ليس من المبكر التثبّت من قيمة هدايا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتننياهو، في فوز الأخير بولاية خامسة على التوالي خلال انتخابات الكنيست الأخيرة؛ إذْ أنّ هذا التأثير لم يكن هو الفارق، أصلاً، في ترجيح كفّة التحالف اليميني/ الديني الذي سوف يقوده نتنياهو، من موقع تحكّم أفضل وليس أسوأ. وعلى المنوال ذاته يجوز أن تُقرأ هدية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في تسليم رفات الجندي الإسرائيلي زخاريا باومل، القتيل في معركة السلطان يعقوب في لبنان، 1982: تساعد قليلاً في تلميع صورة نتنياهو، لكنها ليست ــ مثل هدايا ترامب أيضاً ــ «بيضة القبان» التي رجحت كفة الولاية الخامسة.
في المقابل، كانت هدايا نتنياهو إلى نفسه، وإلى الأحزاب التي سوف تتحالف معه (من قبيل إعلان العزم على فرض السيادة الإسرائيلية في مناطق من الضفة الغربية لا تشمل أراضي المستوطنات وحدها، بل تذهب أبعد وأوسع)؛ أرجح كثيراً في نفس الناخب الإسرائيلي القياسي، وأعمق تأثيراً وسطوة. وهذه حال تعيد إلى الذاكرة تأويلات المؤرّخ الإسرائيلي ميرون بنفنستي، على سبيل المثال فقط، لما أطلق عليه صفة «كارثة إسرائيلية» تجسدها سيرورات ضخّ النزوعات الإيديولوجية في كلّ مناحي الحياة الإسرائيلية، السياسية والأمنية والاجتماعية والثقافية: «حين سيكتب المؤرّخ وقائع الكارثة ذات يوم، سوف يُتاح له على الأقلّ أن يضع هامشاً أسفل الصفحة يقتبس فيه مراثي أنبياء القيامة ممّن ساروا على درب الكارثة».
وفي وسع المرء أن يذهب إلى ليكودي، أمريكي هذه المرّة، هو دانييل بايبس الذي رأى «فلسفة» الهدايا من زاوية خاصة تماماً، شديدة الارتباط بجدليات العلاقات الأمريكية ــ الإسرائيلية؛ أي الصهيونية المسيحية، ليس في عهد ترامب وحده، للإيضاح المفيد، بل طوال عهود سابقة وإدارات متعاقبة. ومنذ مطالع رئاسة باراك أوباما، ورغم أنه أشبعه شتماً وقدحاً، اعتبر بايبس أنّ هذا الطراز من الصهيونية هو «أفضل أسلحة إسرائيل»، بالنظر إلى أهمية مواقف اليمين الأمريكي المسيحي المتعاطف مع دولة الاحتلال، وكيف يتبنى هذا الصفّ مواقف متشددة تبدو خيارات بعض الساسة الإسرائيليين «حمائمية» تماماً إلى جانبها.
تفسيره البسيط، أو التبسيطي تماماً في الواقع، يقول إنّ هذا النسق السياسي ــ الفلسفي، الذي عبّر ويعبّر عنه أمثال غاري باور وجيري فالويل وريشارد لاند، يعود بجذوره إلى العصر الفكتوري في بريطانيا، وإلى العام 1840 حين أوصى وزير الخارجية اللورد بالمرستون بأن تبذل السلطات العثمانية كلّ جهد ممكن من أجل تشجيع وتسهيل عودة يهود أوروبا إلى فلسطين. كذلك كان اللورد شافتزبري هو الذي، في العام 1853، نحت العبارة الشهيرة في وصف فلسطين: «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض». غير أن ما يتحاشى بايبس الوقوف عنده هو السؤال التالي: لماذا لا يكون حماس هؤلاء هو الوجه الآخر لفتور معظم الحماس الصهيوني عند الصهاينة، وميلهم إلى اعتناق فكر بديل، نازي أو عنصري؟ ولماذا لا يكون رجال من أمثال شمعون بيريس وإيهود باراك وأرييل شارون وإيهود أولمرت ونتنياهو… أكثر راحة وهم يتمترسون خلف «عقلية نازية مضمرة»، من راحتهم وهو يتصرفون كصهاينة؟
الارتباط العاطفي بين الولايات المتحدة ودولة الاحتلال بلغ درجة فاقعة صارخة فاضحة، تستدعي وضع كتاب كامل يرصد محطاتها منذ العام 1947
وذات يوم غير بعيد واجه نتنياهو تهمة الخيانة من هاجي بن ــ أرتزي، شقيق زوجته، والقيادي البارز في «الحزب الديني القومي»، أو (المفدال)، الذي حلّ نفسه وانضمّ أعضاؤه إلى حزب ديني متطرف آخر، هو «البيت اليهودي». «حين يكون المرء مصاباً بالسرطان، فإنه لا يكترث بخدش في القدم»، كتب بن ــ أرتزي؛ قاصداً بالسرطان الخطر النووي الإيراني، وبالخدش فكرة الحلّ القائم على دولتين، إسرائيلية وفلسطينية. وهذا اليهودي اليميني المتدين المتشدد، الذي يقيم في مستوطنة بيت إيل عن سابق قصد وتصميم، يرفض خيار الخدش، ويعلن أنّ إقدام صهره نتيناهو على القبول به سوف يجعل من الأخير خائناً بحقّ التوراة، ليس أقلّ!
خلال الحقبة ذاتها، وفي تعليقه على زيارة نتنياهو الأولى إلى الولايات المتحدة خلال رئاسة أوباما، شاء الكاتب الإسرائيلي اليساري جدعون ليفي أن يتمنى على الرئيس الأمريكي الاقتداء بسلفه الأسبق ريشارد نكسون في إنقاذ دولة الاحتلال؛ مع فارق حاسم بالطبع: الأخير أنقذها من الجيوش العربية سنة 1973، والأوّل ينبغي أن ينقذها من… نفسها! والحال أنّ سلسلة التطوّرات السياسية الإسرائيلية الداخلية التي أعقبت توقيع اتفاقيات أوسلو (اغتيال رابين، انتخاب نتنياهو في غمرة تحقير شمعون بيريس، انتخاب إيهود باراك وتحقير نتنياهو، انتخاب شارون وتحقير باراك، ثمّ انتخاب نتنياهو وتحقير «كاديما» وباراك معاً…)؛ لم تكن إلا سبيل الإسرائيليين في التأكيد على أنّ نسبة ساحقة منهم لم تخرج من شرنقة الانعزال العتيقة.
ومن محاسن أقدار الصهر والنسيب معاً، وسوء طالع ليفي، أنّ أوباما لم يحرج ضيفه نتنياهو إلى أيّ مستوى قريب من ارتكاب الخيانة، أو الخدش في القدم، يومذاك؛ فاكتفى بالعموميات والتأتأة الدبلوماسية في كلّ ما يخصّ الحقوق الفلسطينية، وصال وجال في البلاغة والخطابة، مشدداً على التزامه المطلق بأمن «إسرائيل، الدولة اليهودية». ولقد بدا أنّ أوباما ونتنياهو قد اتفقا، ضمن صيغة مكتومة من التواطؤ المكشوف، على تناسي ما دار بينهما من حديث أثناء زيارة أوباما إلى إسرائيل؛ حين كان الأخير محض مرشّح للرئاسة، وكان نتنياهو زعيم حزب «ليكود» الطامح إلى هزيمة «كاديما». آنذاك، كما روى نتنياهو للصحافة، انزوى الرجلان بعيداً عن الحشد، فقال الأوّل للثاني: «أنت وأنا نشترك في الكثير. لقد بدأتُ على اليسار وانتقلتُ إلى الوسط. وأنت بدأتَ على اليمين وانتقلتَ إلى الوسط. كلانا براغماتي يرغب في إنجاز الأمور».
الهدايا، إذن، ليست «عينية» بالضرورة بين دولة الاحتلال وأصدقائها الخلّص، في البيت الأبيض كما في الكرملين؛ إذ سبق لها أن اتخذت صفات رمزية «فلسفية»، أو توراتية/ مسيحية/ صهيونية، أو سلوكية وذاتية لها صفة «الهوى» الشخصي المحض كما هي عليه اليوم حال ترامب. وفي قلب السجلّ الكوني لعربدة الولايات المتحدة على صعيد العلاقات الدولية، تظلّ الروابط الأمريكية ــ الإسرائيلية حجر زاوية، حيث يجري التضامن على مبدأ نصرة الحليف ظالماً أو مظلوماً. وذات يوم بعيد هذه المرّة ــ في سنة 1796! ــ حذّر الرئيس الأمريكي جورج واشنطن الأمّة الأمريكية من الانخراط في «ارتباط عاطفي» مع أية أمّة أخرى؛ لأنّ «ذلك سوف يخلق وهماً عامّاً بوجود مصلحة مشتركة، والحال أنه لا توجد مصلحة مشتركة بين الأمم». بعد أكثر من قرنين ارتأى جورج بول (الدبلوماسي المخضرم، وأحد أبرز مستشاري الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي) أنّ هذا الارتباط العاطفي بين الولايات المتحدة ودولة الاحتلال بلغ درجة فاقعة صارخة فاضحة، تستدعي وضع كتاب كامل يرصد محطاتها منذ العام 1947.
ولقد نصح الساسة الأمريكيين باعتماد مبدأ المثلّث في تمحيص العلاقة، بحيث يكون ضلع أوّل هو المصلحة القومية الأمريكية، وضلع ثان هو المصلحة القومية الإسرائيلية، وضلع ثالث هو المصلحة القومية العربية. الأيّام أثبتت، وما تزال، أن أضلاع المثلث الراهنة تسير على نحو مختلف تماماً: ضلع أوّل هو المصلحة القومية الأمريكية، وضلع ثان هو المصلحة القومية الإسرائيلية، وضلع ثالث هو المصلحة القومية… لليهود الأمريكيين! ولا حاجة للتثبّت من مقادير خسائر وأرباح هذا المثلث عند رجل مثل نتنياهو، في عهد رجل مثل ترامب؛ أو ما شاء المرء من زعماء على الطرفين، فالفوارق ليست قاطعة.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
ولك جزيل الشكر ياأخي صبحي حديدي.
أعتقد أن من بين أهداف ضم الجولان السوري المحتل واعتراف ترامب بذلك، الضغط على الفلسطينيين للقبول بالفتات الذي سيرمى إليهم ضمن مايسمى بصفقة القرن.