«نبع السلام» بين ترامب وبيلوسي: مَن يعيد الخيول إلى الإسطبل؟

حجم الخط
3

.. وفي اليوم الـ1000 من رئاسته استحقّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هذا الوصف من السناتور ميت رومني، رفيقه في الحزب الجمهوري ومنافس الرئيس السابق باراك أوباما: الرئيس «أشبه بمزارع أضاع جميع خيوله، ثمّ سارع بعد ذلك إلى إغلاق باب الإسطبل»! وبالطبع، كان رومني يعلّق على قرار ترامب بإرسال نائبه مايك بنس، صحبة وزير خارجيته مايك بومبيو ومستشاره للأمن القومي روبرت أوبراين، إلى أنقرة لإقناع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بوقف عملية «نبع السلام» في عمق الأراضي السورية. كذلك قصد رومني رسالة ترامب إلى أردوغان، التي نشرها البيت الأبيض واعتبرها الرئيس الأمريكي «مقذعة» تارة، و«جبّارة» تارة أخرى: بعد فوات الأوان، بالطبع، لأنها مؤرخة في 6 تشرين الأول (أكتوبر) حين كانت الجحافل التركية قد باشرت التمهيد لغزو الأراضي السورية.
ثمّ، أيضاً في اليوم الـ1000 من رئاسته، استحقّ ترامب شفقة رئيسة مجلس النوّاب نانسي بيلوسي، التي طالبت الأمريكيين بالدعاء له كي يشفى: «أعتقد أنه يتوجب علينا الآن الصلاة من أجل صحته. ما جرى اليوم كان انهياراً جدياً من جانب الرئيس». كانت بيلوسي تعلّق على الاجتماع العاصف الذي شهده البيت الأبيض بين ترامب وعدد من أبرز المشرّعين في مجلسَيْ الشيوخ والنوّاب، في أعقاب قرار غير ملزم اتخذه اجتماع مشترك للكونغرس بأغلبية 354 مقابل 60 صوتاً، وبتأييد ثلثي الجمهوريين وقادة الكونغرس الثلاثة، يرفض الانسحاب العسكري الأمريكي من سوريا. ترامب، من جانبه، ردّ الصاع صاعين: بيلوسي «سياسية من الدرجة الثالثة»، و«عانت اليوم من انهيار تامّ في البيت الأبيض. كان مشهداً محزناً كثيراً. صلّوا من أجلها، فهي شخص مريض للغاية!».
ولامرئ أن يتساءل، محقاً: علام الخلف بين ترامب من جهة، وحزبه ثمّ حزبه المناوئ من جهة ثانية؟ هل محور الخلاف يخصّ قوانين التأمين والرعاية الصحية، أم الجدار العازل وسياسات الهجرة، أم فضائح الرئاسة وتحقيقات الكونغرس على طريق عزل ترامب، أم مشكلات البيت الأبيض مع الاحتياطي الفدرالي، أم أعاصير الطبيعة وأزمات البيئة، أم ما شاء المرء تخيّله من مسائل تخصّ الأمن القومي الأمريكي على نحو مباشر وعاجل؟ وحين يأتي الجواب في صيغة واحدة أحادية، هي انسحاب عشرات الجنود الأمريكيين من سوريا وترك «الحلفاء» الكرد لقمة سائغة أمام تركيا وروسيا وإيران والنظام السوري، فإنّ السؤال الرديف الفوري يصعب أن يبتعد عن هذا النطاق البسيط: ولكن… ألم تكن سياسة النأي الأمريكي عن الملفّ السوري هي خيار أوباما، وتابعه ترامب دون تغييرات كبرى أو جوهرية؟ ألم تنهض ركيزة كبرى في برنامج ترامب الانتخابي على إبعاد أمريكا عن «الحروب السخيفة»، خاصة تلك التي «تدور منذ ألف عام» حسب تعبيره؟ ألا يقرّ ترامب اليوم بأنّ الحلفاء الكرد «ليسوا ملائكة» وأنهم يمكن أن يقاتلوا لقاء المال فقط؟
كلّ هذه الأسئلة تبدو في صالح ترامب، من وجهة نظره بالطبع وليس في ضوء وقائع التاريخ التي تشير إلى تدخّل أمريكا عسكرياً في بلدان كثيرة، ولصالح دكتاتوريات وأنظمة فاسدة معلنَة وليس دائماً من أجل الشعار (الزائف أصلاً) القائل بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. وإذْ يصرّح ترامب اليوم بأنّ ما يجري في شمال سوريا «لا علاقة له بنا البتة»، ويتساءل: «ما صلة الولايات المتحدة الأمريكية إذا كانوا يتقاتلون على أراض سورية؟»؛ فإنه يمسخ تماماً سلسلة «النظريات» التي قادت الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب إلى حرب «عاصفة الصحراء» ضدّ الغزو العراقي للكويت، كما يُلقي إلى سلّة المهملات بكلّ الذرائع التي لفقها أسلافه من شاغلي البيت الأبيض لتبرير التدخل العسكري في شؤون عشرات الأمم. كذلك فإنّ الكونغرس لا يغضب اليوم دفاعاً عن «الحلفاء» الكرد، أو تباكياً على أرضٍ سورية يستبيحها أردوغان أو بوتين أو إيران وميليشياتها المذهبية؛ بل، حصرياً في الواقع، خشية أن يخرج الإرهابي الداعشي مجدداً من القمقم الذي أدخلته فيه الفصائل العسكرية الكردية بدعم واسع وسخيّ من البنتاغون.

السياقات لا تبدأ مع ترامب بل من سلفه أوباما، والمصالح التركية في استئصال وجود الـ PKK على طول الحدود السورية ــ التركية لا تبدأ مع أردوغان بل من العام 1978.

طريف، إلى هذا كلّه، أن يضع المرء رئيسة مجلس النواب، بيلوسي، على محكّ أخر يتصل بالملف السوري؛ أقدم عهداً بعض الشيء، ولكنه ليس أقلّ مغزى بصدد نظام آل الأسد خصوصاً، وسوريا والمنطقة عموماً. ففي ربيع 2007 كان الجمهوري جورج بوش الابن في البيت الأبيض، وكانت بيلوسي تحمل مطرقة رئاسة مجلس النوّاب كما هي حالها اليوم؛ ولقد عبرت نهر الروبيكون، كما يُقال، فقررت مخالفة سياسة الولايات المتحدة المعتمدة تجاه إحدى دول «محور الشرّ»، وزارت دمشق، واجتمعت مع وليد المعلم ثمّ بشار الأسد على أمل ثنيه عن العلاقة مع إيران و«حزب الله» و«حماس»؛ طبقاً لأجندة إغواء حمقاء اعتنقتها مجموعات الضغط اليهودية في أمريكا، التي دبّرت اجتماع بيلوسي مع إيهود أولمرت رئيس حكومة الاحتلال يومذاك. على صعيد الإدارة ذاتها، حرصت بيلوسي على الاجتماع مع كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية في حينه، قبيل انطلاق طائرتها إلى دمشق؛ وكانت، على نحو أو آخر، تستلم لائحة الرسائل الشفهية التي سوف تبلّغها، تماماً كما فعل وزير الخارجية الأسبق كولن باول ومساعده ريشارد أرميتاج غداة اجتياح العراق، وكما فعل أعضاء الكونغرس من زائري دمشق قبلئذ وبعدئذ.
والأمر الرئاسي رقم 13338، الذي وقّعه بوش في أيار (مايو) 2004 وقضى بوضع «قانون محاسبة سوريا» قيد التنفيذ، كان ذروة سياسة «الضغط» الأمريكية على النظام السوري، وما اقترن بها من «حصار» شكلاني؛ تكفّل بتفريغه من مضمونه السياسي عدد من كبار النوّاب الأمريكيين (جمهوريين وديمقراطيين على حدّ سواء)، كلّما اقتضت المصلحة العامّة (للولايات المتحدة، ثمّ إسرائيل)؛ أو المصلحة الشخصية لهذا النائب أو ذاك (السناتور الديمقراطي بيل نلسون، مثل السناتور الجمهوري أرلن سبكتر، دون أن نغفل الإشارة إلى جون كيري… المرشح الرئاسي في حينه، المرشح الرئاسي ثمّ وزير الخارجية لاحقاً).
وكما كان منتظَراً، وكان منطقياً تماماً، لجأ النظام السوري إلى مختلف أنساق التوظيف الديماغوجي البائس لتلك الزيارة، فجرى تجييرها لصالح خلاصات دعاوية مضحكة/ مبكية في آن، أشاعتها وسائل إعلام النظام تحت صورة عريضة هي الاعتراف الأمريكي بالذنب تجاه نظام آل الأسد، وإقرار بفشل «الحصار» الشهير دون سواه. على سبيل المثال، نُسب إلى بيلوسي قولها إنّ «الطريق إلى السلام يمرّ عبر دمشق»، وذاك لم يكن اختراع أيّ من صحف النظام ذاته، بل كان مانشيت صحيفة «السفير» اللبنانية! وأمّا نصّ التصريح الفعلي فقد كان التالي: «جئنا من منطلق صداقة، وأمل، وتصميم على أنّ الطريق إلى دمشق هو طريق سلام».
وهكذا، وفي العودة إلى استعارة السناتور رمني حول الخيول الضائعة وباب الإسطبل المشرع، ليس ثمة الكثير الذي يمكن إدراكه في مضامين الدبلوماسية الأمريكية تجاه عملية «نبع السلام» بصفة محددة، والسياسة الأمريكية حول سوريا على نحو أشمل وأوسع نطاقاً. فالسياقات لا تبدأ من ترامب بل من سلفه أوباما، والمصالح التركية في استئصال وجود الـPKK على طول الحدود السورية ـ التركية لا تبدأ من أردوغان بل من العام 1978؛ الأمر الذي لا يمنع استجابة البعض لنداء ترامب وبيلوسي، والصلاة لراحة المريضين معاً، وعلى قدم المساواة!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سامي صوفي:

    عندما زارت نانسي پلوسي مع وفد الكونغرس دمشق في ٢٠٠٧، أراد السفير عماد مصطفى أن يأخذ وفد الكونغرس في زيارة سياحية لمعالم دمشق التاريخية. اختار السفير مصطفى زيارة «معبد يهودي» قديم لم يسمع به أحد غيره للضحك على عقول وفد الكونغرس بأن النظام السوري علماني. يبدو أن السفير مصطفى لا يعتقد بأن الجامع الأموي و التكية السليمانية و قصر العظم في دمشق، هم أهم معالم دمشق!

  2. يقول أحمد طراونة - لندن.:

    الرئيس ترمب و كل الرؤساء الاخرين، لا فرق بين الفيلة والحمير بينهم (ليست إسآة فهذة شعارات الحزبين الاكبر في الولايات المتحدة)… هم في الحقيقة تجار لا أكثر (بإستثناء مسألة إسرائيل الصهيونية فهي قصة ايديولوجية عميقة الجذور تعود لإيمان مطلق بمبادئ أساسية مشاربها تصل لعمق الكتاب … العهد القديم… الاوروبيون قفزوا فوق هذا غير أن مايضبط سلوكهم الآن هما البعبعان…الهولوكوست و شقيقتة اللاسامية… نحن نعيش بالغرب و نرى و نحلل).. تجار في كل شئ… يجرون عملية جرد بين الربح والخسارة و إذا رأوا بأن الامور تمشي على غير المتوقع يبدؤون بالتململ و يعيدون تموضعهم بالعالم حيث كانوا. رأينا هذا بكوريا و الڤيتنام والعراق الحبيب ( حيث هربوا هروباً) وبعدها أفغانستان وها نحن نراة بشمال سوريا…أرى بأن الرئيس هذا كان الأكثر وطنيةً لشعبة وانة بكل تأكيد بطريقة لفترةٍ ريأسية ثانية…

  3. يقول .Dinars. #TUN.:

    من علامات تراجع إسرائيل وضعفها الواضح جعلت من المناولة مع الأكراد وسوريا والرياض والإمارات والبحرين ومصر وإثيوبيا كطريقة للتخفي. بمعنى لم تقتصر في اعتدائها على فلسطين بل تعدت إلى كيانات وشعوب.

إشترك في قائمتنا البريدية