محفوظ والنقاش: بعيدا عن المذكرات قريبا من الحكاية

تستمر الحكاية في نشر ارتداداتها عن أوجه العالم المختلفة، تلتقي اهتزازات الحكي مع اهتزازات الواقع ليشكلا الهزة الجمالية للرواية، تلك كانت رغبة نجيب محفوظ، وهو يمتنع عن كتابة مذكراته، لكنه حقق رغبة رجاء النقاش في سرده حكاية عليه، ويبدو أن الحكاية مكرسة في خيال محفوظ كما الحبل السري الذي ربطه بأمه، فالبيولوجيا ليست كل شيء، الميثولوجيا أيضا تنتج حياة، بل تقدم تفسيرا لها، وعلاقته بأمه تكشف لوثة الحكي فيه، «كانت أمي سيدة أمية لا تقرأ ولا تكتب، ومع ذلك كنت أعتبرها مخزنا للثقافة الشعبية، تعشق سيدنا الحسين وتزوره باستمرار..» وكانت تزور أيضا المتحف وتقف عند المومياوات، وكانت تذهب لزيارة الآثار القبطية، كل هذا كان ينتقل إلى وعي الطفل نجيب عن طريق الحركة، ثم تتطور الحركة في الخيال الصغير إلى حكاية يرويها للطفل الذي كانه.
تجشم النقاش عناء تفريغ ذكريات نجيب وعرضها في كتاب «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» التي تشممْتُ فيها رائحة القاهرة القديمة، وعبق العتاقة والحياة البسيطة والمتشابكة في آن واحد، التي أنتجت الحارة والمدينة كإطار سردي لتقديم تاريخية فنية للحياة في مصر بتحولاتها وتلوناتها السياسية والثقافية والاقتصادية. لا يغامر النقاش في هذه التجربة مع نجيب من فراغ، بل يعود مفتشا في الذاكرة عن مُفعّل بدئي لها لتنطلق مشحونة بحب نجيب وعالمه الروائي، فيتذكر أنه قرأ نجيب أول مرة في 1949، كان في الخامسة عشرة من عمره آنذاك حين وقعت بين يديه «رادوبيس» بعدها أخذه عالم محفوظ السحري، هذه البداية كان لا بد منها كي يستطيع أن يمتلك جرأة السماع للحكاية في مسار حياة صاحب «نوبل» مسلحا بالسؤال القادر على افتكاك غوامض عالم نجيب الحكائية/السيرية، فكان أول أغسطس/آب 1990 موعد انطلاق الحكاية واستمرت إلى أواخر عام 1991، في مقهى صغير في ميدان التحرير، «علي بابا» الذي مرّ عليه رسام أوروبي بعد نيل نجيب نوبل وطلب رسمه، ولما أنجز الصورة أخذها صاحب المقهى ووضعها في إطار ثم علقها قريبا من المكان الذي كان يجلس فيه نجيب.
لم يعش نجيب محفوظ وحدة أو عزلة، بل بالعكس كان يميل إلى ربط الصداقات على غير ما يتبادر إلى بعض الأذهان، فأول مجموعة تشكلت هي «شلة العباسية» ويقول إن الرابط الأدبي ليس هو السبب في ظهورها، لكنه كان هو العامل الأساس في تشكل شلة «الحرافيش» التي يذكر أن الفنان أحمد مظهر هو من أطلق عليها هذا الاسم، وكان قد قرأه في أحد كتب الجبرتي، وهو ما يمكن أن يحيل إلى الثقل الثقافي للفنان المصري في ذلك الزمان، وأيضا الوزن المعنوي للشلة الأدبية، التي كان من بين روادها صلاح جاهين ومصطفى محمود اللذان لم يستمرا فيها.
يعترف نجيب محفوظ أنه أحب توفيق الحكيم وعلاقته به كانت وطيدة استمرت منذ اللقاء الأول في عام 1948 حتى آخر لقاء في المستشفى عام 1987، ولئن كان تعلق بطه حسين وتأثر بالعقاد إلا أنه ظل وفيا للحكيم، وكان العقاد سببا في معرفته به عن طريق مقال له حول «أهل الكهف». هذه العلاقة تكشف عمق الجانب الابداعي لدى نجيب، إذ أن طه حسين كان أكاديميا مفكرا، والعقاد كان أقرب إلى الموسوعي المفكر، أما توفيق الحكيم فكان يتميز بما يجذب نجيب من فورة الحكاية، فكان كاتب مسرحيات بارعا قرأ «زقاق المدق» في 1948 فطلب لقاء نجيب الذي يَفْصِل في ما أشيع عن الحكيم: «أما عن الحكايات الشهيرة عن بخله وعدائه للمرأة، فهي أقرب إلى الدعاية منها إلى الحقيقة». قرأ له نجيب «أهل الكهف» وتأثر بـ»عودة الروح». وكما أن نجيب يعترف بأن سيد قطب كان أول من كتب عنه، فإنه يعتبر أن شهرة الحكيم تعود إلى المقال الذي كتبه عنه طه حسين. رغم أن نجيب والعقاد كانا وفديين، إلا إنه أنكر عليه عصبيته وعدم تسامحه، وخصوصا عندما دخل في 1963 في معركة مع كاتب من سن أحفاده وهو رجاء النقاش، أيضا لم يعجبه هجومه الحاد على أحمد شوقي والمدرسة الكلاسيكية في الشعر. هذه العلاقات التي انبثقت عنها شبكة فرز وتمييز أدبية لدى نجيب محفوظ، كان لها أثر مهم في تشكيل عالم الرواية لديه، فشعرية السرد تمتح من عذوبة القصيدة الكلاسيكية العربية، وصراع الشخوص داخل المكون المكاني للحارة يجنح نحو اجتماعية تشاركية أو ديمقراطية اجتماعية تأخذ جذورها من الجانب التسامحي، الذي يغمر نجيب وليس متوفرا عند العقاد، كما أن اللمسة الوازنة في رواياته تأخذ من احتفالية طه حسين، إذا قرأ عملا يعجبه فكان «يطرب له ويتغنى به» وإن كان نجيب لا يعجبه هذا النقد التبجيلي، إلا أن أثر ذلك في رواياته يظهر في عفوية الشخوص، خصوصا في المرحلة الواقعية التي اهتمت بالحارة.
يشبه محفوظ المؤلف شخصية كمال عبد الجواد الورقي، يعترف بذلك، لكن ما معنى أن يدلي نجيب بهذه الفكرة في مذكراته المحكية؟ يأتي الحديث عن هذا التشابه عندما تطرق إلى علاقاته في الحب، لكن الاعتراف ينسحب على عموم شخصية كمال، وهو ما يعني أن الروائي لا تنقضي خيالات الأشياء المروية من كيانه لأنه يعايشها محاولا أن لا تفرض مساراتها عليه، لكي يستطيع في لحظة أخرى أن يلبسها ثوب شخصية أخرى. تظل الشخصية في خياله، يترصد تحولها الفجائي وتلك لحظة انبثاق شخصية أخرى.

بعد المرحلة التاريخية كتب نجيب الرواية الواقعية، وهي التي وجد فيها ذاته مندرجا في تاريخ الحارة، وتسلسلها الفني في الذاكرة المعيشية، المكان باعتباره ورطة الروائي التي لا فكاك منها سوى بالكتابة

تتداول العلاقات بين المبدعين بين الحميمية وشيئا من العدائية، ذلك أن يوسف إدريس عزا فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل إلى سعي الصهيونية العالمية لمنحه إياها لموقفه الإيجابي من معاهدة كامب ديفيد، وفند نجيب ذلك بأن العرب أعطوا للصهيونية حجما أكبر من حجمها الحقيقي، كما إنه يذكر رأي لويس عوض في «الثلاثية» وكيف أن نجيب أسقط كثيرا من «أحداث ثورة 1919 ولم يعطها حقها» وكان رده أن تناول أحداث ثورة 1919 هي «مهمة المؤرخ وليس الروائي» وكان مهتما بالخيط الروائي وليس التاريخي، ويقول إن لويس عوض افترض أن الثلاثية رواية عن ثورة 1919، «وهو افتراض لا أسامحه عليه، لأنه ناقد كبير» وهذه محنة النقد حينما يتصور الناقد آفاقا خارج النص، ويحاول أن يجد لها مبررا في النص، حينها سوف يلوي عنق هذا الأخير ليحقق افتراضه، فالأمر يبدو من البداهة بمكان بحيث يسهل لناقد مبتدئ أن يميز بين العمل التاريخي والعمل الفني، لأن ثورة 1919 كانت الإطار الذي بنى نجيب أحداث روايته داخله.
يذكر محفوظ عادته في الكتابة والقراءة، فأيام الوظيفة كان يعود إلى البيت بعد الظهر ينام قليلا ثم يجلس عند الساعة الرابعة للكتابة لمدة ثلاث ساعات وبعدها ثلاث ساعات للقراءة، وكتابة المسودة كان يجد فيها حرية وسرعة وتدفقا، و»السنة النجيبية» للكتابة تبدأ من أكتوبر/تشرين الأول وتنتهي في إبريل/نيسان، ويذكر أنه لم يقرأ كتابا مرتين سوى القرآن الكريم، لأن اهتمامه بالمطالعة في الآداب كان بعد تخرجه من الجامعة بسنتين، ولهذا كان عليه التهام كل ما يقع تحت يديه من كتب والوقت لا يكفيه.
لا تأتي الكتابة عفوا، إنها ليست افتعالا للحظة تلتقي فيها اليد بالقلم، هي هزة وجدانية تشمل الجسد كله ككيان عضوي ونفسي تدفعه إلى أن ينساق خلف اليد وهي تبحث عن القلم، ولحظة الإمساك به هي لحظة التدفق التخييلي بالنسبة للروائي الحقيقي، ولذلك فهو لا يصدر عن فراغ، يقدم نجيب ثلاثة عناصر كانت المصدر الذي يستقي منه أحداث رواياته وتشكيل عالم شخوصه، الوظيفة والمقهى والحارة، ويذكر أن شخصية واقعية ذكرها بالاسم في رواية «خان الخليلي» «أحمد عاكف» إضافة إلى عدة شخصيات ضمنها رواية «المرايا» ليس بأسمائها لكن من يدقق يعرف أن هذه السمات تنطبق على هذه الشخصية أو تلك، كما هو الحال بالنسبة لشخصية عبد الوهاب إسماعيل التي تتوافق سماتها وشخصية سيد قطب.
بعد المرحلة التاريخية كتب نجيب محفوظ الرواية الواقعية، وهي التي وجد فيها ذاته مندرجا في تاريخ الحارة، وتسلسلها الفني في الذاكرة المعيشية، المكان باعتباره ورطة الروائي التي لا فكاك منها سوى بالكتابة، لكنه يتذكر، بل يحتفظ بما أخبره به المازني من أن «هذا النوع من الأدب (الواقعي) يسبب لصاحبه مشاكل كثيرة» وطالبه بالحرص لأن الرواية في ذلك الوقت كان الشائع أنها اعترافات شخصية، فطه حسين كتب «الأيام» المازني «إبراهيم الكاتب» وهيكل كتب «زينب».. وهنا نتساءل هل كان المازني يريد إبعاد نجيب عن الرواية الواقعية؟ هذه العلاقة التي يذكرها نجيب جد مهمة بالنسبة للروائي الذي يتبع مخططه، ربما اللاواعي في كثير من الأحيان في رسم مساره الإبداعي، لأنه هو أعلم بما تحتويه خميرة تجربته وتطلعاته والمفاصل التي يجيد تحريكها دون أن يصيبها عطب، ولهذا اتبعت حياة نجيب الأدبية مسارا تنضبط على دقته الساعة، فالكتابة لها وقت وكذلك القراءة، المقهى له زمن وفنجان القهوة الذي لم يكن يشرب منه سوى كمية قليلة ثم يتركه ليندمج في طقس تأملي لمدة تفوق الساعتين، كما يخبر رجاء النقاش، هذه الدقة والاعتيادية المتواصلة هي التي أوصلت الـ«نجيب» إلى مصاف نوبل.

كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية