نبّاش القبور

حجم الخط
0

تصوروا ما يفعله نباش القبور! يذهب إلى المقابر، يزيح التراب عن الجثث المتحللة، ليبحث عن سن من ذهب في بقايا فك أكله السوس، أو خاتم في بقايا إصبع متحلل، غير آبه بما يصادف من ديدان وهوام.
وظيفة كريهة، ومن يقوم بها شخص مشوه الروح، متعفن الشعور، بلا ضمير أو أخلاق.
هذا أقلّ ما يمكن أن نصف به من يبحث بين القبور عن مقتنيات الأموات التي كانوا يتحلّون بها في حياتهم، من أجل أن يقتات عليها.
مهنة، أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها حقيرة، وعمل يمكن أن يكون جريمة تعرض صاحبها للمساءلة والحساب، ناهيك عن الازدراء والاشمئزاز.
الواقع أن نباش القبور لم يلجأ لجثث الموتى إلا لأنه لم يعمل على الحصول على الذهب بطريقة نظيفة، بل ذهب لسرقة تلك المقتنيات من جثث الموتى، والواقع أنه لم يجد الذهب في حياته، لأنه كسول الجسم، ضعيف الخيال، بليد الحس، يريد أن يكسب بأسهل الطرق، وهذه هي طريقة الكسب التي يعرفها النباشون الذين فشلوا في الحصول على طريقة عيشٍ نظيفة، فذهبوا يبحثون عن الجثث المتحللة وأحشاء القبور.
واليوم تمر بعض شعوبنا بمرحلة نبش القبور: دول منهارة تضمّ شعوباً ممزقة، لا تنتهي صراعاتها التي تسببت في تراجع معدلات النمو ومستويات التعليم والصحة، مع تَصحُّر الحياة الثقافية، وأدلجة الحياة الروحية، و«ملشنة» الحياة الاجتماعية، و«تطييف» الحياة السياسية، بعد أن وصلت تلك الشعوب إلى مراحل صفرية أو قريبة من الصفر، وأشرفت على مواسم القحط، وبعد أن كشفت المقاييس العالمية السنوية وجود تلك الدول والشعوب في ذيل قائمة الاقتصادات النامية والتنمية المستدامة، بل وسجلت تراجعاً سنوياً في كل المجالات.
عند ذلك، ذهب نباش القبور الذي اكتسب ثروته من سرقة الأموات، وأنفقها في الصراع مع الأحياء، ذهب إلى أقرب مقبرة، ليتصارع مع جثثها على لفافة الكفن الذي يضم جثة متحللة، مفاخراً بكونه وضع يديه على مزرعة الديدان تلك التي يقتات منها، دون حياء.
وها نحن اليوم، مع انهيارات دولنا وتفسخ مجتمعاتنا، ها نحن نعود إلى مكوناتنا القبلية والجهوية والطائفية، ومع العودة لتلك المكونات عدنا للبحث في قاعها عن ديدان الجثث، وسوس العظام البالية، ومع استمرار الانهيار يتحول اليمنيون ـ مثلاً ـ إلى جنوبيين وشماليين، وليس هذا وحسب، ولكن التقسيم يعمل أفقياً ورأسياً، فيستمر الانقسام إلى زيود وشوافع، وحاشد وبكيل ومذحج، مع استمرار المفاخرة بأن هذا الشعب هو «أصل العرب»!
والشأن ذاته مع العراقيين الذين يتحولون إلى سنة وشيعة، وعرب وأكراد وآشوريين وأيزيديين وغيرهم، مع استمرار مفاخرتهم بكلمة عمر بن الخطاب: «العراق جمجمة العرب» وقل ذلك أو مثله عن اللبنانيين والسوريين والليبيين والسودانيين وغيرهم، مع تنامي العصبويات الناتجة عن انهيار الدولة الوطنية والمشروع العربي، حيث يتكاثر نبَّاشو القبور، بحثاً عن بعض المقتنيات والديدان بين الخرائب والأنقاض.
أذكر مرة أنني انتقدت في برنامج تلفزيوني قصيدة شعرية عنصرية لأحد أئمة (حكام) اليمن الوسيط، هو عبدالله بن حمزة، وهو يرد فيها على رأي العلامة نشوان الحميري الذي يرى أن «الإمامة في الإسلام» يمكن أن تكون في أي مسلم يحمل شروطها المكتسبة، دون اشتراط انتسابه إلى علي بن أبي طالب، لأفاجأ بأكاديمي وكاتب «كبير» يحمل شهادة دكتوراه، يهددني بأنه سوف يرفع عليّ قضية، لـ«تطاولي على الإمام عبدالله بن حمزة» الذي عاش قبل أكثر من ثمانمئة سنة.

البلدان التي توجد فيها الشعارات الكثيرة هي البلدان التي توجد فيها الأصفار الكثيرة، على كافة المستويات، وكأن العناوين الكبيرة لا تناسبها إلا الأصفار الكبيرة

والأدهى من ذلك أن هذا الأكاديمي سرد مسوغات تهديده بإقامة الدعوى ضدي بأن له حقين: «حق البحث، لأنني أحد الباحثين، وحق النسب، كوني انتسب للإمام عبدالله بن حمزة» حسب تعبيره!
دعونا نستعير من ناصر الدين النشاشيبي عنوانه المعروف: لماذا وصلنا إلى هنا؟
ما الذي يجعل أكاديمياً يغضب، لانتقاد قصيدة عنصرية كتبها شخص، يقول إنه جده، قبل ثمانمئة سنة؟ ما الذي جعلنا نتحول أو نتحلل كما تتحلل الجثة ـ وبهذا الشكل المريع ـ إلى مكوناتنا القبلية والمناطقية والمذهبية؟
كيف نظل على زعمنا أننا «الأفضل» مع أننا عندما تثار قضية خلافية بيننا نتصرف بطريقة تنفي كل صفات الخيرية والأفضلية؟!
الأدهى من ذلك أن المتقاتلين اليوم يخوضون كل هذا المعارك التافهة تحت عناوين كبرى، ويمضون إلى جهنم متذرعين بسلاح الإيمان، ويتقاتلون على السلطة والثروة، باسم الجنة والنار، والحق والباطل، والله والشيطان.
لقد نجح الانتهازيون السياسيون وأمراء الحروب في جرِّنا إلى هذا القبو المظلم الذي يبحثون فيه عن جثة هنا أو هناك، علَّهم يجدون بها ما يسرقون، لتقوية صفهم ضد الخصوم، نجحوا في نبش التاريخ وبعث علي والحسين وزيد وبني أمية، ليغطوا بهذه العناوين العريضة على حقيقة أنهم إنما يقاتلون من أجل أنفسهم، وما استحضار هذه الأسماء إلا لمزيد من تعبئة القطيع نحو الهاوية، وما استمرار ذلك النبش في الماضي إلا لردم هذا العفن المعاصر الذي تفوح رائحته من أوطاننا، ويراد للماضي أن يغطيه، أو لنقل إن استحضار العناوين الكبيرة إنما جاء، لخوض المعارك التافهة باسمها، وإنما كان من أجل صرف الناس عن حقيقة تفاهة هذه المعارك التي استنزفت الحاضر، وتسعى كذلك لاستنزاف الماضي، واعتصار آخر قطرة فيه، لاستثمارها في شركات استثمارية اسمها «جيش الحسين» و «جيش المختار» و«جيش الخلافة» و«كتائب القعقاع» وغيرها من عناوين كبيرة نبشناها، لكي نغطي بها عوراتنا التي أصبحت على كل شاشة، وتصدرت عناوين الصحف العالمية، دون أن ينفع معها ذلك الترقيع الذي نمارسه إزاء قميصنا الذي مزقناه بأيدينا، بمعاركنا الخاسرة التي بعثنا معها معارك التاريخ، هرباً من حقيقة مرة، تتمثل في أننا فشلنا في صناعة الحاضر، فذهبنا نقتتل على الماضي البعيد.
المفارقة العجيبة أن البلدان التي توجد فيها الشعارات الكثيرة هي البلدان التي توجد فيها الأصفار الكثيرة، على مستوى التعليم والصحة والثقافة والتنمية المستدامة والأداء السياسي والحقوق والحريات، وكأن العناوين الكبيرة لا تناسبها إلا الأصفار الكبيرة، أو الأرقام المتدنية في الأداء الذي يُظهر مجموعة من البلدان العربية في ذيل قائمة طويلة في المقاييس الدولية المختلفة.
لماذا وصلنا إلى هنا؟ يظل سؤال النشاشيبي أعلاه معلقاً، رغم أن الكاتب الكبير قد أجاب عليه، ومع ذلك فإن السؤال الأهم هو: كيف نخرج من هنا؟
كيف نخرج من حالة «الاقتيات» على خاتم الذهب الذي سرقه نباش القبور من إصبع جثة متحللة؟ وكيف نتوقف عن العودة لقبور التاريخ، بحثاً عن البسوس وصفين وكربلاء، وعن الديدان التي نتقاتل عليها وبها؟ وكيف نغادر هذا القبو المريع الذي نمارس فيه اللطم والبكاء والدعوة للثأر للأموات من الأموات، مع استدعاء صرخات معارك الماضي، بعد الفشل في خوض معارك التنمية في الحاضر؟
كيف نستعيد الدولة التي كانت ثمرة كفاح أجيال ضد المستعمر الأجنبي؟ ذلك المستعمر الذي لا يُعد الحنين إلى أيامه إلا محاولة بائسة للحاق به، وهي محاولة لن تثمر إلا إلحاق الضرر بنا، تماماً، كما أن محاولاتنا نبش الماضي لن تعيده لنا، إلا بالصورة التي نرى فيها أمراء الحروب يوظفونه لصالح مشاريعهم الاستثمارية، على حساب دماء ودموع الملايين من شعوب ما بين الماءين.
لا شك أن الخروج من هذا المأزق التأريخي ليس مستحيلاً، وأنه يمكن أن يكون أسهل مما نتصور، شريطة وجود إرادة قوية للخروج من هذا المربع المريع، وكما خرجت أمم وشعوب من أنقاض حروب مدمرة، فإننا يمكن أن نخرج من تحت الأنقاض الكثيرة الممتدة من حلب إلى تعز، ومن الموصل إلى طرابلس، ومن بيروت إلى الخرطوم، وسيكون خروجنا من تحت الأنقاض مقترناً بمغادرة نبّاش القبور مهنته نهائياً، ليبحث له عن عمل نظيف يعيد له كرامته المهدرة بين الخرائب والقبور.

كاتب يمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية