الخبر الملك الذي اعتلى عرش وسائل الإعلام على امتداد السماوات وأراضيها كان مجدداً تجوال ذات الملك كوفيد التاسع عشر حول العالم والإعلان عن دخوله الأيّام القليلة الماضية ما يمكن اعتباره “موجة ثالثة” مسّت عديد دول الغرب على جانبي الأطلسي من بريطانيا وأوروبا إلى الولايات المتحدة. وبمعدّل يوميّ لمجموع الحالات الجديدة خلال هذا الأسبوع فإن هنالك حوالي 650 ألف إصابة تضاف إلى ملايين الحالات المسجّلة سابقاَ منها 423 ألف حالة يومياً في الولايات المتحدّة وحدها و29 ألف حالة في بريطانيا. وتمثّل هذه الأرقام حصّة غير متناسبة مع عدد السكان بالنسبة لانتشار الفيروس عالميّاً (ثلثي الحالات يتسبب بها 17% فقط من سكان العالم الأوّل)، ومصدر خطر متزايد على بقيّة شعوب العالم لا سيّما تلك غير المؤهلة صحيّاً واقتصاديّاً للتعامل مع كارثة بهذه السطوة. وبالفعل فإن فيروس كورونا بعد طفرته الأخيرة قد رُصد بعد أيّام قليلة من اكتشافه داخل بريطانيا في دول أخرى من أستراليا إلى كندا ومن الدّنمارك إلى لبنان ومن أيسلندا إلى هولندا، وهو ما استدعى أوسع مقاطعة جويّة وبريّة في التاريخ للمملكة المتحدّة، فأوقفت أكثر من خمسين دولة رحلات الطيران المباشر منها وإليها، فيما أغلقت فرنسا من جهتها منفذ بريطانيا البريّ الوحيد إلى العالم عبر القنال الإنجليزي.
كوفيد 19 في طبعة خاصة للأعياد
كانت الحكومة البريطانيّة قد عزمت تخفيف إجراءاتها الاحترازيّة المفروضة على السكان لإنقاذ موسم الأعياد – الكريسماس ورأس السنّة – سواء تجاريّاً، أو من الناحية العاطفيّة والإنسانيّة، وهي قبل ذلك أصرّت على إبقاء المدارس والجامعات مفتوحة كالمعتاد طوال الفصل الدراسيّ الحالي. إلا أن طبعة جديدة من كوفيد 19 (سميّت ب B.1.1.7) بدا أنّها تنتشر بأسرع من الإصدارات القديمة – إذ مثلّت، 62% من الإصابات الجديدة داخل لندن الأسبوع المنتهي في 9 ديسمبر / كانون أوّل، بعد أن كانت 28% أوائل نوفمبر/ تشرين الثاني – على نحو استدعى ظهور بوريس جونسون رئيس الوزراء على الهواء مباشرة للإعلان عن (إلغاء) عمليّ للأعياد – ربمّا لأوّل مرّة في تاريخ بريطانيا الحديث التي لم تتوقف عن الاحتفال بها حتى خلال أسوأ مراحل الحرب العالميّة الثانيّة عندما كانت العاصمة لندن ومدن أخرى تتعرض لزيارات يوميّة من القاصفات الألمانيّة.
وبحسب الصحافة المحليّة فقد تراكمت لدى السّلطات البريطانيّة المعطيات عن حدوث عدد كبير بشكل استثنائي من الطفرات على كوفيد 19- ثلاثة وعشرون منها إلى الآن، ستة فقط صامتة (أي أنّها لا تحدث فرقاً جذرياً في التكوين النهائي للفيروس) -، وأن بعض الطفرات غير الصامتة الـ 17 تجعلها أفعل في إصابة الخلايا، والتهرب من الأجسام المضادة التي يولّدها الجهاز المناعي للإنسان. والجليّ أن المصابين بطبعة الأعياد هذه من كوفيد – 19 لديهم أحمال فيروسية أعلى – أي لديهم جزيئات فيروسات أكثر في مسحات الحلق والأنف – من الأشخاص المصابين بالفيروس الأصلي وبالتالي إمكانيّة أكبر لنشر العدوى.
ليس مجرّد رشح عابر
مع أن نسب الوفيّات إلى المصابين ب”كوفيد-19″ ما تزال أقلّ بكثير منها في أوبئة أخرى خبرها البشر سابقاً – كما في الطاعون والملاريا والجدري والكوليرا – إلا أن تأثيره على المصابين به ليس مؤقتاً كما قد يتبادر لذهن الكثيرين. فهذا الفيروس اللّعين يتسبب بدمار شديد للأوعيّة الدمويّة يؤدي إلى حدوث تجلّطات وبالتالي فشل جزئي أو كليّ في أيّ من أعضاء الجسم بسبب عدم تدفق الدّم إليها بالشكل الكافي – وإن كان الجهاز التنفسي الأسرع بينها في إظهار عجزه أمام ذلك -. ولذا فحتى في حالة الشفاء من المرض ثمة آثار سلبيّة لا يمكن محوها، وتتسبب بإضعاف قدرة الجسد مستقبلاً على مقارعة أمراض أخرى قد يصاب بها. وإذا ربطنا ذلك بحقيقة سجّلتها الأرقام الرسميّة في بريطانيا والولايات المتحدة عن تضاعف الإصابات والوفيّات ب”كوفيد – 19″ بين الأقليّات العرقيّة والفقراء الملونين والمهاجرين مقارنة بالمجموعة البيضاء أربعة أضعاف على الأقلّ فإن ذلك يعني حكماً بموت بطىء على الجهات الأضعف اجتماعياً واقتصاديّاً في المجتمعات وتكريساً للانقسامات العرقيّة والطبقيّة بجدران من المرض وضعف القدرة على مقاومة أوبئة مستقبليّة.
بين نموذج الصين ونموذج بريطانيا: عن الموت القادم من الغرب
يحدث هذا كلّه في الوقت الذي نقلت الشاشات احتفالات الصينيين في إقليم هوبي – مكان اكتشاف فيروس كورونا لأوّل مرّة – بمرور عام على انتهاء الكابوس وتحوله إلى مجرّد نبضة عابرة في تاريخ الصين المديد. فيما نجحت أمم صغيرة مثل كوبا وفيتنام وكوريا ونيوزلندا في محاصرة الوباء وتقليل عدد الإصابات إلى حد أدنى يسهل نسبياً التعامل معه. ولعل ذلك يدفع للتساؤل عن سرّ نجاح الصين – القارة بعدد سكانها الهائل – ودول صغيرة ذات ظروف اقتصاديّة صعبة في وقف انتشار الوباء مقابل عجز دول الغرب العظمى عن ذلك، وبالتحديد بريطانيا حيث البلد جزيرة ثريّة كان يمكن عزلها بسهولة بالغة وتسخير الإمكانات الطبيّة المتقدمة عندها للقضاء على الوباء في مهده.
والواضح أن فشل النموذج البريطاني مقارنة بالنّجاح التام للنموذج الصيني ليس من قبيل الصدفة. فالصين سارعت بدون تردد إلى اتخاذ تدابير مسؤولة وعلميّة حاسمة شملت الإغلاقات الشديدة (بما في ذلك حظر السفر) ووقف التدريس الحضوريّ وحظر أنشطة الأعمال غير الأساسيّة مع توفير أنظمة فعالة للاختبار والتعقب والعزل، بينما ذهبت سياسات الحكومة البريطانية إلى التفنن في تخفيف القيود، والتردد المتكرر في تطبيق العزل وإبقاء قطاعات واسعة من أنظمة العمل والنقل والتعليم قيد التشغيل لحماية الدورة الاقتصادية على نحو أدى إلى انتشار كارثيّ للفيروس وما ترتب عليه من وفيّات لا داع لها – حوالي سبعون ألفاً حتى الآن -، وكذلك توفير البيئة اللازمة لحدوث الطفرة الجديدة، وهي تتحمل لذلك وحكومات الغرب الأخرى المسؤولية الأخلاقيّة – وربمّا القانونيّة – الكاملة عن تفاقم الحالات الجديدة والضغط الهائل على المستشفيات والوفيّات التي أعقبت وتعقب ذلك.
قرارات محليّة، جرائم عالميّة
لكن الأمر ما عاد يتعلّق حصراً بما يحدث داخل حدود بريطانيا – أو الولايات المتحدة أو البرازيل وغيرها – وإنما مع وباء معولم ينتشر عبر أصقاع المعمورة دون اعتراف بالحدود، فإن هذه السياسات لم تعد تقتل البريطانيين والأمريكيين فحسب وإنما تشكّل خطراً ماحقاً على البشريّة عموماً، وقد تودي بحياة ملايين الأبرياء حول العالم، وربما تغييراً إيكولوجيّاً شاملاً لشكل الحياة البشريّة على الكوكب.
عربيّاً، فإن حكوماتنا – بغالبيتها – لا تبدو بوارد تبني سياسات عزل حاسمة وهي تكتفي بانتهاج سياسات جزئيّة الطابع على النموذج الغربي، مما يهدد باستمرار انتشار الوباء وتحوله تدريجياً إلى معضلة كبيرة في دول لا يمتلك أغلبها بنية تحتيّة صحيّة أو اقتصادية، ولعل المثال اللبناني الفاقع أكثر إيلاماً هنا، فنظرة سريعة على نشرات الأخبار اليوميّة في ذلك “اللبنان” تُظهر بوضوح مدى استمراريّة الأنشطة العامة وتفشي سلوك اللامبالاة العبثيّة بين المواطنين والمسؤولين وآخرها قرارات الحكومة المتخبطة بالسماح بالسهر في عيدي الميلاد ورأس السنة مشروطاً بترك الرقص (وهزّ الخصر) في المنزل وكأن إحياء الليل في علب ليل هذا البلد صار رغيف خبزٍ في فم جائع أو أن تنحي الخصر جانباً يمنح منعة ضد الفيروس في بلد صارت فايروساته تنسلّ كما الفضيحة بين الناس.
نافذة الوقت تضيق لحظيّاً أمام أي محاولة لوقف هذا الموت القادم من الغرب، وبدون تبن فوريّ لسياسة صفر “كوفيد – 19” وفق النموذج الصينيّ فإننا نخطو بعينين مفتوحتين نحو الهاوية.
إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن
النموذج الصيني للاسف غير قابل للنسخ والتكرار بسهولة، بسبب تباين الظروف والمؤسسات والموارد. في بعض الدول غير الاشتراكية، كانت نقاط الضعف الحرجة في مراكز بيروقراطية وليست في قرارات الفرد. وكما ان التسلطية ليست الحل فكذلك الليبرالية. فقد وجد بان الدول المغرقة في الفردية كالولايات المتحدة وبريطانيا هي الاسوء اداء في اختبار كورونا 2020. ما الحل اذن: فلسفة اجتماعية مستمدة من جذور البلد وتؤكد على التزام الفرد بالمسؤولية الاجتماعية والصالح العام، سواء اكان في القطاع العام او الخاص.
*حمى الله الجميع من شر الامراض كلها.
وخاصة الشبيح المرعب كورونا.
حسبنا الله ونعم الوكيل.