تتمحور العلاقات الإنسانية أساسا حول التطور. إذا لم يصاحب هذا التطور فهم لميكانيزمات تفاعله مع الوعي والعقل الإنسانيين، فقد لا يتوافق ورؤية الإنسان لفهم ذاته وواقعه ومجتمعه والعالم الذي ينتمي إليه، ومن هذا المنظور جاء هذا البحث: «نخب النظام الرقمي/ المرجعيات والفلسفة والتاريخ الاتصالي في السعودية» للباحث سعيد أحمد الدحيه الزهراني، كمحاولة لضبط وتخليق المفاهيم المتعلقة بـ»الوسيط الاتصالي الجديد» حيث أدرك الباحث أنه «تولدت ملامح رؤية تشير إلى أن الوسيط الاتصالي الجديد، مغاير إجمالا للقديم» وهي إشارة دالة إلى أن المفهوم الذي درج عليه التفكير الاتصالي القديم سيتغير حتما، لتتغير معه الرؤية للإنسان باعتباره ظاهرة فردية وجمعية تشتغل ضمن الفضاء الاتصالي الجديد.
يحدد الباحث ركائز النموذج الرقمي باعتباره «مستحدثا غير طبيعي، قائما على المعلومات وصناعة الذكاء» وفكرته «تتمثل في تحدي الإنسان وقيادته» وبالتالي، فإن طبيعة العالم الرقمي مُهمة في تحديد العلاقة بين الإنسان والفضاء الاتصالي الجديد، وكذلك التغير المجتمعي والنخب الفاعلة في النظام الرقمي «ومعالم التاريخ الرقمي في السعودية» جميعها يبدو أنها تتحكم في مفاصل البحث ذي الطبيعة الفلسفية التحليلية المنتِجة للمفاهيم والأفكار، لا لتؤثث الفراغ السائد في المجال، لكن لتُقحم عبرها العقل في عملية حوارية مواجهاتية تهدف إلى الاستمرار في تطوير ميكانيزمات إنتاج الأفكار.
دلالة العنوان
يبدو العنوان دالاً، باعتباره مُحددا مفهوماتيا: «نخب، مرجعيات، فلسفة، وتاريخ اتصالي» وهي عبارة عن مفاهيم يرتكز البحث فيها على المنحى الفلسفي لاعتبارات التحليل والتوليد والمناقشة، والبحث يعتمد هذا المنحى، بل يعمقه عن طريق مناقشة أفكار غيرية حول الموضوع، كمحاولة للوصول لفهم الظاهرة الاتصالية الجديدة. يجمع الباحث بين مصطلحي السلوك والاتصال «ومن ثم تشكيل مفهوم السلوك الاتصالي» لينفذ من خلال المعنى القار فيهما إلى العلاقة الوطيدة بينهما بعد تأكيد البعدين السيكولوجي والسوسيولوجي فيهما. فمن خلال جذري المصطلحين: سلك ووصل، يقف الباحث على الدلالة اللغوية في الجمع بينهما، «فكل سالك طريقا يروم الوصول، وكل وصول يشترط سلوك الطريق» ومنه نتبين مستويين للمعنى، مستوى الفعل ومستوى الأثر، وهو ما يرومه الباحث من فلسفة «السلوك الاتصالي» الذي لا يحدث فقط من خلال المظهر التواصلي، لكن يتشكل عند خلفيات المظهر التي تكشف قيام عالم حركي يهدف إلى التغيير النمطي لواقع تضبطه ثقافة وسلوك وسياسات معينة.
النخبة والأجيال الشبكية
يشكل الباحث من خلال منظومة مفاهيمية حول الغوص في معنى الجذرين اللغويين «سلك» و»وصل» علاقات لغوية تصب في بوتقة «المعنى» تكشف العديد من علاقات السلوك بالاتصال، ويبدو لي أنه يريد التركيز على العلاقة الأبرز في المنظومة الاتصالية الرقمية المتمثلة في الإنسان. ويوظف مفهوم «النخب» التي تتقاسم الفضاء الرقمي معتبرا أن «السلوك الرقمي» لديها يتحصل «عبر السلوك الجمعي بالممارسة» لكنه يعتبر أنها تخسر كثيرا نتيجة «التسليم بالمعطيات التلقائية» وهنا يقدم مفهوم «الأجيال الشبكية» القابضة على ناصية العالم الرقمي، لكن هنا بالنسبة للقارئ، قد لا يوافق الباحث على التفريق بين النخبة والجيل الشبكي لأن النخبة بقوة تعاملها داخل العالم الرقمي تتحول جيلا شبكيا متمكنا أو فاشلا، تلك مسألة أخرى.
يشكل الباحث من خلال منظومة مفاهيمية حول الغوص في معنى الجذرين اللغويين «سلك» و»وصل» علاقات لغوية تصب في بوتقة «المعنى» تكشف العديد من علاقات السلوك بالاتصال، ويبدو لي أنه يريد التركيز على العلاقة الأبرز في المنظومة الاتصالية الرقمية المتمثلة في الإنسان.
ويجذر مفهوم النخبة بإعادته إلى أصله الروماني حيث «النخبة الممتازة» وهي المنوط بها إدارة شؤون المدينة، ولتميزها كانت تبدو حليقة اللحية، فأدى ذلك إلى أن يجاريها المواطنون تقليدا لها، وهذا ما يجعل النخبة متميزة عن غيرها، لأنها تملك خصيصة التأثير، التفكير والقيادة، وضمن هذا المناخ نشأ مفهوم السياسة. ويحفر في هذا المفهوم ليصل إلى النخبة التقليدية، وأن الاتصال وتطور أدواته هو الأصل في تطور طبيعة النخبة، بل ليس هذا وحسب، لكن كانت كل مرحلة اتصالية تطيح بشكل النخبة الجارية لتبرز شكلا جديدا لها، فالقراءة مثلا أطاحت بالحكواتي، إلى أن حل العصر الرقمي فأزاح النخب بمفهومها التقليدي.
والباحث وهو ينضوي تحت لواء القراءة في الواقع الرقمي، إنما يفعل ذلك بعد أن أدرك حجم التحول الذي فرضه الواقع الافتراضي على الواقع الواقعي، فليس التحول المصطلحي سوى دال على مدى التحول في الذهن الذي ينتقل من واقع إلى واقع مختلف، ربما دون شعور بحركة الانتقال، فالواقع الافتراضي حوّل «الفاعل الاجتماعي» إلى «أنفورغ» أي «الذات الاتصالية حين تنضوي في منظومة تشاركية رقمية ما» والتحول في المفاهيم لا يعني فقط تحولا فكريا يساير تحول الفضاء من الاجتماعي إلى السيبرنيطيقي، بل يكشف عن الدرجة في التحول التي تهيمن على الوعي، فيتأسس الإنسان «سايبورغ» أي «الدرجة التي بلغها الإنسان من الالتصاق بالآلة، بحيث لا يمكن لحياته أن تستقيم دونها» والمعنى هنا يوحي بالقسرية، لأن الإنسان يفقد في ظل ارتباطه بالآلة بعضا من حريته، ويصبح مهيمنا عليه من خلال الحسابات الرقمية، التي توجه تفكيره نحو قيم الآلة بعيدا عن قيم الإنسان، إذ أصبحت المعلومة مهيمنة ويخضع لها الإنسان، وهنا نشأ «الأنفوسفير» أو «الغلاف المعلوماتي» وهو ما يحيل مفهوميا إلى المجتمع العولمي، الذي تذوب فيه المفاهيم التقليدية لصالح المفهوم الغالب المعلوماتي.
العقل الرقمي وطرائقه
يشير الباحث إلى عناصر شبكة التواصل الرقمية، التي تتكون من منصات الاتصالية الرقمية (الروابط) الذوات الاتصالية الرقمية المتشاركة (العقد) والمحتوى الاتصالي الرقمي (التدفقات) ومن هذه المعطيات التي تقدم في النهاية قاعدة بيانات عريضة تشكل العقل الرقمي، ويستفيد منها بضرورة الحال ما يمكن تسميته، مسايرة لما يحدث من تحولات بنيوية في السلوك والذهن العقلي المجتمعي الذي يذكرنا بما يمكن أن تتناساه الذاكرة الإنسانية لصالح الذاكرة الرقمية.
ضمن العلاقات القائمة بين عناصر شبكة التواصل الرقمية، تنبثق هوية «النظام الاتصالي الرقمي المتسارع» فتويتر يعتمد على «التدوين النصي المصغر (280 كلمة)» الإنستغرام على «التدوين المصور» والسناب شات على «التدوين المرئي» أو الفيديو والصورة، وبالتالي، فإننا أمام تغييرات جذرية في عالم التواصل، تؤثر في اللغة باعتبارها وسيلة التواصل، إذ أصبح «الإيموجي» أهم وأول وسيلة تترجم ما يود الأنفورغ التعبير عنه، دون استخدام الحرف، بل حتى الحرف أصبح خادما لشبكة التواصل الرقمية المتسارعة، فالاختزال هو ما يحكم التعبير داخل الفضاء الرقمي. لسنا بصدد تحول في المفاهيم فحسب، بل تحول مفاهيمي يؤثر في السلوك كيفما كانت طبيعته، وبالتالي، تستفرد الاتصالية الرقمية بالإنسان لتقولبه وفق معطياتها محولة إياه من العصر الاجتماعي بالمفهوم التواصلي الطبيعي إلى العصر الرقمي بالمعنى الاتصالي الآلي، وهو ما يجعل من عنصر «التدفق» فعلا مباغتا لا يمنح الأنفورغ فرصة للتواصل الحميمي مع الذات الاجتماعية، فالعصر الرقمي حولها إلى ذات اتصالية رقمية، لا تتكلم إلا بلغة المعلومة التي تنسف من الأساس الحميمية التواصلية، فالحرب أيضا تحولت من التقاء الذوات إلى «حرب المعلومات» ولهذا نلمس ذلك الشعور العميق بأزمة الإنسان، حين يحاول الباحث الانفراد بذاته خلال بحثه، مؤولا بعض دلالات العالم الرقمي لصالح الإحساس الإنساني، كتأويله للمعنى في تويتر، حيث «التغريد» من علامات العصفور، والإشارة إلى لون الطائر الأزرق هو غوص في عالم المشاعر الإنسانية. أيضا حين يرى أن «ومضة الوسيط الاتصالي الرقمي امتداد لحظي لانفعالات الإنسان ووجداناته ومشاعره وأحاسيسه وروحه» بما يضفي قليلا على عالم الاتصال الرقمي «الأداتي» البعيد عن القيم، نوع من «الإنسانية».
من أهم ما توصل إليه الباحث هو التحول في طبيعة اللغة، بل تعددها في استعمالية النخب، فمن «اللغة التراثية المنتفية» إلى «فصحى ميسرة مقبولة» إلى «شبكية عامة تحقق الاقتراب من الأجيال الرقمية».
غياب الإنسانية
لكن ما يؤكده الواقع أن العالم الرقمي أذاب الإنسان في دواليبه إلى درجة نسيانه لنفسه وتخليه عن إنسانيته في غمرة اندماجه في فضاء المعلومات المهيمن، وقصة جاستن ساكو، التي أوردها الباحث، تكشف عن تبلد المشاعر الرقمية، إذ غردت قبل إقلاع رحلتها: «أنا ذاهبة إلى افريقيا، متمنية ألا ألتقط مرض الإيدز من هناك، أنا لا أمزح أنا بيضاء البشرة» وإن كانت الردود منددة بالمنحى العنصري والاستهزائي في التغريدة، ما أدى إلى إقالتها من منصبها كمديرة الاتصالات في مجموعة «أنتر آكتيف» إلا أن التناسي القيمي في الوعي الرقمي المُجهز على روح الفاعل الإنساني/المجتمعي لا يمكن استبعاده من تأثيرات الأداة الرقمية المصمتة.
النخبة وتحولاتها
اتصل الباحث بعدد من قادة الرأي في مختلف المجالات في السعودية، وتواصل معهم وحصل منهم على موافقة خطية لقبولهم بتحليل محتواهم النصي في منصة التواصل تويتر، ومنهم الغذامي والبازعي وأحمد بن قاسم الغامدي وتركي الحمد وغيرهم، واعتمد ما سماه «نموذج التحليل الشبكي لحسابات النخب على شبكة تويتر» كمحاولة «لاستعادة الروح النقدية والحرة – والخلاقة – للبحث العلمي» وانتهت هذه الدراسة بعد فحص وقراءة وتحليل ونقد للمحتوى النصي إلى أن بيئة الاتصال الرقمي تعد بمنزلة نموذج حضاري وليس اتصاليا فقط، والتراجع النخبي التقليدي نتيجة للتمدد النخبي الحاصل مع الثورة الرقمية وامتداده إلى نخب رقمية جديدة، كما أنه أكد وجود «نخب ممتدة» ارتحلت إلى الرقمي من التقليدي، و»نخب منبتة» تشكلت في الحضن الرقموي واستطاعت حيازة الجدارة فيه، وهو ما جعلها تتفوق على بعض النخب الممتدة. لم تغفل الدراسة بروز مكون المشاهير والمؤثرين عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وأن المكون الأول يقدم محتوى ترفيهيا سطحيا استهلاكيا، ويقدم الثاني، محتوى ذا رسالة، ويتمتع بالانتشار.
يتنوع مفهوم المثقف العضوي الذي يتطيف عبر سلم العضوية من «المثقف العضوي الأدق تخصصا» و»المثقف العضوي الهجين» و»البراغماتي» وانتقال صفة «العضوية» من الفرد إلى الجماعة.
من أهم ما توصل إليه الباحث هو التحول في طبيعة اللغة، بل تعددها في استعمالية النخب، فمن «اللغة التراثية المنتفية» إلى «فصحى ميسرة مقبولة» إلى «شبكية عامة تحقق الاقتراب من الأجيال الرقمية». إن قراءة بعض ما توصل إليه البحث في التطرق إلى النخب السعودية من منظور مرجعي وفلسفي واتصالي تاريخي يحيل إلى بعض التعقيدات والمناطق شديدة الوعورة في إعادة تشكل الوعي بالذات في ذات الفرد العربي على العموم، فمفهومي النخبة الممتدة والمنبتة لا يعكس فقط مستويات طبيعة الوجود في الفضاء الرقمي، بل يكشف عن الصراع الدائر من أجل افتكاك الجدوى في الوجود والقيادة، أيضا على مستوى اللغة، نلمس حالة الإزاحة لما تربت عليه الذائقة العربية ويشكل أحد أعمدة وجوديتها المكرسة في التاريخ وإحلال مكون لغوي منبت الجذور غريب عن الذات.
لعلني قد فهمت القصد – تأويلا – من البحث كونه تنبيهيا مع كونه معرفيا، يعلق ناقوس الخطر للانتباه إلى الشخصية العربية داخل المعترك العولمي الرقمي، الذي تشتغل فيه تلك المصطلحات المُنتَجَة في سياقاتها وظروفها الخاصة، فنحن نقوم في هذا الفضاء قريبا من المفعول فيه نظرا لانعدام الوجود الحقيقي المؤسس لمنظومة الفعل الرقمي.
كاتب جزائري