«نجمة» التي هزمت كاتبها!

حجم الخط
1

ماذا أصدر كاتب ياسين من روايات بعد «نجمة»؟ لا شيء يستحق الذكر. فقد انتظر الناس الكاتب عشر سنوات بعد باكورته، قبل أن يصدر رواية أخرى، بعنوان «المضلع النجمي» التي لم تكن إلا نصاً مستوحى من «نجمة». فعقب روايته الأولى الأشهر «حفر ياسين قبره» استقال من أرض الرواية، فشل في التفوق على نفسه.
عام 1956، حين صدرت «نجمة» بشر نقاد بميلاد الأدب الجزائري المعاصر، بأن مؤلفها هو حامل لواء جيل مختلف من الكتاب، وأنه سيؤسس ما يُشبه مدرسة في الأدب. لكن سرعان ما انطفأت الأنوار.
ظل اسم كاتب ياسين مرتبطاً حصراً بروايته الأولى، هل كانت رواية ـ مشؤومة؟ رواية استنفد فيها صاحبها كل ما يملك من مخيلة ومن جرأة في التجريب، فوجد نفسه من بعدها مجرداً، معزولا، منهزماً، غير قادر على الذهاب إلى أبعد منها. إن الاحتفاء ﺑ«نجمة» هو أيضاً شعور بحسرة أننا لم نستطع أن نقرأ المزيد لكاتب كان مؤهلاً أن يكون بارومتر الأدب في الجزائر، أن يرفعه إلى مقام أعلى، وأن يوصله إلى قراء من لغات أخرى.

الكاتب بوصفه ملاكماً

صحيح أن كاتب ياسين ترك نصاً روائياً وحيداً، كتاباً واحداً يستحق أن يسمى رواية، وهو «نجمة» وهذه الرواية كانت بحاجة إلى سنوات من أجل قراءتها، إلى جهود أجيال من النقاد قصد فهمها. هذه الرواية هي أكثر الروايات تعرضاً إلى الظلم أو الادعاء، الجميع يتحدث عنها، لكن القليلين جداً من قرأوها، وأقل منهم من فهموها. رواية يتعسر فهمها من مجرد القراءة الأولى لها، بل تحتاج صبراً وقراءات متوالية، قصد الإمساك بجوهرها. في هذه الرواية هناك مستويات تلقي مختلفة. هي حكاية أربعة شبان (لخضر، مراد، مصطفى ورشيد) كل واحد منهم تتضمن حياته جزءاً من سيرة المؤلف، يقتسمون مع بعضهم بعضا الحياة الحقيقية لكاتب ياسين. حياة السجن، الانخراط في السياسة، حياة العمل في ورشات البناء أو في استحضار مآثر الأجداد المؤسسين. ما يجمع بين هذه الشخصيات أيضاً هو علاقتهم الملتبسة مع شخصية (نجمة). رغم أن الرواية تحمل اسمها فإنها لا تظهر إلا قليلاً، أول ظهور لشخصية نجمة في الرواية لن يتأتى سوى بعد إتمام قراءة ربع الرواية.
إذن فإن نجمة ليست شخصية أساسية، لا حضور طاغ لها، بل هي الشخصية الأقل حضوراً في النص. الشخصيات الأربع الأخرى تميل إلى حب نجمة، على الرغم من أنها امرأة متزوجة، وكما وصفها المؤلف لم تكن امرأة بالغة الجمال. فما هو سبب اهتمامهم كلهم بها؟ يبدو أن السبب لا يتعلق بشخصية نجمة في حد ذاتها، بل بسبب فشلهم في الحب، حيث نعلم في بداية الرواية أنهم أعجبوا بفتاة فرنسية تدعى (سوزي) ابنة رب عملهم في ورشة البناء، لكن بحكم مكانتهم الاجتماعية ـ زمن الاستعمار ـ فقد تعذر عليهم لفت انتباه الشابة الفرنسية. بالتالي سوف يبحثون عن الحب مع امرأة أخرى من طبقتهم الاجتماعية. بحكم أن حيوات الشخصيات الرئيسية مستوحاة من حياة كاتب ياسين، هل هذا يعني فشله هو أيضاً في استمالة امرأة فرنسية سنوات الاستعمار؟ ستظل نجمة مثل امرأة مشتهاة، متخيلة، الجميع يحلم بها لكن لا أحد من الأربعة سوف ينال قلبها. وفي أحاديثه الصحافية، لطالما ردد كاتب ياسين أن شخصية نجمة إنما هي تشبيه للجزائر. الجزائر هي تلك المرأة التي نحبها ونخلص في حبنا لها، إذا وافقناه في الرأي، سنجد أن شخصية نجمة في الرواية هي ابنة بالتبني، أبوها جزائري وأمها فرنسية يهودية. هذه هي الجزائر في تعددها كما حكى عنها ياسين، جزائر جزائرية دون أن تلغي انفتاحها على هويات أخرى وعلى معتقدات الآخرين. جزائر بصيغة الجمع لا المفرد. لكن قبل أن نصل إلى هذا الملخص للرواية، وجب على القارئ السير في منعرجات النص، في كتابة شذرية، في ذهاب وإياب بين مقاطع مطولة من الفلاش باك، يسودها التكرار مرات ومرات أخرى نجد أنفسنا إزاء مشاهد غير مكتملة عن قصد أو غير قصد، كما يحصل أن ننتقل من شخصية إلى أخرى، دون أن ندرك ذلك سوى متأخرين.
لقد كانت تلك الرواية أشبه بحلبة ملاكمة لمؤلفها، ربح الرهان ثم توقف عن مواصلة الكتابة في الرواية، وترك القراء يتصارعون في ما بينهم، كل واحد منهم يؤول النص على هواه.

رواية حداثية.. مسرح كلاسيكي

رغم أن كاتب ياسين كان ينفي تأثره بموجة «الرواية الجديدة» التي أسسها آلان روب غرييه وناتالي ساروت، فإن «نجمة» لم تخرج عن إطار تلك الموجة، وذلك واحد من أسباب نجاحها حال صدورها، فقد كانت أولى الروايات التي سايرت تيار الوعي في الرواية الجديدة. والشيء الآخر الذي يحسب لها هو شعرية النص، فهناك فصول من الرواية يمكن أن تقرأ بوصفها قصائد نثرية مطولة. لقد وصل كاتب ياسين إلى الرواية ـ وهو في الخامسة والعشرين من العمر ـ مستفيداً من تنشئته الشعرية وكذلك الشفوية ومن قراءاته للرواية الفرنسية، والأمريكية أيضا (لاسيما وليم فوكنر). استطاع أن يضفي تجديداً ليس فقط في الرواية الجزائرية، بل المغاربية إجمالاً، ما حدا بعبد اللطيف اللعبي إلى القول مرة: «لقد خرجنا كلنا من معطف كاتب ياسين». نعم، خرجنا كلنا من معطفه، لكن كاتب ياسين سرعان ما أزال المعطف عن ظهره وانصرف، مبتعداً عن الرواية، مفضلاً عنها المسرح. وإن قدم كتابة حداثية في الرواية ـ آنذاك ـ فقد فشل أن يفعل الشيء ذاته في المسرح. ظل مسرحه كلاسيكياً يدور في فلك قضايا سياسية ساخنة، في اصطياد الأحداث الراهنة، وفي مغازلة البروليتاريا أو الناقمين من حياتهم والراغبين في التغيير. يبدو أن كاتب ياسين فهم من البداية أن الجزائريين لم يقرؤوا (نجمة) عدا المنشغلين بالأدب منهم، لم تصل تلك الرواية إلى أبناء بلده في مجملهم، لذلك تخلى عن كتابة الرواية، لم يكن يهمه الأدب، بل مخاطبة الناس، كان يبحث عن متلقٍ، بل متلق عاجل، يتفاعل في الحين مع فكرته، لذلك هجر إلى المسرح، ثم من الفرنسية إلى العامية، كان يبحث عن جمهور له وكفى. وقد وجد ذلك في جمهور العمال الذين كان يعرض عليهم مسرحياته، وإن كان هناك من يود نسب كاتب ياسين إلى الحركة البربرية، فهو لم يفهم منطلقات المؤلف، الذي كان يبحث في منطقة القبائل عن جمهور له لا أكثر، أن يوسع من طبقة المتحمسين لمسرحه، لذلك أراد ترجمة نصوصه إلى القبائلية، مع أنه لم يكتب عن تلك المنطقة. هكذا إذن كان كاتب ياسين، خلّف واحدة من أهم روايات الأدب المغاربي، ثم انصرف إلى التقاعد، لم يكن صبوراً، بل كان شغوفاً بتصفيقات الجمهور. كان يود أن يرى الناس يتفاعلون بسرعة مع ما يكتب، بدل أن يفكر في تطوير النص في حد ذاته.

روائي جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مصطفى ماضي:

    و اخيرا تقرأ اهم ما كُتب حول كاتب ياسين ….مقال كتبه عزيزنا سعيد بشجاعة ادبية نادرة. و اخيرا يمكننا القول ان الجزائر لدينا واحدا من النقاد في الأدب….شكرا سعيد.م.ماضي

إشترك في قائمتنا البريدية