نداء أوجلان: مآلات أثر بعد عين

حجم الخط
4

لا يستوي، بالطبع، أن يكون «حزب العمال الكردستاني»، الـPKK، هو الآمر بتنفيذ العملية الإرهابية في قلب إسطنبول، أو أن يكون أحد جيوب التنظيم قد بادر إليها بمعزل عن ستراتيجية استهداف عليا جديدة ضدّ أهداف مدنية تركية، أو أن تصحّ على أيّ نحو فرضيات تقول إنّ التفجير وأدوات تنفيذه نتاج نظرية مؤامرة من جانب أجهزة استخبارية داخل تركيا أو في محيطها الإقليمي. الفوارق هنا تتجاوز صحيح المنطق من عدمه، في مستوى أوّل، لتعبر مباشرة إلى مستوى ثانٍ أمتن منطقياً وأكثر استقراراً في شبكة الاعتبارات المعقدة التي تكتنف حاضر الحزب، غير المنفصل عن ماضيه القريب أو البعيد.
فهل انقضت سنوات كثيرة على ما سُمّي «دعوة تاريخية» أطلقها عبد الله أوجلان، الزعيم التاريخي لـ»العمال الكردستاني» من سجنه في جزيرة إمرالي؛ وتُلي نصّها على نحو طقسي واحتفالي أمام عشرات الآلاف من الأكراد الأتراك غصّ بهم منتزه نوروز في مدينة ديار بكر؟ كلا، بالطبع، إذْ لا يزيد عمر ذلك النداء عن 9 سنوات؛ تبدّلت خلالها أحول التنظيم ومساحات انتشاره العسكري وهيمنته السياسية في كلّ من تركيا وسوريا والعراق وإيران، من دون أن تتبدل جوهرياً وتناسبياً تكتيكات الحزب وقسط غير قليل من ستراتيجياته.
ففي مدينة الرقة السورية، بعد أن تحررت من الإرهاب الداعشي؛ وكذلك في جبال قنديل شمال العراق، حيث تتمركز نواة القيادات الميدانية للحزب؛ من اليسير أن يلاحظ المراقب غياب ترجمة نداء أوجلان على أرض الواقع، خاصة حين تكون أبرز صياغاته هذه المناشدة، على سبيل المثال: «فلتسكت المدافع، ولتنطق الأفكار». يسير، أيضاً، أن يستخلص المرء ذاته عقم البحث عن منعكسات واقعية لما تمخضت عنه مفاوضات جزيرة إمرالي بين السلطات التركية وأوجلان من خريطة طريق تتلمس حلّ المسألة الكردية في تركيا، وما اقترن بها من تدابير غير مسبوقة؛ مثل إلقاء السلاح، وانسحاب قرابة 2000 مقاتل من تركيا إلى جبال قنديل، وإحقاق حقوق الأكراد على نحو ملموس ونوعي…
وليس إفراطاً في تحكيم المنطق البارد، التاريخي والسياسي على حدّ سواء، أن كلّ وأيّ اتفاق تعاقدي بين الأكراد وأنظمة الشرق الأوسط، أو حتى القوى العظمى الإقليمية والدولية ذات الصلة، قابل لأن يُقرأ على هدي واقعة فارقة في تاريخ الـPKK  أقرب إلى محكّ قياسي: سنة 1998 حين رضخ نظام حافظ الأسد إلى الضغوط التركية وأبعد أوجلان خارج سوريا، بعد إقامة في كنف النظام امتدت 18 سنة. يومها غادر أوجلان إلى موسكو، قبيل الذهاب بمحض إرادته إلى العاصمة الإيطالية روما، حيث أطلق تصريحه الشهير: «الـ PKK حزب وُلد في تركيا، وتحوّل إلى منظمة في سوريا، وهو في طريقه لمغادرة موسكو… من أجل تأسيس دولة».
ولقد بدا، يومذاك، أنّ هذا الزعيم الحالم، الثائر، اللينيني، الغيفاري، و«يسوع الأكراد» كما أسمته صحيفة «لوموند» الفرنسية ذات مرّة… تناسى الحكمة الكردية الأعرق التي تقول إنّ الجبال وحدها صديقة الكردي؛ ولعله تغافل عامداً عن حقيقة أنّ تلك الجبال تنفكّ بين الحين والآخر عن الصداقة، فتنقلب إلى مقابر جماعية لأكراد قتلى على أيدي أعدائهم، أو جيرانهم، أو أبناء بلدهم، أو أبناء عمومتهم… سواء بسواء. وحين تمكنت الاستخبارات التركية من الإيقاع به، في نيروبي، فإنها لم تنجح لولا مساعدة مباشرة من الاستخبارات الإسرائيلية، واستخبارات غربية وشرقية وأفريقية أخرى.
«نضالنا لم يكن ضدّ أيّ عرق أو دين أو جماعة. نضالنا كان ضدّ كلّ أنواع الضغط والقهر. ونحن اليوم نستفيق على شرق أوسط جديد، وتركيا جديدة، ومستقبل جديد»، قال أوجلان في ندائه التاريخي ذاك؛ الذي من المحزن أنّ مآلاته، اليوم، تبدو أقرب إلى أثر بعد عين!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د.علوش:

    حمى الله تركيا من كلاب الشرق والغرب

    1. يقول د. حنتوش:

      وماذا عن ضحايا القصف التركي الهمجي والوحشي والإجرامي لسكان شمال سوريا من أكراد وعرب بالعشرات

  2. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي صبحي حديدي. أعتقد أن الخطأ الذي وقعت فيه ال PKK ومن يتبعه أنهم اعتقدوا مساعدة أمريكا سيتيح لهم الفرصة لبناء كردستان سوري كما كردستان العراق. لكن نظرة بسيطة للواقع الجغرافي والسكاني شمال سوريا (والسياسي أيضًا) وشمال العراق يبين بوضوح أن هذا الفارق كبير وواضح لكل من يعرف سوريا. نقطة أخرى أيضًا هي أن صداقتهم مع النظام السوري تسيء لهم أكثر مما تنفعهم ولا يبدو أنهم قادرين على تغليب العقل في هذا الأمر.

  3. يقول رضوان ابوعيسى:

    ارى انه لا بد للعودة الى كلام اوجلان وانهاء هذا الصراع التاريخي، اظن ان المسؤولين في البكك تجاوزوا استراتيجية اوجلان ظنا منهم ان الحرب السورية فتحت لهم بابا جديدا للاستقلال لكنهم اخطاؤوا ودفع الشعبين الكوردي والتركي ثمنا لهذا الخطأ وارجوا ان يتم تغيير هذه القيادة او تغيير مسارها!

إشترك في قائمتنا البريدية