ومن الفضائل غير المدونة للسفر، تقليل صدمة الأخبار الحزينة، خصوصًا أخبار الموت، وموت من نحب بشكل خاص، نفضل ألا نصدقه، ونظل معلقين بالكذب كأمل جميل. طالما لم نشهد لحظة عودة الجثمان إلى أمه الأرض، ولم نقف في سرادق العزاء يبقى الأمل قائمًا.
ورغم أن أحد أصدق أصدقائي، المهندس جمال عبد الناصر هو الذي أبلغني خبر موت أحمد فؤاد نجم ، بانقباض بالغ، فقد تركت للشك اللذيذ مساحته، خصوصًا وأن خبر الموت خرج من مصر إلى جمال في الدوحة ومنها إليّ في قلب ليل روما. وكنت تركت ورائي في أمستردام سببًا آخر للشك، إذ كانت هناك استعدادات لاحتفال بنجم من النوع الخاص، يتحين له رءوف مسعد وياسر الزيات، حيث كان مقررًا للعصفور العجوز أن يسافر لتسلم جائزة الأمير كلاوس، وأن يكون في عهدة أصدقائه بعد انتهاء واجب التكريم.
وقد اعتاد نجم أن يتلقى تكريم القاعات بضجر المجبر على حضور مناسبة لا تخصه، لا لأنه لا يحب التكريم، بل لأنه من قلائل المبدعين الذين أفلتوا من ذلك الانتظار المضني؛ فهو يتلقى تكريمه كل لحظة بعد أن صار أيقونة مصرية وعربية تخترق الطبقات والمستويات الاجتماعية واللهجات.
وعلى كثرة ما شهد شعر العامية المصرية من عباقرة، فإن اثنين فقط، هما الأبنودي ونجم، من يتمتعان بهذه المعجزة، وهذا الرباط كاف للتوحيد بينهما، على الرغم من أنهما يريان نفسيهما بعيدين عن بعضهما البعض بعد المشرق عن المغرب، وربما يرى هذا الرأي بعض أخلص الأصدقاء لكل منهما، لكن الغالبية الكاسحة من المصريين لا تعنيها ما يعتقده أحدهما وأصدقائه، ولا تتشدد في طلب المستحيل، بل تحمل لكل منهما ما تكنه الأم لابنها، المغفور الذنب، هذا إن استطاعت أم أن ترى ابنها مذنبًا في يوم من الأيام.
لم يكن زائر أحدهما بحاجة إلى أن يحمل عنوانه تفصيلاً، والعناوين في مصر مأساة تربت على مدى عصور الفوضى والنمو العشوائي للعمران.
يكفي أن تتوجه إلى الحي الذي يسكنه وتفوق مساحته مساحة مدن كبيرة في بلاد أخرى، ولن تصادف بين المارة على بعد الكيلو مترات من يقول لك: من أحمد فؤاد نجم؟ أو حتى من يقول لك إنه لا يعرف أين يقيم، وعندما تصل، لن تعرف جار نجم من زائره، ولن تعرف إن كان طعامك وشرابك يصعد إليك من بيت نجم أو من بيت أي جار، إلى حيث تجلس على سطح البناية وسط بشر متنوعين لن يجمعهم إلا نجم!
‘ ‘ ‘
هل مات أحمد فؤاد نجم حقًا؟ وكيف يموت من دون أن يخلد رحيل مانديلا في الذاكرة العربية مثلما فعل من قبل مع جيفارًا؟!
لم تزل صيحة نجم ‘جيفارا مات’ تتردد في سهرات الحنين العربية، وكان عليه ألا يسبق مانديلا، وأن يرثيه لأنه إفريقي مثله، ولأنه يشبهه في وجه مهم من وجوهه.
ارتفع مانديلا على مشاعر الانتقام وأحب أعداءه، محققًا وصية المسيح التي لم تتحقق إلا نادرًا عبر ألفي عام، وفعل نجم الأصعب: جعل أعداءه يحبونه.
كان بوسعه أن يعنف ضباط سجنه على قسوتهم فيستحون، وذلك تاريخ لم أره، لكنني رأيت في النضال المرير ضد مبارك وعصابة ابنه كيف كان وجود نجم على رأس مظاهرة يمثل أكبر الحرج للضباط المأمورين بالسحق.
ويبدو أن القدر لم يمهل المصريين فرصة الفرح بربيع 25 يناير، لا لشيء إلا لكي لا يحرم نجم من تصدر المظاهرات التي تدفأ بوجوده.
ـ ‘أبوس إيدك يا عم أحمد، تمشوا النهاردة، عندي أمر أبهدلكم’.
قال اللواء متوسلاً لنجم على رصيف ميدان طلعت حرب أثناء وقفة المثقفين، بينما كان ضابط آخر يقدم باعتدائه على بهاء طاهر دليلاً ملموسًا على مصداقية الرجاء.
العدوان على الكبار، محاولة لفتح مخيلة الشباب على ما ينتظرهم في هذه المناسبة، وعلى نجم أن يقدر حجم ما يمكن أن يقع، لكن عليه أيضًا أن يحقق هدف المظاهرة، وقد خرجت للتنديد بكشوف العذرية على فتيات الثورة.
أعطى نجم أذنه للضابط الكبير، الذي أخذ يشرح له حجم اعتزازه به، وأسبابه وبينها سبب شخصي، إذ كان أبوه من مريدي نجم والشيخ إمام، واصطحبه معه عندما كان طفلاً إلى غرفة نجم في حوش آدم ‘خوش قدم’!
‘ ‘ ‘
الآن، وقد صار الخبر حقيقة، لا مجال إلا للتسليم بهجرة العصفور، دونما حاجــــة إلى معرفة إن كان سيعود في فصل الدفء القادم أم لا، يكفي أنه موجود في مكان ما.
وقد كان جسد نجم يخف وينحف طوال السنوات الأخيرة استعدادًا لذلك الطــــــيران الذي لم يتأهب له أخلص أصدقائه، على الأقل وقد عاشوا بيقين أن الرجل الذي بدأ نضاله مع مظاهرات 1964 من حقه أن يرى مصر وقد بدأت المشي في الاتجاه السليم.
معجزات نجم الشاعر والمناضل كثيرة، أهمها قدرته الاحتفاظ بصفة ‘الشاعر الضد’ على الدوام، يحلق من ثورة إلى ثورة ومن احتجاج إلى احتجاج، ولم يجد نفسه متوافقًا مع أي نظام أو راضيًا عن أية مرحلة، وهل يجب أن يرضى الشعراء حتى عن مراحل وطنية بينما على الأرض كل هذه الأخطاء؟!
أغلب الظن أنهم لا يرضون، لكن بعضهم يتعب من التحليق في مرحلة من الرحلة فيحط هنا أو هناك متظاهرًا بالرضى، لكن نجم لم يكن يتعب أبدًا، لأنه لا ينظر إلا إلى الفقراء الذين لم يخرج من بينهم يومًا، ولا يرى حوله إلا هم والأرض التي أنجبتهم ليعيشوا وتعيش ملحمة الشباب الدائم.
في روما، ولأن الخبر تأكد، كان نجم، نجم أمسية احتضنتها الأكاديمية المصرية لأربعة من الشعراء المصريين المقيمين في العاصمة الإيطالية مساء أول من أمس (الخميس). وقف حشد المصريين والإيطاليين دقيقة حدادًا، ثم صدح الشيخ إمام بالكلمات ‘مصر يا امه يا بهية’ وقد كانت هذه الأغنية مع حائط الصواريخ الذي بناه الجنود بدمهم أهم مظاهر تجاوز نكسة حزيران يونيو 1967.
لم تغادر روح نجم سماء تلك الأمسية الإيطالية، ولن تغادر روحه سماء مصر، وسيشيب الزمن وتبقى قصائد نجم شابة، يغنيها المتطلعون إلى عدل لا يجيء.
أعدت إلي ياصديقي كل أشجان وأحزان لحظة الخبر …
ربنا يسامحك..
الله يرحمك ي عم أحمد
فعلا….. نجم صعد
الله يرحمك ي عم أحمد
فعلا….. نجم صعد