نجوت بهم غريقا

كانوا ينجون فأغرق بهم

أحزانهم برقابهم أجراس نحاس- بقايا رصاص الحرب- ميّالة للرنين الذي تأتي في أذياله الغيمة، لم يكونوا مراييع وهم يقتفون أثر الرعيان، لهم مراعٍ وثارات ووشم دمٍ على كلّ سهلٍ مروا به، وكلّ ماءٍ خائط غبوّا منه، وكلّ قربةٍ ملؤها الحسرات الزلال بدل الفرات، ولهم طرق دفوفٍ مقبلةٍ من بعيد، لا تنفع للموسيقى والمراثي العظيمة والمدائح، كانوا إذا أنشدوا، تلتّئم حولهم جنيات الخرب، صائدو الحكايات، الشعراء عازفو الربابة، ناقلو الرسائل بين القبائل، والعشاق الذين يثرون في الوهم، حيث ترقص النار، وتولم القصيدة ذبائح سمانٍ للضيف الغريب!
وإذا ما غادروا إلى شأنٍ أو مغامرةٍ، أو تداعوا إلى حفل الرصاص، فالتا من نحاسه، مغادرا حجرة النار، داخلا في الجسد الحي، يحدثون رنينا نشازا، يليق بالخارجين من حياةٍ إلى منفى! كنت الشاهد على غيابهم
الواحد المدلل الذي رسم ببكائه طريق عودتهم، وحين آمن برجوعهم، حفر لعينيه على طريق أول الواصلين، أنا الذي نجا من كلّ شرور نفسه والـ(طارئين) وأعمته هشاشته مع الذكريات مليئا بأخطائي، صغيرا جهة أخطائهم، أقرّ لهم بحصتي في النجاة غرقا.. ثمة مطر غامق يأتي، وستحدث السيول، وسيأتي الطوفان أخيرا، سيّالون إلى المرتقى، يحدونا صقر يصفق بجناحيه السموات، وإذ ما يوشك قاربنا على الغرق، يشير صقرنا إلى مرتفـــعٍ رجـــــراجٍ: أنْ ذا أمان للعابرين من ضــــفة الزوال إلى ضفة الملك!

كانوا أشباه يوسف ولهم بئرهم

من شدة ما ألفوا الموت، إذا جاؤوا البحر يدفعون قاربهم إلى موجه، كأنّهم يدفعون آلة الزمان إلى اللحظة الآتية اللاريب فيها، يتعاونون على اجتزاء الخوف بينهم، ظنّا أنّ لا شاطئ بعد هذا البحر الطويل و«ليلٍ كموج البحر أرخى عليّ سدوله/ بأنواع الهموم ليبتلي»، ولا شيء سوى الوحش الرابض على باب الحياة «يتمطىّ بصلبه ويردف إعجازا ناء بكلكل».
المسير إلى أرض الروم مشقة
روح الملوك وعزائمهم تخور في أجساد أصحابها وشكّهم بالنجاة
وطريق الرجوع إلى بيد الأهل، إلى ينابيعهم الغائرة، إلى قطعانهم النافقة، إلى السهول وسموات الطيور الحرّة، إلى الغيوم العسيرة بولادتها، هو رجوع إلى بئر يوسف، الأخوة أعطوا ظهورهم له، والسيّارة رأوا جادة، تجنبّهم أصوات من سكنوا القرارة ويئسوا من فحيح أرواحهم، ونعيب البوم على فتحة البئر الضيقة.
أكاد معهم أتلمّس جدران العميق الزلقة
معهم أرتقي سلّم الوحل وأسقط في الصفر
أنا الذي ربىّ حملا وديعا في داخله، حين الذين «الآخرون» يربون وحوشهم، ويشذبون مخالبها وأنيابها، ويختبرون جسارتها في اللحم الآدمي. فشلت، فشلت يا أبي، ونجح الآخرون.

خاضوا في دمي، رسموا في وحلي أشكالهم، وأخذوا شكل قلبي، ومضوا، أسمع نداءهم في الظلمات والأودية، أميّز صوتهم العذب من عواء الذئب والصدى، وأمسّ بروحي سعير تنهداتهم إذا ما خمشوا جدران البئر، واصفرّتْ السماء بأعينهم.

كانوا نحّاة وحلٍ وقلبي بيتهم

خاضوا في دمي، رسموا في وحلي أشكالهم، وأخذوا شكل قلبي، ومضوا، أسمع نداءهم في الظلمات والأودية، أميّز صوتهم العذب من عواء الذئب والصدى، وأمسّ بروحي سعير تنهداتهم إذا ما خمشوا جدران البئر، واصفرّتْ السماء بأعينهم.
لست الله، ولا نبيا يعد بالجنة، ولست حيوانا يهرق دمه ليأنس به صغاره، ولست ظلّا ولا شجرة ولا ساحرا، ولا أملك يومي، ولست هاوية، والوعود التي قطعتها نكثتها، وصرت واحدا فردا، ضعيفا، لي طياعة الماء، وهوان الوحل، أقول للذين آمنوا بي، وصدّقوا وميض النجاة: أنا مثلكم، أنا أنتم، وأتعلّق بقشة الأمل، القشة التي صارت سفينا مثقوبا، مثقلا بالرجاء!

كانوا زاجل البين وأنا الرسول الخطّأ

يمرقون في شخصك رسائلهم وعلى أولّ حاجزٍ يضحون بك يا كبش- قالها داخلي- ليس سواك يروي شهوة الجنود، حين كانوا ذوي شأنٍ وكنت أنت لا أحد، لا رتبة، لا صدر مجلسٍ، لا حكمة تنطق بها وتسمع من القوم! وكنت بسيطا، معميا على قلبك، وسعيدا بما أنت فيه من التضحيات ليسعد بك من نادوا في الجبال وردّت أصواتهم إليهم، وناديت لأجلهم يا حليم ويا غشيم، حتى ضاع صوتك في زحمة الصدى، وهدر دمه النبيل في الصحارى والسهول والشجر ورؤوس الطير.
كانوا مثلك جوّابي أراضٍ فقيرة الزروع، يمشون في جنازاتهم المهيبة كأنهم سواهم، نعوشهم مرفوعة على أكفهم وكف الأقدار، فإنْ مالت الريح مالوا وإذا استعرت النار في حصادهم يولمون للصدفة المقبلة خير دوابهم: خروفا لوجه الله إذا وقفت النار، نعجة حائل للعابر واليتيم والموعظة، جديا سمينا للذي يبشّر بمطرٍ قريبٍ، بعيرا صبورا للذي يحرث في الحكمة، ويعلّق في رقاب الأطفال تميمة الأمل، وأرضا واسعة، فضفاضة على الغريب، وضيقة على القريب، كانوا بنذورهم يريدون نجاة، وكنت بنذرك الوحيد الأحد تريد غرقا لتنجو من الحياة.

كنت- أحدكم- طيلة هذه الريح التي لا تميل إلّا بوجهي مهيض الجناح، مكسور الخاطر، ندّابا، أنقل إليّ الرسائل الخطأ!

٭ شاعر وناقد سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول دينا/ افروديتا الكعابنه:

    فقط نخاف من اليوم الاخر الذي وعد به الله .. فشعرنا للحظة بقرب موتنا واقتراب اجلنا,, فرجونا الله ان يغفر ذنوبنا , وننشر بعض الخير ليكون شاهدا عليهم بتقصيرهم ان قصروا فيكون سببا للنجاة لنا من الله وسببا لعذاب الرب بهم ان ظلموا وتكبروا وتجاهلوا احترام خلق الله من ارض وبشر ..
    ليسوا الاشطر فالذي يدخر عند الله لا يذل ,, والموت والحياة لا يكون الا بعد امر من الله اولا ..
    فسلام لكل ذكي او لا ينسى بانه مخلوق وسينتهي دوره وحياته وتكشف له الحقائق واعماله كاملا بعد موته ..
    ويا عذابه من يقتل انسانا لانه يدعوا للخير والاصلاح ارضاءا لاوامر الله وطاعة له وحبا لنبيه وكل انبياءه الذين حرموا الظلم والافساد والاستغلال بالرسالات وحثوا على طاعة الله والايمان به وتوحيده واحدا لا احد معه _وامرهم بنشر الخير والاعمال ..
    وكل هذا من القران ( وكيف كان عقاب الفاسدين والمجرمين والكفار بالارض الذين يقتلون الصالحين ! زالوا سريعا سواء من فوق الارض او من تحت الارض ومنهم من لقي حتفه بالبحر .. وهذا من علم الله بالقران فليتذكر او فليتناسى وليسكر بالحياة كل راسب عند الخالق الله رب السموات والارض وكل شيء وخالق الانسان وروحه ..

  2. يقول بنيان السلامة:

    الحكمة بين الله والرسول ووعد الغريق ونشوة القهر التي انتجت الحب من تحت ركام الظلم .

إشترك في قائمتنا البريدية