة إلى حالة بحاجة للبحث والدراسة المنهجيّة. لكن السؤال هنا؛ ما هو وجه الخطورة الذي تشير إليه المقالة جرّاء هذا الموقف البسيط؟ قد أورد هنا نقطتين في عجالة: الأولى مرتبطة بالعلاقة بين الزوجين التي قد يكتنفها البرود، وقد يتطور الأمر إلى ما هو أخطر من مجرد برود وتحفّظ إلى حالة من الجفاء والسخط وعدم الرضا، مما يعقّد وضع الأسرة والأطفال، ولن أعتمد هنا على إيراد بعض الحالات الغريبة التي تتناولها وسائل التواصل الاجتماعي والتي تتحدث عن ردود أفعال ساخطة وعنيفة بين الزوجين في مواقف مشابهة.

النقطة الأخرى متعلّقة بالعزلة المقنّعة، وهذا أمر خطير وعلى غرار البطالة المقنّعة، لأننا نجلس في محيط واحد وحيّز ضيّق لكنّنا متباعدون وكل واحد في فجّ عميق، في عالم افتراضي خادع ومخاتل نبنيه انطلاقا من رغبة دفينة في أعماقنا لنكون أطول وأجمل وأكثر شبابا ونجاحا. وقد يشير أحدهم إلى أنّ العائلة بأكملها كانت في الماضي تتابع مسلسلا ما على شاشة التلفزيون ولم يُثر هذا الأمر أيّ مخاوف تكنو-اجتماعية لها علاقة بالعزلة. هذا أمر مختلف تماما؛ فهنا أفراد العائلة يتشاركون ويتحمّسون ويضحكون معا.

والسؤال الأخير هنا: هل يصلح عنوان المقالة ليكون عنوانا لرواية اجتماعيّة في المستقبل؟ في ظل تزايد تدخل البرمجيات والذكاء الاصطناعي في كتابة ما يسمى الروايات الرقميّة تظلّ كل الاحتمالات قائمة، ولا أستبعد أن تظهر روايات بمواضيع مختلفة ولغة محيّرة في الخمسين عاما المقبلة. ومن يدري ربّما تكون هذه البرمجيّات الذكيّة أقدر منّا على كتابة رواية ملتبسة كهذه.

كاتب من الأردن

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية