كان طبيعياً، منذ ابتداء حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، أن تُستعاد قصيدة نزار قباني «الغاضبون»، المعروفة باسم أكثر شيوعاً هو «يا تلاميذ غزّة»؛ التي كتبها الشاعر بوحي من أجواء الانتفاضة الفلسطينية 1987، واندرجت ضمن ما بات يُصنّف تحت غرض القصيدة السياسية. ولم يكن أقلّ تشديداً على خطّ جوهري في إعادة استقبال القصيدة، أنها لا تمتدح شجاعة تلاميذ غزّة وأطفالها إلا على خلفية أولى هي الهمجية الإسرائيلية؛ وخلفية أخرى ثانية (ولعلها أشدّ حرارة وغضباً ونقمة) هي العجز العربي، على أصعدة الأنظمة والحكّام والأفراد، في آن معاً.
وكما هو معروف، تبدأ القصيدة هكذا: «يا تلاميذ غزّة علّمونا/ بعض ما عندكم فنحن نسينا/ علّمونا بأن نكون رجالاً/ فلدينا الرجال صاروا عجينا»، في هجاء لضمير المتكلم بصيغة الجمع، النائب عن جموع العرب؛ ثمّ تنتقل إلى إطراء ما يملك الأطفال من أسلحة مقاومة: «علّمونا كيف الحجارة تغدو/ بين أيدي الأطفال ماساً ثمينا/ كيف تغدو دراجة الطفل لغماً/ وشريط الحرير يغدو كمينا/ كيف مصاصة الحليب/ إذا ما اعتقلوها تحوّلت سكينا». يعود قباني إلى طراز آخر من هجاء الشخصية العربية، في مستوى الذات والجماعة معاً، على النحو المرير الذي سبق أن دشّنه في قصيدته الأشهر «هوامش على دفتر النكسة»، 1967؛ فيقول: «نحن موتى لا يملكون ضريحاً/ ويتامى لا يملكون عيونا/ قد لزمنا جحورنا/ وطلبنا منكمُ أن تقاتلوا التنّينا/ قد صغرنا أمامكم ألف قرن/ وكبرتم خلال شهرٍ قرونا (…) نحن آباؤكم فلا تشبهونا/ نحن أصنامكم فلا تعبدونا/ نتعاطى القات السياسي والقمع/ ونبني مقابراً وسجونا».
ويصعب أن يتشكك المرء في جبروت التأثير الذي تمارسه هذه السطور على بصيرة عربية راهنة، جَمْعية كما يتوجب التشديد، تتابع مشاهد الموت والجوع والعطش والمرض في القطاع عموماً، وعند الأطفال والتلامذة على وجه أخصّ؛ أو سطوة الإحساس، الجَمْعي هنا أيضاً، بما تستثيره القصيدة من أحاسيس العجز والشلل والعار؛ وما قدّ تحثّ عليه أيضاً من نزوع إلى جلد الذات يبادر الشاعر نفسه إلى تضخيمه، جرياً على مألوف عادته في غالبية قصائده السياسية، وتلك التي جمعها بنفسه تحت خانة «قصائد مغضوب عليها». وهو لم يتردد في تشجيع العربيّ على النأي عن الذات، وليس انتقادها أو حتى إنكارها فقط، حين هتف بقسوة لا تخفى: «إياكَ أن تقرأ حرفاً من كتابات العرب/ فحربهم إشاعة وسيفهم خشب/ وعشقهم خيانة ووعدهم كذب/ ليس في معاجم الأقوام/ قومٌ اسمهم عرب».
لكنّ إنصاف قباني، وهو الشاعر الكبير والصانع المعلّم الماهر، يقتضي السعي إلى تلمّس مقدار الحدّ الأدنى من وضع قصائده السياسية في سياقات تاريخية وسياسية واجتماعية؛ ولعلها وجهة أولى، بين أخرى متعددة، لتثمين ما انطوت عليه أيضاً من معطيات فنية عالية، ارتقى بعضها إلى إشاعة هذه السويّة العالية، أو تلك المتوسطة أو المتدنية، من مقترحات إدخال النقد الذاتي والسياسي إلى قصيدة اشتُهرت، في المقابل، بأنها رفيعة المراس في شعر الحبّ والغزل، عذرياً، رومانسياً كان أم حسياً غرائزياً. وقد تكون أولى الخطوات الإجرائية في هذا السبيل هي العودة إلى ما نظّر له قباني، شخصياً، بصدد هذا الطراز من الموضوعات الشعرية؛ خصوصاً في كتابه «قصّتي مع الشعر»، 1982.
ولقد رأى في الشعر 10 سمات، الثامنة بينها تقول إنّ وظيفة القصيدة «تحريضية» لا «توفيقية»، تشمل أيضاً «خلخلة العلاقات القائمة بين الإنسان والكون… لا تثبيتها… والمصالحة معها». السمة التاسعة هي أنّ الشعر من مواطني مدينة «لا»، وليس من مواطني مدينة «نعم»؛ أي أنه أساساً «عمل من أعمال المعارضة لا الموالاة.. ومن أعمال الرفض لا القبول»، وأية محاولة لتدجينه أو توظيفه، إنما تجعله «حصاناً في إسطبل السلطة»، و»كلب حراسة على باب السلطان». السمة العاشرة هي أنّ الشعر «برقية عنيفة، وحارقة، يرسلها الشاعر إلى العالم».
وفي أخذ هذه السمات على محمل حَرْفي (وتلك ممارسة مشروعة بأكثر من معنى ولأكثر من سبب)، فإنه يصبح من نافل القول إن قصائد قباني السياسية كانت بالفعل تحريضية، رافضة، عنيفة، حارقة؛ أخذت غالباً صيغة برقيات (غير وجيزة!) أرسلها الشاعر وهو يتميّز غيظاً، ووزّع عبر سطورها الإدانات المعممة ذات اليمين وذات الشمال، وذهب مراراً أبعد بكثير مما تسمح به نوبة غضب آدمية، أياً كانت آثارها الجوهرية والعميقة.
الإنصاف ذاته لا يصحّ أن يجبّ أسئلة أخرى، مثل التالية: هل نجحت قصائد قباني السياسية في الابتعاد عن أنساق التوفيق بين هجاء الذات والحاكم، والمصالحة معهما هنا وهناك؟ وهل تمكنت حقاً من «خلخلة العلاقات القائمة بين الإنسان والكون»، كما حلم الشاعر، أم مارست وجهة أخرى من تكريس بعضها؟ وهل شكّلت «عملاً من أعمال المعارضة»، كما أرادها قباني، بمعنى اقتراح حدس ما حول اليوم التالي للخراب، وليس الاكتفاء بقراءة تضاريس هذا الخراب؟
وأن تسير الإجابات بالنفي، هنا، أمر لا يطمس ذلك الجوهر الأبرز المتمثل في أنّ قصيدة «الغاضبون» تعاصر تلاميذ غزّة 2024، بعد انقضاء 37 سنة؛ فكأنما لم تُرفع الأقلام، ولم تجفّ الصحف!