أثبتت الثلاث سنوات الماضية من عمر ثورات وحراكات الربيع العربي، ومن قبلها حقب قرون تاريخ العرب، أن مشكلة المشاكل كلٍّها هي الدولة العربية : أسس قيامها، شرعية ونظام حكمها، نوع وعلاقات مؤسسات ادارتها، مقدار التوازن بين مجتمعاتها وبين سلطات حكمها.
بسبب وجود نواقص في كل تلك الجوانب من تركيبة الدولة العربية أصبحت دولة تستعصي على الإصلاح التدريجي المعقول وتتخبَّط في التعامل مع إنفجار الثورات أو الحراكات الكبرى في بداياتها، وبالتالي تصَّر على إيقاف وتجميد الزمن لتصل في النهاية إلى الفوضى والإنقسامات المفجعة وإمكانيات التَّلاشي كدولة.
أساس الإشكال يكمن أولاً في أن في بلاد العرب لدينا سلطات وليس دول بالمعنى المتعارف عليه. وهي سلطات تتمثَّل في أشكال كثيرة. فقد تكون سلطة عسكرية أو تكون أقلية مذهبية طائفية أو تكون قبلية متنفذة أو تكون حزباً قائداً طليعياَ مهيمناً على كل ماعداه.
لقد تميًّز تاريخ تلك السلطات، في أي شكل تمظهرت، بابتلاعها للدولة، بخيراتها المادية والمعنوية، وباستغلالها أبشع الإستغلال وبنهبها بصورة منهجية لا رحمة فيها. ثم قامت هذه الدولة، المسروقة الفاسدة، من خلال ممارسة الإستبداد، بابتلاع مجتمعها، بحيث لم يعد للمجتمع وجود فاعل قادر على مراقبة ومساءلة ممارسات وخطايا سلطات الدولة، التي هي في الغالب لديها مشاكل مع شرعيتها غير الديموقراطية.
مثل هكذا سلطات ما كان يمكن إلاً أن تبني دولة تسلطية تمارس الإستبداد التاريخي القديم ولكن بوسائل بيروقراطية عصرية من خلال تدخُّل وهيمنة سلطات الدولة على السياسة والإقتصاد والإعلام والثقافة، وبالتالي تجعل مجتمعاتها مجتمعات تابعة ضعيفة وذليلة لا حول لها ولا قوة.
الدولة العربية الحديثة إذن لا يمكن وصفها بالدولة المدنية، ذلك أن الدولة المدنية هي دولة الشعب الذي يسكنها، دولة المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات، المتساوين أمام قانون غير تمييزي عادل. وهي بالتالي دولة غير ديموقراطية، لا سياسياً ولا اقتصادياً ولا إجتماعياَ.
على ضوء تلك الخلفية للدولة العربية الحديثة، حيث تختصر الدولة في سلطة ويضمر المجتمع حتى التلاشي في الوجود الفاعل الحقيقي، يستطيع الإنسان أن يفهم ظاهرة تأرجح الحياة السياسية في الدولة العربية في الشكل والصورة، ولكن دائماً داخل إطار التسلط والإستبداد الذي لايختفي قط.
من هنا نستطيع أن نشخٍّص تاريخ هذه الدولة العربية الحديثة أو تلك، ولا تهمُ الأسماء. إنه عبارة عن تاريخ تأرجح من دولة تسلطية، بوسائل برلمانية ليبرالية مظهرية مزيَّفة، إلى تسلطية عسكرية، بشعارات قومية أو اشتراكية، إلى تسلطية، بخليط من القبضة الأمنية الحديدية وليبرالية برلمانية شكلية يسيطر عليها الحزب الواحد، إلى تسلطية دينية، بشعارات إسلامية لتغطية إنتهازية سياسية. وهذا التأرجح العبثي السطحي بين هذه الصور التسلطية يظلُّ يدور حول نفسه في حلقة مفرغة لا تخرج، كما ذكرنا، عن إطار النظام السياسي المستبد الفاسد.
والملاحظ أن هذا التأرجح يعتمد في الأساس على مبدأ الترضيات الفئوية، أحياناً ترضية العمال والفلاحين وأحياناً ترضية رجال الثروات والمال وأحياناً ترضية أتباع مذهب أو قبيلة وأحياناً بالطبع ترضية لقوى الخارج.
في جميع الأحوال تثبت الأيام أن الصورة الجديدة للحكم ليست أكثر من علاج مؤقت لا يلبث أن يفشل بسبب زيف الدواء أو بلادة الطبيب أو استمرار تفاقم المرض.
تلك الصور المتبدلة في مظهر الحكم في الدول العربية، من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، جسَد بأفضل الصور، ويا لسخرية القدر، قولاَ شهيراً لطاغية من طغاة القرن العشرين، جوزيف ستالين، الذي ينسب ّإليه قوله ‘بأن الدولة هي أداة في أيادي طبقة الحكم، تستعملها لكسر مقاومة كل أعداء طبقتها’. والعدو في الحالة العربية هو جموع الشعب، وهي تحاول أن يكون لها وجود وصوت وفعل في دولتها.
علاج داء الدولة العربية ذلك، المعقَد المتجَّذر في التاريخ والحاضر، لن يكون تواجد البطل الكاريزمي الذي يأتي ولا يأتي في مسرح حياة العرب، ولا الجيش الوطني المتحكًم في الحياة المدنية الذي اصبح ما في هذا البلد الا هذا الولد، ولا المباركة الخارجية المتقلًّبة في الأهواء التي تحجًّ إليها الركبان، ولا الإكتفاء بالحديث عن الشعارات القيمية الأخلاقية الإسلامية على أهميتها، ولا بالسقوط المعيب تحت أجنحة العولمة وإملاءاتها التي بعضها كارثي.
علاج الدًّاء ذاك أعقد من كل ذلك بكثير، وسنحاول مستقبلاً أن نتلمَّس بعضاً من جوانبه.
هل عز فينا الرجل الرشيد ؟
لا يملك كل متتبع لما يجري في العالم العربي إلا أن يصاب بالحيرة والدهول , فالحرائق في كل مكان والقنابل تتقاطر في ربوعه كزخات المطر . والضحايا بالآلاف ومخيمات اللاجئين تتناسل كالفطر, والقاتل والمقتول منا . نستبسل في قطع رقاب إخواننا وأشقائنا . بأسنا بيننا شديد تحسب قلوبنا جمعيا ونحن شتى, نخرب بيوتنا بأيدينا ونقول إنها عورة . نقتل أطفالنا ونسائنا وشيوخنا بوحشية لم يعدها التتار في زمنهم .نبطش بدم بارد وعقل مغيب وحقد أعمى .
تكالب علينا القريب والبعيد حتى أصبحنا لقمة صائغة في قصاع بني أوى الغرب والشرق . ينهبون خيراتنا ومدخراتنا ونفطنا الذي يشرونه بثمن تراب الأرض . يبنون دولهم ونهدم دولنا , يأهلون شبابهم ونقتل شبابنا . يمهدون المستقبل لأطفالهم و نقصف أطفالنا بقنابلهم الفتاكة التي أدينا ثمنها من عرقنا ودمنا لتقصفنا وتخرب بيوتنا . تنازعنا ففت عضدنا , تفرقنا فوهن عظمنا, تشرذمنا فكثرت الشاه المقصية فينا لتصبح فريسة سهلة لذئاب الغرب الشرسة وعملائها .
فتبا لنفطنا و تبا لثرواتنا وتبا لموقعنا الاستراتيجي ولقناة سيويسنا وتبا لانظمتنا ولأحزابنا وبرلماناتنا وجمعياتنا ولكل عميل خسيس فينا ولكل شيء يسيل لعاب الغرب ويفتح شهيته ليتقرب ألينا ويتآمر علينا .
لكن الثروات نعمة في يد العقلاء الدين يحسنون صنعا ولا يفسدون . و هي في يد المفسدين العابثين نقمة .فان أصبح نفطنا وثرواتنا نقمه علينا فلان العيب فينا, تغاضينا عنه وأغمضنا الأعين حين فتح الآخرون أعينهم. لهونا حين جدوا سكرنا حيث صحوا . تقاعسنا حين عزموا . تفرقنا حين اجتمعوا . غرقت مراكبنا حين ملكنا رقابنا لكل مستبد, وطأطأنا رؤوسنا لكل مفسد . ووقفت عجلت سيرنا حين تواكلنا واعتمدنا على الغرب يصنع لنا ابسط حاجياتنا . وركنا إليهم والى عملائهم بيننا فاتوا بنياننا من القواعد ولم نشعر إلا والسقف يخر على رؤوسنا فهل من منقذ أم عز فينا الرجل الرشيد ؟
تتطور المجتمعات من البداوة، إلى الريف، وتنتهي بالمدنية، والمدينة، بحكم طابعها التجاري – الصناعي، ديناميكية ليبرالية.
كان العُرف أن تحكم المدينة ما حولها، وكما برزت عائلات الإقطاع في الأرياف، برزت عائلات الصناعة في المدن، وبتزاوج الأثنين، برزت طبقة النبلاء.
الحق يقال، دعم النبلاء التعليم، وقد أنتج ذلك طبقة جديدة، وسطى، إسمها البرجوازية، كان لها أن تقف مع المغمورين ضد النبلاء فيما بعد.
وقد إستمر الحال بتقسيماته ذاتها، حتى بعد سايكس-بيكو، خلال الحقب الملكية المختلفة، فكان النبلاء من الحاشية، والبرجوازيون من المعارضه، في شد ومد، تارة في البرلمان، وحيناً في الشوارع.
إنتهت هذه الهيكلية البرلمانية المؤسساتيه بعد الإنقلابات العسكريه، وتغلغل الفكر القومي، بصبغته الشيوعيه أو الرأسماليه، فطبقة النبلاء الجديدة، لم تخرج من رحم المدينه بل القرية، أما طبقة البرجوازية، فقد تحول من بقي منها للتجارة والشطارة، وها هي الطبقه الوسطى تكاد تختفي في مجتمعاتنا ككل.
هيكلية الدولة العربية على أغلبها، هي هيكلية قرية، فالرئيس كالعمدة، منصبه أبدي ويورث، وعائلة الرئيس هي العزوه ومناصبهم موجودة، وشيخ البلد يقبض من العمدة، يفتي لأجله، ويدعوا لأهله، وألف منافق يردد من بعده، آمين.
ولكم الإحترام على مقالكم القيم.
السلام عليكم أستاذنا العزيز
جئت متأحراً لقراة مقالك الجذّاب وطبعاً متطلّع الى مقالاتك المستقبلية… ولكنني أعتقد (والله تعالى أعلم) أن نصف المشكلة هي الالتزام بالتسمية…أي ” الدولة العربية ” …هل من الافضل أن نطوي هذه الصفحة الى الابد ؟؟؟؟ ونعوضها بالدول ” القطُرية ” التي يمكن أن تنضوي جميعها أو تجمعات حغرافية منها تحت أتحادات أو “متحدات” عربية ؟؟؟؟ وبذلك نحافظ على التأريخ “الذهبي” للدولة العربية القديمة مع أشكاليات التأريخ الحديث لدولنا العربية الحالية … وفي ذات الوقت نستوعب التنوع والتجديد في أوطاننا و شعوبنا.